كتاباتكتابات مختارة

عن فوضى الإفتاء… لا تأخذوا ممَّن يجهل اللغة العربية!

عن فوضى الإفتاء… لا تأخذوا ممَّن يجهل اللغة العربية!

بقلم أحمد التلاوي

من بين التصورات الخاطئة على مستوى الصورة الذهنية لعوام المسلمين في عصرنا الحالي، التوصيف السياسي الخاطئ لقضية فوضى الإفتاء؛ فهي -في ظاهر الأمر– تعدّ قضيّةً سياسيةً تخص الأنظمة الحاكمة في العالم العربي وحدها، ضمن صراعها مع تيارات ما يُعرَف بالإسلام السياسي.

فهذه القضية –في حقيقة الأمر– واحدةٌ من أهم القضايا والأمور التي يجب أن تشغل بال العاملين في مساحات ومناطق العمل الإسلامي المختلفة.

فالفتوى هي واجهة الدين الأساسية، والتي من خلالها تخاطِب المسلم وغير المسلم، وتُعدّ طبيعة الفتاوى الصادرة في أي أمر من الأمور، وفي أية مسألة من المسائل الشرعية، من أهم آليات قبول أو عدم قبول غير المسلم للدخول في الدين الجديد .

ولا يعني ذلك أن نغيِّر في الأحكام الشرعية؛ لكي تلائم هوى المجتمع الذي نمارس فيه العمل الدعوي، وإنما يعني اتباع المنهج الذي أنزل اللهُ تعالى به القرآن الكريم، وتدرَّج به مع التعاليم في أركان الدين المختلفة، والذي بدأ بالأساسيات في العقيدة والتصورات التي ينبغي أن يكون عليها المسلم عن الدنيا، وعن الحياة والموت، وسائر هذه الأمور، قبل الانتقال إلى الأمور المتعلقة بالعبادات ثم المعاملات.

ولكن تلك ليست القضية الأهم هنا؛ فإن القضية -أو المشكلة- الأساسية التي نناقشها، تتعلق بمسألة ضبط الفتوى وأهميتها، ودور اللغة العربية -على وجه الخصوص- في ذلك.

وقبلاً نقول: لا شك في أن هناك جهد مبذولٌ -من جانب أهل العلم والمؤسسات الإسلامية الكبرى بطول العالم الإسلامي وعرضه- في تحديد الأحكام والقواعد، وفي ضبط الفتوى، ولكن القضية لا تكمن في توافر أو عدم توافر الفتاوى في المسائل والقضايا -وبالذات المستجدات- وإنما في شيوع فتاوى غير المتخصصين على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المجال الإعلامي العام، من دون ضوابط في مقابل عدم قدرة العلماء والمؤسسات على الوصول إلى الجمهور العام بالشكل الذي يحقق الكفاءة والفاعلية.

القضية لا تكمن في توافر أو عدم توافر الفتاوى في المسائل والقضايا -وبالذات المستجدات- وإنما في شيوع فتاوى غير المتخصصين على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المجال الإعلامي العام، من دون ضوابط في مقابل عدم قدرة العلماء والمؤسسات على الوصول إلى الجمهور العام بالشكل الذي يحقق الكفاءة والفاعلية

وهذا وضع طبيعي في ظل حالة السيولة والانفتاح؛ فلا يمكنك بحال “ضبط” المجال المتعلق بالنشر والتدوين.

وهذا الوضع كان قائماً وقت أن كانت القنوات الفضائية ورسائل البريد الإلكتروني، هي أرقى ما وصل إليه العلم من وسائل الميديا والاتصال، وكانت حكراً على المجتمعات المُصنَّفة كمجتمعات متقدمة، بل وعلى الصفوة فيها، فكيف يكون الحال عندما نتكلم عن عصر “السوشيال ميديا” و”الإنترنت الهوائي” والهواتف الذكية.

وبالتالي؛ فإن الحل الأجدى لهذه المشكلة، هو أننا نمنح المسلم أدوات وقياسات يحدد من خلالها ما هو سليم وما هو غير سليم من الفتاوى، وما هي المصادر التي يأخذ منها، وما ينبغي عليه أن يتركه، وكيف يميِّز بين ما هو مصدر حقيقي وما هو مصدر لا ينبغي تصنيفه أصلاً ضمن المصادر الفقهية والإفتائية.

الحل الأجدى لهذه المشكلة، هو أننا نمنح المسلم أدوات وقياسات يحدد من خلالها ما هو سليم وما هو غير سليم من الفتاوى، وما هي المصادر التي يأخذ منها، وما ينبغي عليه أن يتركه، وكيف يميِّز بين ما هو مصدر حقيقي وما هو مصدر لا ينبغي تصنيفه أصلاً ضمن المصادر الفقهية والإفتائية

ولعل في هذا الأمر، هناك معيار مهم للتمييز، ولكنه غائبٌ عن الكثيرين؛ لمصلحة معايير ومقاييس مهمة في هذا الصدد، وهو معيار مدى إتقان وتأهيل المفتي أو الداعية للغة العربية.

وهنا نشير إلى أن قضية الإفتاء وإبداء الرأي الشرعي في مسألة ما في الإسلام، ليست مهنة مَن لا مهنة له؛ لأنه يوجد نحو تسعة عشر علماً شرعيّاً ينبغي على المفتي أن يدرسها، ولكن في النهاية نحن نقف أمام أمرٍ واقع ينبغي لنا التعامل معه.

وللأسف، يتراجع في هذا المقام مُدرَكٌ مهم، وهو أن اللغة العربية وعلومها -بما في ذلك علوم البيان والبلاغة والصور التعبيرية- هي من أهم الأمور الواجب الإلمام بها؛ من أجل فهم وتفسير أهم مصدر للتشريع، وهو القرآن الكريم.

وفي حقيقة الأمر فإن كثيراً للغاية من الأخطاء التي تقع في تفسير النَّصِّ القرآني، تقع بسبب عدم الفهم الدقيق لمعاني الكلمات والتراكيب والصور البلاغية وغير ذلك، بما يشمل فهم البيان والدلالة بجانب النحو والصرف بطبيعة الحال.

وربما نجرؤ على القول إن جزءاً كبيراً من الأفكار التي أسست للتطرف والتشدد الديني الخاطئ، يأتي من هذه الناحية، بل إن عدم فهم بعض الأساليب اللغوية الواردة في كتاب الله تعالى، قاد إلى الإلحاد أو ترك الدين بزعم وجود تناقضات لفظية أو موضوعية مثلاً، بينما الفهم الصحيح للغة العربية ومعاني الكلمات وتراكيبها؛ يحل كل هذه المُلْتَبَسات.

إن جزءاً كبيراً من الأفكار التي أسست للتطرف والتشدد الديني الخاطئ، يأتي من هذه الناحية، بل إن عدم فهم بعض الأساليب اللغوية الواردة في كتاب الله تعالى، قاد إلى الإلحاد أو ترك الدين بزعم وجود تناقضات لفظية أو موضوعية مثلاً، بينما الفهم الصحيح للغة العربية ومعاني الكلمات وتراكيبها؛ يحل كل هذه المُلْتَبَسات

وفي الآيات التي ربط اللهُ تعالى فيها القرآن الكريم باللغة العربية، تجد إشارات واضحة إلى ذلك الأمر (ارتباط فهم القرآن الكريم باللسان العربي المبين) أي بفهم اللغة العربية فهماً صحيحاً.

فعلى سبيل المثال، يقول اللهُ تعالى: {وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النَّحل: 103]، ويقول أيضاً: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195].

كما وردت عبارة “قُرْآناً عَرَبِيّاً” سبع مرات، وعبارة “لِّسَاناً عَرَبِيّاً” مرَّة واحدة، في الآية 12 من سُورَة “الأحقاف”، وفي غالب هذه المرَّات رُبِط القرآن الكريم بوضوح بيان اللغة العربية، واللسان العربي.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن النص القرآني ليس جامداً كما تذهب بعض المدارس؛ لأن فيه الكثير من الصور البلاغية والتعبيرية التي تدخل في سياق المجاز ، مثل قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].

فهذه الأمة ليست أختاً لتلك بالمعنى القريب لكلمة “الأخت” أو مصطلح “الأخوَّة”، ولكن المتعمقين في فهم اللغة العربية وأساليبها، يأخذون هذا المعنى في الإطار البلاغي، مع الإشارة إلى دقة النص القرآني -في ذات الآن- في استخدام المصطلحات؛ فكلمة “الأخت” هنا تعني التشابه والاجتماع في أصل واحد، وهي تختلف تماماً عن كلمة “شقيق” التي لها معنىً محدد، وهو أخوَّة الميلاد من رحمٍ واحد وأبٍ واحد.

وتطرح هذه القضية بدورها مجموعة من الأمور المهمة، مثل: الدور الذي يقع على العلماء والفقهاء والمفسرين العرب في اتجاهَيْن.

الاتجاه الأول/ استعادة مساحات مفقودة في المجال الدعوي والإفتائي والعلمي في مختلف أوساط المسلمين، وأوساط الدعوة لغير المسلمين؛ لأن هناك فارقاً كبيراً بين إجادة نطق العربية من أجل تلاوة القرآن الكريم وأداء أركان الصلاة والحج وسائر العبادات التي تتطلب “معرفة” اللغة العربية نطقاً، وبين إجادتها فهماً .

الاتجاه الثاني/ تحسين معرفة المسلمين -غير العرب- باللغة العربية وقواعدها، بدءاً بالنحو والصرف، ووصولاً إلى الدلالي وعلوم البيان والبلاغة والصور التعبيرية كما تقدم.

كذلك فإن البرامج الإعلامية والتربوية المعمول بها في المحاضن الإسلامية المختلفة، حركات أو جامعات أو دور علم وغير ذلك، ينبغي أن تنتبه إلى ضرورة التأكيد على مركزية اللغة العربية بالنسبة للعلماء والمفتين، وغيرها من الفئات التي تتحرك في مجالات العمل الإسلامي المختلفة، وأنها ليست من نافل القول أو نافل المهارات وخاصتها، وإنما هي أمرٌ على أعظم قدر من الأهمية في فهم كتاب اللهِ تعالى، والذي هو أساس عقيدتنا وعبادتنا، وأساس الدين كله.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى