تقارير وإضاءات

على خطى السيسي.. ما أسباب فشل الاقتصاد السوداني؟

على خطى السيسي.. ما أسباب فشل الاقتصاد السوداني؟

إعداد إسماعيل عرفة

 “أكاد لا أصدق.. ما هذا الغلاء الذي لم تشهده بلادنا من قبل؟”

إسماعيل محمد، سائق تاكسي سوداني

   

تضخم بمستوى غير مسبوق، غلاء جنوني في الأسعار، تغيير حكومي جديد لمحاولة احتواء الأزمة، ثم تضخم مرة أخرى. صارت هذه التراتبية معتادة في الحياة اليومية للمواطن السوداني الذي يعيش في ظل دولة لا تبدو أنها تملك أي برنامج اقتصادي حقيقي ينتشل الدولة من دوامة الأزمات الاقتصادية التي تعصف بها منذ التسعينيات. تفاقمت الأزمة مؤخرا، مع السياسات الاقتصادية الجديدة للنظام السوداني، وهي السياسات التي دفعت المواطنة هدى عثمان إلى الاستقالة من عملها، قائلة بأنها “تتقاضى 1500 جنيها فقط (ما يوازي 30 دولارا حاليا) شهريا، لإعالة أسرتها، ولكن بعد الغلاء أصبح هذا المبلغ أقل من أن يغطي أي شيء، ولا يكاد يكفي لدفع الإيجار الشهري لمنزل متواضع”[1].

أمام التردي الاقتصادي الحاصل، لم يجد المواطن السوداني مخرجا سوى خفض عدد الوجبات اليومية، أو محاولة شراء السلع الغذائية في السوق السوداء، بلا جدوى. عبد الوهاب أحمد، واحد من مئات العمال في مصنع للطوب في حي الجريف بالخرطوم، لم يستطع بدوره أن يتحاشى آثار الأزمة الاقتصادية على حياته، ويقول: “بعض الناس لا يستطيعون إرسال أطفالهم إلى المدرسة، وبعضنا يأكل وجبة واحدة في اليوم”[2]. فما السياسات الاقتصادية الجديدة للنظام السوداني التي تسبّبت في هذا الغلاء غير المسبوق؟ وكيف يمكننا تفسير توجه النظام السوداني نحو الانفتاح الاقتصادي مع العالم وهو يعيش في الوقت ذاته تحت سقف العقوبات الأميركية المفروضة عليه؟

قصة العقوبات الأميركية

لم يكن يوم السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 2017م يوما عاديا بالنسبة للحكومة السودانية، فقد أصدرت وزارة الخارجية الأميركية في ذلك اليوم قرارا بإلغاء العقوبات الاقتصادية الأميركية التي فُرضت على السودان بين عامي 1997 و2006م باعتبارها دولة متهمة برعاية “الإرهاب”، كان القرار بمنزلة الخلاص من العذاب وبوابة الأمل للنظام السوداني، حيث إنه يُنهي الخنق القاتل المفروض على الدولة السودانية منذ عقود.

تعود بداية مسلسل العقوبات الأميركية على السودان إلى العام 1993م عندما أدرجت الولايات المتحدة الأميركية السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، بسبب استضافتها لزعيم تنظيم القاعدة حينذاك أسامة بن لادن. ورغم أن ابن لادن غادر السودان عام 1996م، فإن العقوبات استمرت ضد نظام البشير، بل وأعلنت الخارجية الأميركية في العام ذاته توقف العلاقات الدبلوماسية مع الخرطوم، ثم أوقفت عمل سفارتها بالكلية[3].

وفي عام 1997م، قرر الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، تجميد الأصول المالية للسودان، ومنع تصدير التكنولوجيا الأميركية له، وحظر الاستثمار أو التعاون الاقتصادي مع البلاد، فدخلت الدولة السودانية في دوامة من التيه الاقتصادي، حاولت فيها الحكومات المتتالية تدارك الأزمات الاقتصادية وفشلت الواحدة تلو الأخرى في احتواء الحصار المفروض، وعاش المواطن السوداني بين سندان الفشل الحكومي في إدارة ملف الاقتصاد ومطرقة الحصار الدولي المفروض عليه.

ورغم أن السودان لا تزال مدرجة على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، مما يعني عدم قدرتها على الاستفادة من المساعدات والاستثمارات الأجنبية مع حظر تجارتها في السلاح، فإنه من المتوقع أن يرفع القرار الحصار الاقتصادي والتجاري، ويعلّق إلغاء الأصول السودانية المجمدة في البنوك الدولية، بالإضافة إلى رفعه لأي قيود دولية مفروضة على المعاملات الاستثمارية والتجارية والمالية والبنكية[4].

لذا، اعتبر بعض المحللين أن قرار رفع الحظر بمنزلة بوابة الخلاص للاقتصاد الرأسمالي السوداني:[5] فهو سيسمح للبنوك الدولية بإجراء كافة التحويلات المالية مع السودان، وسيُمكّن المواطنين والشركات الأميركية من إجراء تحويلات مالية مع نظرائهم في السودان. كما أنه من المتوقع أن يتيح للمواطنين الأميركيين التصدير والاستيراد من السودان، الأمر الذي كان ممنوعا بموجب العقوبات. بالإضافة إلى تمريره لكافة التحويلات المالية المتعلقة بالصناعات النفطية أو البتروكيماوية في السودان والمحظورة سابقا، بما فيها خدمات الحقول النفطية، وخطوط النفط والغاز.

لكن حتى الآن ما زال المواطن السوداني يتقلّب بين نيران التضخم وزيادة الأسعار وسوء الأحوال المعيشية، ولم يتم تحقيق شيء واقعي بخصوص رفع العقوبات، وهو الأمر الذي يؤكّده حامد التيجاني، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأميركية بالقاهرة، قائلا بأن “المنافع المتوقعة من رفع العقوبات لم يتحقق منها شيء حتى الآن”[6]. فهل تستخدم الولايات المتحدة ورقة العقوبات للضغط على النظام السوداني من أجل تحقيق مزيد من “الإصلاحات”؟! وهل يمكن قراءة توصيات صندوق النقد الدولي كشروط لضمان رفع العقوبات فعليا عن السودان؟!

  

السودان وصندوق النقد الدولي

“حان الأوان لأن ُنراجع أنفسنا ونقول أخطأنا، لا سيما وأننا نعرف ضعفنا ولا نقدر على مناطحة أميركا.. إنه لا مانع لدينا في الانبطاح لأميركا!”

الطيب مصطفى، رئيس لجنة الإعلام بالبرلمان السوداني[7]

لا تستطيع السودان حاليا الاقتراض من صندوق الدولي حتى تحل أزمة السيولة والعملة الأجنبية لديها، نظرا لعجزها عن سداد ديونها السابقة، فقد وصل الدين الخارجي للدولة السودانية إلى 55 مليار دولار، مما يضع السودان في موقف ضعيف أمام صندوق النقد، ربما يدفعها إلى الرضوخ لشروط صندوق النقد من أجل إعادة جدولة الديون والسماح لها بالاقتراض لحل أزماتها[8].

ومن جهته، بادر صندوق النقد في ديسمبر/كانون الأول 2017م، أي بعد قرار رفع العقوبات الأميركية بشهرين فقط، بإخراج ورقة توصية للدولة السودانية، أوصى فيها نظام البشير باتباع مجموعة من الإصلاحات الهيكلية من أجل “استثمار فرصة رفع العقوبات الأميركية بأفضل شكل ممكن”. شملت توصيات الصندوق تعويم العملة السودانية حيث إن ذلك “عامل حيوي لاستقرار الاقتصاد السوداني” جنبا إلى جنب مع توحيد أسعار تبادل العملات في السوق السوداني. ووصّى الصندوق أيضا بإلغاء الدعم الحكومي للقمح والطاقة، بالإضافة إلى توسيع القاعدة الضريبية من أجل تحصيل المزيد من الأموال لخزانة الدولة.[9]

مضت الدولة السودانية على خطى التوصيات بخطوات بطيئة ومترددة، ترفع الدعم تارة ثم تعيده تارة أخرى، وتحرر سعر الصرف جزئيا مع عدم السيطرة الكاملة على السوق السوداء للعملات، ولا يزال برنامج النظام السوداني الاقتصادي غير واضح المعالم، مما دفع بصندوق النقد في يوليو/تموز 2018م إلى إرسال فريق مبعوث من الصندوق ليجري زيارة لمدة تسعة أيام إلى العاصمة السودانية الخرطوم، لا لشيء إلا لمتابعة مدى توافق السياسة الاقتصادية السودانية مع توصيات صندوق النقد، وقد صرح وزير المالية محمد عثمان الرقابي بأن الزيارة تأتي “في إطار الاستشارات المستمرة بين السودان وصندوق النقد”، ودعا الرقابي أعضاء الصندوق بصراحة إلى المساهمة في أعباء الإصلاحات الاقتصادية الجارية في السودان[10].

وبعدها، في أكتوبر/تشرين الأول 2018م، أكد وزير الدولة بالمالية السودانية مسلّم أحمد مسلّم أن السودان ماضية في تحقيق شروط صندوق النقد من أجل دمجها في الاقتصاد العالمي، قائلا بأن “الوفد السوداني لصندوق النقد في المؤتمر السنوي أكّد عزم السودان على استعادتها علاقاتها مع البنوك الدولية”، ولم يأتِ هذا الاستعداد بلا مقابل، فقد صرح مسلم أن صندوق النقد أخبره أنه مستعد كذلك لإقراض النظام السوداني لمساعدته في عملية النمو الاقتصادي[11].

لكن في سبتمبر/أيلول 2018م كان التصريح الأغرب والأكثر جرأة على الإطلاق لصاحبه رئيس الوزراء السوداني الجديد، معتز موسى، فقد صرح بشكل مثير للعجب بنية الحكومة لإجراء إصلاحات شاملة على الاقتصاد الوطني من خلال تنفيذ برنامج “صدمة قصيرة الأجل”، لمعالجة مشكلة التضخم وأسعار النقد الأجنبي، وهي الخطة المستمرة لعام 2020. وقال موسى إن أولويات الحكومة السودانية للفترة المقبلة: “هي تنفيذ برنامج الإصلاح الكلي والهيكلي والشامل للاقتصاد الوطني”، موضحا أنه “يبدأ ببرنامج أسماه صدمة قصيرة الأجل، بهدف معالجة اختلالات معاملات الطلب الكلي، أبرزها التضخم وسعر صرف العملة الوطنية[12].

تُمثّل هذه السلوكيات الاقتصادية، لا سيما التصريح الأخير، توجّها واضحا نحو السياسات النيولبيرالية التي نظر لها الاقتصادي ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاجة، وقام رونالد ريجان في الولايات ومارجريت تاتشر في بريطانيا بتبنيها لأول مرة في السبعينيات، فما روشتة الإصلاحات النيوليبرالية؟ وما أثرها إذا طُبّقت على الشعب السوداني؟

 

الاقتصادي ميلتون فريدمان (مواقع التواصل)

   

روشتة الفقر.. انطلاق الإصلاح الهيكلي

“منذ بداية العام 2018م والأمور تتجه إلى الأسوأ، لقد أصبحت الحياة مستحيلة لأن أسعار كل السلع تزداد بسرعة صاروخية في الأسواق”.

عبد الوهاب أحمد، عامل سوداني

استهدفت عملية الإصلاح الهيكلي التي وصّى بها صندوق النقد تقليل نفقات الحكومة من أجل الحدّ من المصروفات وسدّ عجز الموازنة العامة للدولة السودانية. وشملت قائمة الإصلاحات: تقزيم الجهاز البيروقراطي للدولة، وتحرير سعر الصرف الرسمي والجمركي، وخفض الدعم الحكومي على الكهرباء والقمح والوقود. وهو ما شرعت الحكومات السودانية واحدة تلو الأخرى في تنفيذه بالفعل.

ففي موازنة الدولة السودانية للعام 2018م التي أقرها البرلمان السوداني في ديسمبر/كانون الأول 2017م، أي بعد صدور توصيات صندوق النقد بأيام قليلة فقط، تضمنت الميزانية الجديدة زيادة سعر الدولار الرسمي والجمركي بنسبة 300% بصورة مفاجئة فوصل إلى 20 جنيها في موازنة 2018م مقابل 6.6 جنيهات فقط في موازنة 2017م. واستمرت القرارات الحكومية بزيادة سعر الدولار حتى أعلن البنك المركزي السوداني في أكتوبر/تشرين الأول 2018م عن سعر جديد قياسي للعملة المحلية عند مستوى 47.5 جنيه سوداني للدولار الواحد[13].

  

وعلى جهة أخرى تحاول الدولة السودانية السيطرة على السوق السوداء للعملات، بحيث لا تبقى إلا المصارف المركزية وسيلة لتبادل العملات في الدولة، لذلك صرح الرئيس السوداني عمر البشير بأنه لن يتهاون مع السوق السوداء، وقال: “إن تجار العملات أشبه بمخربي الاقتصاد الوطني ويجب أن نعاملهم كما نتعامل مع ممولي الإرهاب[14]“.

لكن تبدو عملية السيطرة هذه صعبة المنال في ظل وجود اقتصاد غير رسمي كبير في البلاد، الأمر الذي دفع رئيس شعبة مستوردي الأدوات الصحية بالغرفة التجارية السودانية (أهلي) إلى التحذير من انهيار وشيك لقطاع الاستيراد في البلاد سيؤدي إلى ندرة في توفير السلع وارتفاع أسعارها، وقال: “هنالك توقف كامل في حركة البيع، تزامنا مع الاضطرابات التي تشهدها أسعار الصرف بصورة يومية، ما يجعل من تحديد أسعار السلع مهمة شبه مستحيلة”[15].

ومن اللافت أن تعويم الجنيه السوداني يُعيد الأذهان إلى تعويم الجنيه المصري الذي سبق نظيره السوداني بسنة كاملة، لذا فقد اعتبر شريف خريبي، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية ومستثمر بالسودان، أن السلطات السودانية تحاول السير على خطى الإدارة المصرية، عندما اتجهت إلى اعتماد آلية لتحديد سعر الصرف، قريبة من تحرير سعر الجنيه في مصر[16].

واستكمالا لتنفيذ توصيات صندوق النقد، قامت الحكومة السودانية في يناير/كانون الثاني 2018م، برفع يدها تماما وألغت الدعم عن القمح نهائيا، وصرح مجدي ياسين وزير المالية أن الدولة “لن تتدخل في استيراد القمح، وستترك الأمر كله للقطاع الخاص”[17]. أغلقت أغلب المخابز أبوابها في الخرطوم، وتفشت ظاهرة الصفوف أمام المخابز، وازداد السخط الشعبي على النظام السوداني وخرج الشعب إلى الشوارع في احتجاجات مستمرة منذ بداية الشهر الحالي.

حاولت الحكومة إرجاع الدعم جزئيا إلى القمح من أجل تدارك الأزمة وتحجيم الاضطرابات، لكن المحلل الاقتصادي رامي عبد اللطيف شكك في قدرة الحكومة على دعم القمح لفترة طويلة، وتوقع أن تتراجع الحكومة عن كامل الدعم لسلعة القمح، ليس للظروف الاقتصادية الحالية وحسب، وإنما “لكون الخرطوم تطبق روشتة البنك الدولي في رفع الدعم عن كافة السلع والخدمات للنفاذ إلى القروض الميسرة”[18].

كما صرح البشير بعزمه على تخفيض الجهاز الإداري البيروقراطي للدولة بنسبة 34% وتخفيض عدد الحقائب الوزارية من 31 إلى 21 وزارة فقط. سبق هذا الإعلان ترحيل عدد من الممثلين الخارجيين للسودان بالفعل، إذ صدر قرار جمهوري في مايو/أيار 2018م يقضي بإعادة هيكلة التمثيل الخارجي عبر إغلاق 4 بعثات قنصلية، و13 ممثلية دبلوماسية للسودان في الخارج، بالإضافة إلى تقليل عدد الدبلوماسيين في سبع بعثات إلى شخص واحد فقط[19].

لم تسعف كافة هذه الإجراءات الحكومة السودانية، فقد قفز معدل التضخم إلى 68%[20] وهو رقم هائل مقارنة بمثيله في مصر، التي سبقت السودان في تطبيق سياسات النيوليبرالية بشكل راديكالي، حيث بلغ معدل التضخم في مصر 14.4% فقط[21].

تبدو إذن الحكومات السودانية متخبطة بلا برنامج واضح، وما زالت عجلة الغلاء والتضخم تدور بلا توقف، وتدور معها الاحتجاجات الشعبية، بلا أفق لأي تغيير اقتصادي وشيك، عدا تنفيذ التوصيات التي وصّى بها صندوق النقد الدولي، مما يعني مزيدا من الفقر للفقراء، ومزيدا من الغنى للأغنياء.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى