كتابات

علاقة السياسة الشرعية بغيرها من العلوم

بقلم د. أكرم الكساب

هناك علاقة وطيدة بين السياسة الشرعية وغيرها من العلوم والفنون، وقد يحدث الخلاف بين العلماء في بيان حقيقة العلاقة بين السياسة الشرعية وغيرها من العلوم، وهذا ما سأوضحه في النقاط التالية:

العلاقة بين السياسة الشرعية والفقه السياسي:

يعتبر الفقه السياسي: قواعد لاستنباط واختيار الأحكام المنضبطة المحققة للمصلحة فيما جدّ من حوادث.

وعرفه بعضهم بأنه: هو مجموعة الأحكام الشرعية التي تتناول الأحكام السياسية، كالحكم، وإدارة الدولة، والعلاقات الخارجية. وهذه الأحكام مستنبطة من مصادر الفقه الإسلامي، بالإضافة إلى الأعراف والتقاليد التي درجت عليها الدولة الإسلامية بما لا يتنافى والمبادىء الإسلامية .

وقد اعتبر القرضاوي الفقه السياسي والسياسة الشرعية شيئا واحدا فقال: الفقه السياسي أو السياسة الشرعية هو أحد جوانب فقهنا الإسلامي الواسع الذي يستوعب الحياة الإنسانية كلها .

لكن الأمر ليس كما قال شيخنا، إذ هناك اتفاق واختلاف، أو عموم وخصوص بين الفقه السياسي والسياسة الشرعية، ومن ثم فإن تداخلا كبيرا بين الفقه السياسي والسياسة الشرعية، وبيانه كالتالي:

1- إذا افترقا كان أحدهما هو الآخر يدل عليه ويحل محله.

2- إذا اجتمعا كان الفقه السياسي بمثابة الفهم الدقيق لقواعد الشرع والعملية الاستنباطية للواقعة الحادثة، وكانت السياسة الشرعية هي حسن التنفيذ والتطبيق لهذه القواعد.

3- الفقه السياسي سابق ربما للسياسة الشرعية، إذ هو محاولة لفهم ما يدور في الواقع ومحاولة تنزيل أحكام الشرع عليه.

4- وحيث إن الفقه السياسي أسبق؛ فهو أشبه بوضع القواعد والأسس، والسياسة الشرعية هي التطبيق العملي، أو هو الجانب النظري والسياسة الشرعية هي الجانب العملي لذاك التنظير.

العلاقة بين السياسة الشرعية والعمل السياسي:

أما العمل السياسي: فهو (مجمل النشاطات والمواقف والرؤى السياسية التي يتبناها الأفراد أو الجماعات تجاه الدول، أو الحكم ).

وهذا يعني أن العمل السياسي هو التطبيق للقواعد والضوابط التي يضعها الفقه السياسي، إنه حالة تابعة للفقه، أو ترجمة عملية له.

والفرق بين العمل السياسي والسياسة الشرعية: أن العمل السياسي رؤية خاصة لفرد أو جماعة أو حزب، بينما السياسة الشرعية رؤية عامة وترجمة لقواعد الفقه السياسي.

العلاقة بين السياسة الشرعية والفقه:

عرف العلماء الفقه بأن: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

ومن خلال التعريف السابق ندرك أن السياسة الشرعية جزء من الفقه الإسلامي، وهي في أحد تعريفاتها ومدلولاتها تتعلق بالعقوبات التي ينفذها الحاكم ويوقعها على المخطئ من الرعية. وحتى مع اتساع مدلول السياسة الشرعية حين شملت الدولة وشكلها، والحاكم وخصائصه، والقضاء ومتطلباته؛ مع هذا كله فهي جزء لا ينفك عن الفقه الإسلامي، فهي منه معينه تنهل، وإلى مصادره ترجع، وعلى أدلته الإجمالية والتفصيلية ترتكز فيما تتعرض له من أحداث.

كما أن كلا الأمرين (السياسة الشرعية والفقه) فيه الثابت والمتغير، وليس كما يقول البعض إن السياسة الشرعية تتعلق بالمتغير والفقه يتعلق بالثابت؛ ليس هذا بصحيح، فمن الثابت في السياسة الشرعية:

الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب تنصيب الحاكم. ومن الثابت في الفقه: فرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويمكن القول بأن الثابت في الفقه هي تلك الأصول الكلية التي جاء بها دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، والتي لا يمكن للأمة الخروج عنها مهما تتطورت أو تقدمت.

ومن المتغير في السياسة الشرعية: آلية اختيار الحاكم، واستحداث الانتخابات كوسيلة للاختيار. وأما المتغير في الفقه فما أكثره، وهو تلك الأحكام القائمة على أدلة ظنية الثبوت ظنية الدلالة أو كليهما، والعلماء يقررون أن هذه الدائرة هي الأوسع والأكثر.

إذاً فالسياسة الشرعية ليست قسيما للفقه، بل هي جزء منه، لا مانع أن تفرد لها الكتابات والتخصصات، وهذا شأن العديد من فروع الفقه، كالقضاء والفرائض والاقتصاد، ولا يقبل أن يقال:

1- الفقه يتعلق بالثابت والسياسة تتعلق بالمتغير.

2- الفقه يتعلق بالأفراد، والسياسة تتعلق بالحاكم.

3- الفقه يفتي فيه الفقيه والسياسة يقررها الحاكم.

4- الفقه يتعلق بأحكام الكتاب والسنة، والسياسة تتعلق بالعرف والمصلحة.

5- الفقه قسيم للسياسة الشرعية.

ولا شك أن اختلافا بين السياسة الشرعية والفقه قائم وحاصل، ومن ذلك:

1- الغالب على موضوعات السياسة الشرعية هو الجانب المتغير لا الثابت من وقائع الفقه وأحكامه، تلك الوقائع والأحكام التي لم يرد فيها نص، أو ربما ورد فيها نص لكن فيه اختيارت متعددة تعطي ولي الأمر (حاكما أو عالما) حق الاختيار مع ما يتناسب مع الواقع وما يترتب على ذلك من مآلات.

2- الفقه أعم من السياسة الشرعية، إذ أنه يشمل حياة الإنسان كلها حياته ومماته، بل ما قبل حياته جنينا وما بعد مماته ميتا، كما يشمل حياة الإنسان حاكما ومحكوما، ويتتدخل فيما بين العبد وربه من علاقة لضبطها وتزكيتها، وعلى هذا فالفقه ينقسم إلى:

أ‌- عبادات تضبط علاقة العبد بربه، كصلاة وزكاة وصيام وحج.

ب‌- معاملات تضبط علاقة العبد بغيره، ويغلب عليها الجانب الفردي، كبيع وشراء وكالة وكفالة ورهن وشراكة.

ت‌- أحكام الأسرة، وهي تلك الأحكام التي تضبط حياة المجتمع بصورة جماعية، كالزواج والطلاق والميراث…

ث‌- سياسة شرعية، وهي تلك الأحكام التي تضبط علاقة الحاكم بالمحكوم، والدول بغيرها من الدول.

وأما السياسة الشرعية فلا توصف بالشمول والعموم المطلق كما هو الحال في الفقه، وإن تدخلت فدخولها من باب الفقه لا من باب آخر مستقل عنه.

3- وتكون السياسة الشرعية أعم من الفقه من جهة أخرى، وهي كونها تشمل مسائل عملية ومسائل علمية (عقدية)، كوجوب التحاكم إلى شرع الله تعالى القائل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ }(الأنعام: (114)، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ }[المائدة: 49]، والقائل: {فلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، بينما الفقه لا يعمل إلا في دائرة المسائل العملية فقط.

العلاقة بين السياسة الشرعية وأصول الفقه:

هناك علاقة وثيقة بين السياسة الشرعية وأصول الفقه، وإذا كان أصول الفقه يبحث في دوائر أربعة هي: الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه ؛ فإن السياسة الشرعية باعتبارها جزء من الفقه –كما سبق- لا تخرج في مجمل علاقتها بالفقه عن علاقة الآخير بالسياسة الشرعية.

فالحكم في السياسة الشرعي مأخوذ مما اتفق عليه الأصوليون إما شرعي وإما وضعي، والشرعي من السياسة الشرعية ما بين واجب ومندوب ومباح وحرام ومكروه، والوضعي من من السياسة إما سبب أو شرط أو مانع، ومن خلال ذلك فمحكوم عليه بالصحة أو البطلان أو الفساد.

والمحكوم فيه في السياسة الشرعية هو أفعال المكلفين التي يتعلق بها الحكم التكليفي، ومن حيث كونها تدخل في مقدور الناس، أو لا تدخل، ومن حيث إنها حق لله تعالى أو حق للعباد.

وأما المحكوم عليه في السياسة الشرعية فهو هو المحكوم عليه في الفقه، هو الإنسان المكلف وأهيليته لأن تلزمه حقوق لغيره، أو تثبت له حقوق قبل غيره، وكونه صالح لأن يلتزم بهذه الحقو أم لا.

وأما الحاكم فإننا نؤكد على أن السياسة الشرعية غير قاصرة على ما لا نص فيه، وأنها تعالج ما لا نص فيه وتنفذ وتطبق ما جاء به النص من خلال تحقيق الشروط ومعرفة الموانع إما لإزالتها إذا أمكن أو البحث عن المصلحة إن عجز ولي الأمر (السلطان أو العالم) عن رفع هذا المانع، ولا شك أن السياسة الشرعية تعتمد على المصادر التشريعية (المتفق عليها والمختلف) التي اعتبرها الأصوليون حاكما على على احكام المكلفين.

ومما سبق تتضح لنا علاقة السياسة بأصول الفقه إذ الأصول بالنسبة للسياسة الشرعية بمثابة مصابيح هادية تنير لها الطريق، وإشارات واضحة تدل على الصواب من الأفعال والأقوال .

إن علم أصول الفقه هو أبو العلوم بالنسبة للعلوم التي تتعلق بأعمال المكلفين، وإذا كانت السياسة الشرعية –كما ذكرت سابقا- جزء من الفقه العام فلا شك أن أصول السياسة نابعة من أصول الفقه، ومن ثم إن علم أصول الفقه بالنسبة للسياسة الشرعية هو علم أصول السياسة الشرعية؛ نعم هو علم أصولها، إذ المسائل الخلافية، والنوازل المستجدة التي تنزل بالأمة في كل عصر لا يمكن أن يقول أحد فيها القول الفصل إلا إذا كان متضلعا بالفقه وأصوله.

كما ينبغي أن ندرك أن كتب السياسة الشرعية كان للأصوليين فيها حظا وافرا؛ ليس فقط من خلال بيان مصادر التشريع أو من خلال التقعيد لها، وإنما من خلال الكتابة الفقهية التي تبرز رأي الشرع من خلال تضلعهم في الأصول، وتشربهم للفقه عامة.

العلاقة بين الخلافة أو الإمامة والسياسة الشرعية؟

هناك ارتباط وثيق بين الخلافة أو الإمامة وبين السياسة الشرعية، وأعتقد أن خصوصا وعموما بين الخلافة والسياسة الشرعية، فإذا كانت الخلافة كما قال الماوردي: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ، فلا شك أنها مرتبطة في نجاحها وفشلها بالسياسة الشرعية، فما أخذ الحكام بالسياسة الشرعية إلا ونهضت أمتهم، وما تخلوا عنها إلا وحصل لهم التخلف والظلم والعسف والقهر والاستبداد.

ومن ثم فإن السياسة الشرعية بالنسبة للخلافة:

1- دستورها الذي يحمي عقائدها، ويصون عباداتها.

2- طريق نهضتها ووسيلة نجاحها.

3- آلية تضبط الخلافة لتنفيذ ما ثبت من الأحكام.

4- روحها الذي تحافظ عليها وتبقيها بعيدة عن الظلم والجور.

5- سبيل يحقق للناس مصالحهم، بدفع الشر وتحقيق الخير.

6- وسيلة لاستخلاص القرارت الناجحة فيما لم يرد به نص ولم يأت به الشرع.

7- قانونها الذي يحمي علاقتها بجيرانها مهما اختلف الأديان والأعراق والأشكال.

8- ميزانها الذي يصون الأقليات الدينية والعرقية التي تظلها الخلافة بظلالها الوارفة.

9- وعاؤها الذي يحوي جميع الأعراق والأجناس والألوان.

10- سياجها الذي يحمي الضعيف، إما لسنه كالطفل واليتيم، أو لطبيعته كالمرأة.

السياسة الشرعية والشريعة:

وقد سبق أن تحدثنا عن الشريعة الإسلامية، وإذا كانت الشريعة ما شرعه الله لعباده من الدين ، فإن السياسة الشرعية تعتبر جزء من هذه الشريعة، وقد صرّح بذلك ابن القيم وهو يتحدث عن السياسة العادلة فقال: تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها – يعني الشريعة- وفرع من فروعها .

ولهذا حرص العلماء على وصف السياسة المرتبطة بروح النصوص بأنها شرعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى