كتابات

في رحيل ورثة الأنبياء

بقلم الدكتور فحي ابو الورد

وقفت على قائمة بأسماء خمسة وثلاثين عالماً من علماء سوريا وحدها ، فقدتهم الأمة فى مسيرتها إلى الله خلال السنوات الخمس الأخيرة ، من الفقهاء والمحدثين والمفسرين والقراء والمحققين ، كان آخرهم الفقيه المفسر الشيخ وهبة الزحيلى – رحمهم الله جميعا – ، وغيرهم كثيرون فى سائر بلاد العالم الإسلامى.

ثلة من الهداة رحلوا فارتحل معهم خير كثير ، وكوكبة من العلماء الربانيين واراهم الثرى ، فدفن بدفنهم علم غزير .

قال سعيد بن المسيب: شهدت جنازة زيد بن ثابت فلما دلى في قبره ، قال ابن عباس: “من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم ، فهكذا ذهاب العلم ، والله لقد دفن اليوم علم كثير”.

هؤلاء وأمثالهم من أوعية العلم هم بركة الأيام ، وحسنة الزمان ، وهبة السماء ، وبلسم الدنيا ، وأدلاء الخلق على ربهم ، ووسطاء الهدى بين السماء والأرض ، والنور الذى شق الطريق أمام الحيارى وسط دياجير الظلام ، وشموس المعرفة التى سطعت ؛ فبددت جهالات العقول ، وأنهار الهدى التى ارتوت بها – ومنها – قلوب الظمأى ، إنهم ورثة الأنبياء.

لاعجب – إذن – إذا كان الجهل قرين فقدهم ، والضلال نتيجة غيابهم ، فهم صمام الأمان للمجتمعات ، ومصابيح الهدى للأمم والشعوب .

هذا ما أشارت إليه السنة فى قول النبى صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه مسلم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص : ” إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا “.

فليس العلم فى مكتبات تشيد ، وإن كانت المكتبات وسائل لا بد منها ، وليس العلم فى مطبوعات تطبع ، وإن كانت المطبوعات طرائق ضرورية لتحصيله ، ولكن العلم فى همم طلابه ، المشمرين عن سواعد الجد فى تحصيله ، الحاوين له فى صدورهم ، الذين يحملونه فى قلوبهم أينما حلوا وارتحلوا، الذين يداومون على مطالعته ومذاكرته ليلا ونهارا ، وإلا فما أكثر المكتبات العامة التى تشتكى من قلة زائريها ، وما أكثر المكتبات الخاصة التى اتخذت مظهرا من مظاهر الزينة “والديكور” فى المنازل ، وما أجود المطبوعات التى علاها التراب ، زهدا وهجرا من مقتنيها ، وما أكثر المقتنيات – من نفائس الدرر ، وفرائد الجواهر- التى تضمها “فلاشة” باحث ، أو “ذاكرة ” كمبيوتر ، ولكن عز من يستفيد بها ، وكأنها تقص حكاية الحمار الذى يحمل أسفارا .

حكي أن ابن رشد الحفيد الفقيه المالكي: لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه ، وليلة بنائه على زوجته.

لقد حبب إليهم السهر بين الكتب ، وجعلت قرة أعينهم بعد الصلاة فى التأليف والتعليم والإرشاد والتنقيح ، أو كما قال قائلهم :

سهـري لتنقيـح العلوم ألذ لي *** من وصل غانية وطيب عنــاق

زانهم العلم والأدب ، فرفع الله قدرهم وأعلى شأنهم ، وإن لم يكن لهم نصيب من المال والمنصب ، حتى قال الشافعى عن نفسه :

علي ثياب لو يباع جميعـــها *** بفلس لكان الفلس منهن أكثــــرا

وفيهن نفس لو تقاس بمثلها *** نفوس الورى كانت أجل وأكبرا

لقد خاضوا معارك الدفاع عن الشريعة ، و تمعرت وجوههم لله ، ووقفوا أنفسهم لدعوة الإسلام ، وأخذوا بأيدى الناس إلى ربهم ، وعاشوا لله ، وماتوا فى سبيله .

نحزن لفراقهم ، وتلاحقهم الدعوات الصالحات فى قبورهم ، ويستفيد الأحياء من تراثهم ، وتشحذ سيرتهم ومسيرتهم همم الخلف من بعدهم ، و يستمر الخير فى أمة النبى صلى الله عليه وسلم ، ويحمل لواء العلم ومشاعل الدعوة ، العلماء والدعاة ، جيلا بعد جيلا، وتستمر مسيرة العلماء فى وراثة الأنبياء ، يصنعهم الله على عينه ، ويصطفيهم من خلقه ، ولن يخلو عصر من قائم لله بالحجة كما قال الفقهاء والأصوليون ، والأمة الشريفة لا بد فيها من سالك إلى الحق على واضح المحجة إلى أن يأتي أمر الله ، كما قال ابن دقيق العيد .

وهذا ما ما نوهت إليه السنة فى قول النبى صلى الله عليه وسلم: ” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين “.

صححه الألبانى فى مشكاة المصابيح .

رحم الله علماءنا ، وأخلفنا – وأخلف الأمة – فيهم خيرا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى