كتاباتكتابات مختارة

عائلات علمية مُسلمة: عبقريات لا تُنسى

عائلات علمية مُسلمة: عبقريات لا تُنسى

بقلم هاني سمير علي

للحياة العلمية في الحضارة الإسلامية، ظواهر مثيرة وشيقة، للمتابعين للتراث العملي الإسلامي، وهي وجود عائلات عُرفت بحب العلوم، ورّثت هذا الشغف جيلاً بعد جيل، كما يورث الأب لابنه أسرار الصنعة مخافة أن تندثر، مما جعل هذه العائلات ذات سمات خاصة في بناء الحضارة، فلم تكن مجرد عقول ناقلة بل عقول مبدعة ومنتجة، استطاعت أن تمهد الطريق لمن جاء من بعدها.

هذا الجانب من التاريخ الإسلامي الذي يمتاز بالشغف والاهتمام بالعلوم، خلال القرون الأولى من عُمر الدولة الإسلامية، يصفه جورج سارتون في كتابه «الشرق الأوسط في مؤلفات الأمريكيين»، أن العرب لم يستغلوا الآثار اليونانية فحسب، بل أغلب الظن أنهم لم يدركوا أول الأمر ما في تلك الآثار من القيمة العالية، لقد كانوا متشوقين لأن ينهلوا من كل مورد، ثم إنهم لم يتأخروا كثيراً قبل أن يتفهموا تلك المعرفة ويستنبطوا منها أشياء جديدة

بينما قال سليم الحسني، رئيس مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة بإنجلترا، في كتاب «ألف اختراع واختراع»، والذي يتناول العديد من الإسهامات العلمية والتكنولوجيا التي قدمها المسلون عبر سنوات: «إن أوائل المسلمين، رجالاً ونساءً، من رياضيين وفلكيين وكيميائيين وأطباء (..) عبَّروا عن تدينهم من خلال المثابرة في تقديم إسهامات نافعة للمجتمع والإنسانية جمعاء، وهم فعلوا ذلك بعقول منفتحة، وعملوا في كثير من الأحيان جنباً إلى جنب مع غير المسلمين بصورة إيجابية وبنّاءة».

لذلك سوف نقلب دفتر العائلات العلمية للتعرف على بعض العائلات العلمية وخصائصهم وإنجازاتهم العلمية التي أثرت في نهضة الحضارة الإنسانية.

بنو موسى

في حاضرة الخلافة العباسية، مدينة بغداد، أسس بيت الحكمة، ليكون مركزاً بحثياً مهماً، وفيه تربى وأبدع ثلاثة إخوة، خلال القرن الثالث الهجري، وتخصص كل منهم في فرع من فروع العلوم؛ وهم محمد في علم الفلك، وأحمد في الميكانيكا، والحسن في الرياضيات.

والدهم المنجم وعالم الفلك موسى بن شاكر، ولوفاته مبكراً، تولى رعاية الأبناء صديقه المأمون، خليفة المسلمين، فأرسلهم إلى بيت الحكمة، الذي منحهم فرصة لتلقي العلوم على يد أمهر المتخصصين، واكتساب الخبرات والمهارات التي يتسم بها العلماء، وقراءة ما وصل إلى السابقين من علوم.

 تتلمذوا على يد الفلكي والمنجم المعروف يحيى بن أبي منصور، وقد أتاح وجود بني موسى في بيت الحكمة كبيئة علمية بحتة فرصة ممتازة وغير عادية لهم من أجل تثقيف أنفسهم وإبراز مواهبهم العلمية. (1)

انخرط بنو موسى في تلك الحركة العلمية والفكرية، وشُجعوا على إظهار إبداعاتهم العلمية الكثيرة، وعلى المشاركة في مشروعات هندسية ومهمات علمية هادفة، كتكليفهم مع فريق علمي من قبل الخليفة المأمون بالتحري والتحقق من دقة قياس القدماء لمحيط الأرض. (2)

وقد توصلت الجماعة فعلاً إلى أن محيط الأرض يساوي 66 ميلاً عربياً، وهذا يعادل 47.356 كيلو متراً لمدار الأرض، وهذه النتيجة قريبة من الحقيقة إذ إن مدار الأرض الفعلي يعادل 40.000 كيلو متر تقريباً. (3)، وهم أول من حاول قياس محيط الأرض عن طريق زاوية الشمس. (4)

كما تم بناء مرصد كبير على طرف جسر بغداد، من أجل الدراسات والقياسات الفلكية، والتي كانت مرجعاً لمن جاء بعدهم، ولم يتوقف نشاطهم العلمي عند ذلك، بل اهتموا بالترجمة ونقل العلوم (5)، وتعاونوا في مهامهم البحثية لإتمام مشروعاتهم الهندسة والتطبيقية المهمة، ووضع مؤلفات علمية موقعة باسم فريقهم الملقب اختصاراً، بني موسى، ولهم أكثر من 20 مؤلفاً في مجالات الرياضيات والفلك والميكانيك، أشهرها كتاب الحيل. (6)

ويحتوي كتاب الحيل على جميع الاختراعات الميكانيكية التي بشرت بصناعة الروبوت، مثل قناديل ذات فتائل متحركة لا تنطفئ، وابتكار آلة ميكانيكية للري، ونوافير للمياه الصاعدة، وآلات منزلية، ولعب أطفال، وروافع مبنية على مبادئ ميكانيكية.

بنو زُهر

في دولة الأندلس، وخلال القرنين الخامس والسادس الهجريين، ظهرت أسرة رائدة، مولعة بحب الطب، هي أسرة بني زُهر، التي ورثت الطب أباً عن جد، ولقد أبدع أفراد هذه الأسرة في تشخيص الأمراض وطرق العلاج، وكتبوا العديد من المؤلفات الطبية، التي نهل منها العلماء والأطباء في العالمين الشرقي والغربي.

أما أسماء هذه الأسرة وترتيبها فهي:

-أبو مروان عبد الملك بن محمد بن زُهر (الجد).

-أبو العلاء بن زُهر (الاب).

-أبو مروان بن زُهر (الابن).

-أبو بكر بن زُهر (الحفيد). (7)

في بداية القرن الخامس الهجري، غادر أبو مروان الأندلس، وتنقل بين بلدان المشرق، وبخاصة القيروان ومصر التي تطبَّب بها زمناً طويلاً، ثم رجع إلى الأندلس وقصد مدينة (دانية)، فأكرمه ملكها إكراماً كثيراً وأمره أن يقيم عنده ففعل، وحظي في أيامه، واشتهر في دانية بالتقدم في صناعة الطب، وطار ذكره منها إلى أقطار الأندلس. (8)

وفي كتابه «المغرب عن محاسن أهل المغرب» يعتبر ابن حزم الأندلسي أن أبي العلاء من أفضل أطباء عصره، وذلك لتفوقه ونبوغه في التشخيص والعلاج، وألف كتاب «الأدوية المفردة». (9)

يقول جورج سارتون في كتابه «المدخل إلى تاريخ العلوم»: «ابن زهر (يقصد الابن) عُرِفَ عند الأوروبيين بِاسم Avenzoar، وإذا أطلق اسم ابن زُهر عليه وحده، وكان أعظم طبيب في عصره»، وقدَّم للمكتبة الطبية في الأندلس كتاب «التيسير في المداواة والتدبير» ووضع فيه ما وصل إليه من علوم الطب، وأثبت فيه أن التجربة وحدها هي التي تثبت الحقائق وتذهب البواطل في تشخيص الأمراض، كما ألف «كتاب الأغذية والأدوية» الخاص باستخدام الأغذية في علاج بعض الأمراض. (10)

ويُعد ابن زُهر (الابن) أول من اكتشف طفيل الجرب وسماه «حؤابة»، وأول من استخدم الحقن المغذية، وأول من استخدم أنبوبة مجوفة من القصدير لتغذية المصابين بعُسر البلع، وأول من شخَّص الأورام السرطانية بالمعدة، كما رصد في كبار السن ظاهرة الذهول ونسيان بعض الأشياء، فعرّفها بـ«الاختلال» التي تعرف حالياً بـ«ألزهايمر». (11)

مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي، بدأ الاهتمام بكتاب «التيسير» وترجمته لأكثر من لغة أجنبية ووضع كمقرر للتدريس في كليات الطب، هذا بخلاف الدراسات العلمية التي أجريت على الكتاب حتى القرن العشرين. (12)

أما زُهر (الحفيد) فكان جيد الفطرة حسن الرأي، كثير الاعتناء بصناعة الطب، وأسَّس مع أخته وابنتها، فريقاً طبياً مميزاً، واختصهما بعلاج النساء. (13)

بنو قرة

أثناء رحلات محمد بن موسى من بغداد إلى بلاد الروم، تعرف على شاب فصيحٍ من طائفة الصائبة في مدينة حران، يعرف باسم «ثابت بن قرة»، فصحبه إلى بيت الحكمة في بغداد، حيث تعلم منه ومن أخويه (بني موسى) الرياضيات والفلك.

وكتب في الطب والفلسفة والعقيدة، لكنه برع في الرياضيات والفلك، ووصفه المؤرخ الأوروبي ويل ديورانت قائلاً «إن العالم الإسلامي ثابت بن قرة هو العالم الذي أفاد علماء الغرب فيما بعد في تطبيقاتهم وأبحاثهم الرياضية في القرن السادس عشر والتي كانت أساساً لظهور الحضارة الغربية المعاصرة!»، لأنه كان حكيماً كاملاً وصنّف كتباً كثيرة في ضروب مختلفة من العلوم. (14-15)

أسهم ثابت في ترجمة العديد من الكتب إلى اللغة العربية، ومارس الطب وكان ماهراً في العلاج، وله مؤلفات في وجع المفاصل والنقرس والكُلى والمثانة (16)، أما في مجال الرياضيات فهو من الذين مهدوا تمهيداً علمياً لعلم التفاضل والتكامل ووضع قاعدة لإيجاد الأعداد المتحابة (17)، كما يُعد أبو الهندسة التحليلية (18)، وفي مجال الفلك استخرج حركة الشمس وحسب طول السنة النجمية فكان 365 يوماً وست ساعات وتسع دقائق وعشر ثوان، وهذه النتيجة تزيد على طول السنة الحقيقي بمقدار أقل من نصف ثانية. (19)

تلك الإسهامات والحياة العلمية لثابت بن قرة، أثرت في ابنه أبو سعيد سنان بن ثابت، الذي لحق بأبيه في تعلم العلوم، واستطاع أن يكون ماهراً في الطب، مما أهله لتطوير الطب، فجعل البيمارستانات (المستشفيات) ليست فقط مكاناً لعلاج المرضى، بل معاهد علمية لتعليم الطب، واختبار الأطباء قبل السماح لهم بممارسة الطب وعلاج المرضي، كما اهتم بالطب الوقائي من خلال نشر الوعي الصحي بين أفراد المجتمع.

كما اهتم بالأساليب العلمية التي تقوم على التجربة في تشخيص الداء ووصف الدواء، ووضع آداب وأخلاق لممارسة مهنة الطب، وبذلك استطاع أن يقنن مهنة الطب.

وأخيراً، يأتي في هذه الأسرة النابغة، أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة (الحفيد)، الذي سار على خطى أبيه وجده في نظره في الطب والفلسفة والهندسة، وكان بارعاً في الطب عالماً بأصوله، حلالاً للمشكلات من الكتب، وتولي البيمارستان (المستشفى) ببغداد. (20)

بجانب شهرته في الطب، نال شهرة في مجال التأليف عندما وضعَ كتاب «التاريخ» الذي رصد فيه تاريخ الدولة العباسية في الفترة ما بين 295 و363هـ، وقد أخذ عنه كثير من المؤرخين الذين جاءوا من بعده، ودوَّن فيه العديد من الأخبار الطبية الطريفة، مثل التصاق التوأم. (21)

حضارة منتجة

تلك النماذج من العقول المبدعة في عصور الحضارة الإسلامية، تؤكد اهتمام المسلمين بالترجمة والعلوم، واستكشاف العالم، والسعي نحو التطور الحضاري، ووضع أسس علمية في بناء الحضارة الإنسانية، مما يمثله من قيمة إيمانية، هذا إلى جانب التعاون والتشبيك فيما بين العلماء، بهدف تطوير وتبسيط العلوم، وتمهيد الطريق لمن سيأتي من بعدهم، حتى يستطيعوا أن يكملوا الطريق، وهذا ما حدث عندما اهتم الغرب بما وصل له العلماء المسلمون في بداية عصر النهضة، حيث وضعوا كل ما وصل إلى أيديهم قيد الدراسة حتى وصلوا لما وصول إليه.

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى