كتب وبحوث

دراسة: كيف كان اقتصاد المدينة تحت ظل حكم رسول الله ﷺ؟

 

إعداد د. ليلى حمدان

 

قرر الإسلام أصول الاقتصاد منذ بداية التشريع الإسلامي، وقدمت حياة النبي ﷺ نموذجًا حيًا عظيمًا لهذا التشريع استمر قاعدة أساسية لمنظومة الاقتصاد الإسلامي في مختلف مراحل الدول الإسلامية المتعاقبة إلى أن تلاشى مع حقبة الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين.

وقد أولى الإسلام أهمية بالغة لتنظيم العلاقات الاقتصادية، نبصر هذه العناية تتكرر مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي لخصت الأصول الاقتصادية بشكل يتناسب مع كل زمان ومكان.

ونحاول من خلال هذا الطرح استقراء ملامح النظام الاقتصادي الإسلامي في العصر النبوي من خلال التوجيهات الربانية والممارسة الواقعية. وتحديد أهم المكونات الاقتصادية للمجتمع المسلم آنذاك، وتفاعلها وترابطها مع سائر المكونات الأخرى في المجتمع والدولة. ولنتعلم كيف بدأ الاقتصاد الإسلامي منظمًا محكمًا فكان له أثره في التنمية والازدهار والقوة.

وجدير بالذكر وصف الباحثين لمهمة الاقتصاد في العهد النبوي على أنها مرحلة التكوين والإنشاء التي امتدت لعصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، حيث كانت الأولوية تحقيق العدالة الاجتماعية وتنمية الموارد.

تعريف الاقتصاد

الاقتصاد لغة: جاء في لسان العرب: “القصد استقامة الطريق، والقصد العدل، والقصد في الشيء خلاف الإفراط وهو ما بين الإسراف والتقتير، والقصد في المعيشة ألا يسرف ولا يقتر”.

أما الاقتصاد اصطلاحًا: فله عدة تعريفات نذكر منها: “أنه مجموعة الأصول العامة الاقتصادية التي نستخرجها من القرآن والسنة والبناء الاقتصادي الذي نقيمه على أساس تلك الأصول بحسب كل بيئة وكل عصر”. [1]

وفي تعريف آخر؛ بـ “أنه الذي يوجه النشاط الاقتصادي وينظمه وفقًا لأصول الإسلام وسياسته الاقتصادية”. [2] وتعريف ثالث له؛ “هو العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية فيما ينظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته”. [3]

تاريخ الاقتصاد الإسلامي

خلص بعض الباحثين من خلال استقراء الوضع الاقتصادي أو القوة والنفوذ السياسي على المستوى الكلي للأمة الإسلامية وتطوره في كل عصر، إلى أن تاريخ الاقتصاد الإسلامي يمكن تقسيمه على سبع مراحل -تم بذل الجهد في تحديدها لكنها قابلة للتغيير والاجتهاد [4] – وهي:

  1. مرحلة التكوين والإنشاء: وتبدأ من عهد النبوة وتنتهي بخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
  2. مرحلة النمو والاستقرار: ويسميها بعض الباحثين مرحلة النضج، وتشمل العصر الأموي والعصر العباسي الأول وبدايات العصر العباسي الثاني.
  3. مرحلة التدهور: ويسميها بعض الباحثين مرحلة الركود، استمرت ثلاثة قرون، وتشمل العصر العباسي الثاني ودول السلاطين.
  4. مرحلة النمو الجزئي: وتبدأ من عصور المماليك لحين تأسيس الدولة العثمانية.
  5. مرحلة الفتوة: امتدت إلى ثلاثة قرون وتشمل بدايات الدولة العثمانية وحتى عصر السلطان محمد القانوني الأول (926 – 974هـ).
  6. مرحلة الانهيار والتبعية للغرب: وهي مرحلة الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين في القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي).
  7. مرحلة التبعية للاقتصاد الغربي: وهي المرحلة الحالية تحت وقع الهيمنة الغربية والاحتلال غير المباشر لبلاد المسلمين.

المرحلة المكيّة: رصيد الانطلاقة

خرج النبي ﷺ في هذه المرحلة برصيد كبير من الخبرة والدراية بالتجارة والاقتصاد بدأ منذ نشأته في مكة وسط قبيلة قريش التي اشتهرت بتكافلها وحسن إدارتها لمعاملاتها المالية. فكان هذا الرصيد لبنة أساسية في إرساء قواعد الاقتصاد في المدينة، أين تأسست أول دولة للإسلام في التاريخ.

ومن يتأمل حياة النبي ﷺ منذ طفولته يبصر ذلك الارتباط المباشر بمجالات الاقتصاد التي عرفتها مكة؛ من الرعي إلى التجارة، حيث عمل النبي ﷺ في مهنة الرعي منذ طفولته وانخرط في التجارة منذ كان شابًا، حتى اشتهر بلقب الصادق الأمين لصدقه وأمانته ﷺ في المعاملات والتعاملات.

وكانت تنطلق من مكة رحلات تجارية دورية، تعرف برحلات الشتاء والصيف حيث تخرج القوافل صيفًا إلى الشام وشتاءً إلى اليمن بتوقيت يتناسب مع الظروف الجوية، وكانت هذه الرحلات بمثابة خط تجاري حيوي يزوّد مكة بالبضائع والمداخيل المالية، وقد ثبت خروج النبي ﷺ في هذه القوافل وعمره لم يتجاوز الثانية عشرة، حين كان في كفالة عمه أبي طالب، وسافر إلى الشام في الرحلة التي يذكر منها قصة الراهب “بحيرا”.

وخرج مرة أخرى ﷺ في تجارة السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها التي استأمنته على أموالها لما ذاع من صيت أمانته وصدقه في هذا المجال. وشهدت السيدة خديجة على ذلك بنفسها حين رجع النبي ﷺ بتجارتها وقد تضاعفت أرباحها بشكل لم يسبق له مثيل. وكان بعد إعجابها بسيد الخلق أجمعين، زواجها منه ﷺ.

وهكذا تنامت سمعة النبي ﷺ الطيبة في التجارة حتى كانت السبب في زواجه من خديجة رضي الله عنها أشرف نساء العرب نسبًا وجمالًا ومالًا ورجاحة عقل وفهم وحكمة، فاستحقت بذلك أن تكون من أكمل النساء وسيدة من سيدات نساء العالمين الأربع.

ومما يجب تسليط الضوء عليه في هذا المقام أن النبي ﷺ لم يعرف البطالة طيلة حياته، لقد نشأ في جد وعمل منذ صغره. فعمل في الرعي والتجارة واستمر حاله كذلك قبل البعثة، وكذلك بعد البعثة حيث عمل بنفسه ﷺ في بناء المساجد وحفر الخنادق وجمع الحطب وخدمة أهله ﷺ. فقدم درسًا عظيمًا لأهمية العمل في حياة المسلم وهو النبي الأعظم!

ثم إن المسلمين في الفترة المكية لم تكن لهم أي فرصة -تحت وطأة الاضطهاد والأذى- للتفكير في إقامة كيان اقتصادي ومع ذلك تمكنوا في تلك الفترة العسيرة من التعاون على توفير الحد الأدنى من التكافل الاجتماعي عن طريق التبرعات والبذل في سبيل الدعوة لله، ويذكر من ذلك دور أبي بكر الصديق رضي الله عنه في شراء العبيد المسلمين ثم تحريرهم وإكرامهم ورعايتهم. وما كان هذا التخطيط النبيل ليخفى عن أعين كفار قريش فعمدوا لممارسة ضغوط اقتصادية على الصديق رضي الله عنه، وكذلك على السيدة خديجة رضي الله عنها وكل صاحب مال من الصحابة بذله في نصرة الإسلام في هذه الفترة. ومن مشاهد هذه الضغوط الحصار الذي أطبقه كفار قريش على النبي ﷺ ومن آمن به، في شعب أبي طالب، والذي من بنوده ألا يشترى منهم ولا يباع لهم.

وعلى الرغم من استقرار المهاجرين الصحابة في الحبشة بأمر من النبي ﷺ إلا أنه لم يثبت أن شكلوا كيانًا اقتصاديًا نموذجيًا لهم هناك.

وحين أمر النبي ﷺ صحابته بالهجرة للمدينة، صادرت قريش أموالهم وأملاكهم. ووسط هذه الظروف الاقتصادية الفقيرة دخل المهاجرون إلى المدينة لتبدأ مرحلة بناء أول دولة للإسلام في التاريخ.

المرحلة المدنية وتأسيس الدولة

تجلت خبرات النبي ﷺ وصحابته الكرام رضي الله عنهم، التي خرجوا بها من العهد المكي -بوضوح- في العهد المدني حيث انعكست بالقدرة الفذّة على تنظيم وإدارة الشؤون الاقتصادية والتجارية ومعالجة الأزمات التي تطرأ في هذا المجال.

وقد حرص الرسول ﷺ على أن يكون للمدينة كيانها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المستقل؛ معتمدًا ﷺ على التشابك القائم بين مجموعة النظم في إقامة كيان الدولة وتحقيق هيبتها الداخلية والخارجية [5].

وشهدت هذه المرحلة وضع النبي ﷺ وثيقة ملزمة للأنصار والمهاجرين واليهود في المدينة، عرفت باسم “الصحيفة”، تضمنت عدة بنود تنظم العلاقات وتحدد الحقوق وتضمن فداء الأسرى وإعانة المثقلين بالديون، وتفاصيل أخرى مهمة حين الحرب والسلم تعكس عبقرية النبي ﷺ كقائد دولة.

أهمية دراسة الاقتصاد في العهد المدني

إن تسليط الضوء على الجانب الاقتصادي في حياة النبي ﷺ أثناء تأسيس أول دولة في الإسلام موضوع قلما يحظى بالاهتمام، مع أنه أساسي لفهم كيف أنشئت أول دولة إسلامية مستندة إلى معالم وأركان وخطط استراتيجية فذة. فضلًا عن كون دراسة الاقتصاد في عصر النبي ﷺ تقدم النموذج الإسلامي الأمثل للاقتداء، وحجر الأساس في بناء أي دولة إسلامية وفق شريعة الله، صالح للتطبيق في أي عصر وفي أي مكان.

كما تُبرز دراسة الاقتصاد الإسلامي خلال انطلاقته دوره الفعال في تقوية الدولة الإسلامية والمحافظة على استقرارها وازدهارها. وتظهر أهميته أكثر حين تكون هذه الدولة قد أقيمت في ظروف استثنائية وبواقع فقر البيئة والتواضع في النشاط الاقتصادي حيث كان رعايا هذه الدولة يقتصرون على أعمال الرعي والزراعة المحدودة والتجارة الضيقة الحدود، ليظهر في هذه الأثناء أثر قوة الوازع الديني الذي زرعه الإسلام بعد جاهلية مظلمة في نفوس الناس آنذاك، وتمكنه في قلوبهم، فلا غش ولا تدليس ولا غبن ولا احتكار [6]، ليقدم لنا هذا التاريخ الماجد أهم أسرار نجاح الاقتصاد في عصر النبي ﷺ وفي عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من بعده.

ثم حين بدأ الناس التوسع في المعاملات نشطت الدراسات الفقهية والاقتصادية لتواكب متطلبات كل عصر معتمدة على الأسس الاقتصادية التي قامت عليها الدولة في المدينة. وازدهرت بعد ذلك المؤلفات الإسلامية التي زخرت بالمسائل الاقتصادية مثل الزكاة والكفارات والعقود والنفقات والصداق والمواريث والديات. وتخصصت في الخراج والأموال وأحكام السوق والبركة والحسبة، وغيره من مواضيع مهمة في هذا المجال.

وكان لذلك أثره في تأسيس الدول الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ وازدهارها إلا أنه في زماننا ضعف الاجتهاد فتأثر نمو الدراسات الاقتصادية، وكان للاحتلال دوره الخبيث في إبعاد الدراسات الإسلامية عن مناهج التعليم وفي إبطال الأحكام الشرعية عن التطبيق حتى انحسر دورها اليوم على العبادات والأحوال الشخصية التي أضحت محل منازعة تهدده العلمانية الزاحفة لديار المسلمين، وأما الاقتصاد فتحول لتقليد أعمى للنظريات والمشاريع الرأسمالية والاشتراكية. والتي زادت من تأزيم واقع المسلمين الذي لن ينصلح إلا بتحكيم الإسلام في شتى جوانب الحياة.

خصائص النظام الاقتصادي في العصر المدني

نُفصّل فيما يلي أبرز خصائص النظام الاقتصادي في العصر المدني والدولة الإسلامية الأولى بقيادة النبي محمد ﷺ.

مفهوم النظام الاقتصادي الإسلامي المتفرد

تقوم فكرة النظام الاقتصادي الإسلامي على أن الملك كله والمال كله لله سبحانه وتعالى، وليس للإنسان من الاستخلاف في هذا المال إلا ما يجنيه -بعمله وسعيه- من صالح الأعمال المادية والمعنوية الدنيوية والأخروية. ويقع على عاتقه رعاية الفقراء والمحتاجين لكونه مجرد وكيل لله في هذا الملك وهذا المال. [7]

التكافل الاقتصادي والاجتماعي

أحد أبرز خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي في عصر النبي ﷺ، التكافل الاقتصادي والاجتماعي. قال الله تعالى (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].

نرى ذلك في تركيز النبي ﷺ -في بداية هجرته إلى المدينة- على أهمية توزيع الدخل والثروة من خلال الإخاء ومشاركة الأملاك والأموال بين الأنصار والمهاجرين. [8]

وبدأ النبي ﷺ عند تأسيس الدولة الإسلامية وإرساء أركانها بالإخاء بين الأنصار والمهاجرين ليضع بذلك اللبنة الأولى للتكافل الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع المدينة الناشئ، ثم بتحقيق العدالة الإسلامية في المجتمع المدني، تخلص المسلمون من نزعة الاحتقار أو الازدراء، وضموا أبناء البلاد الوافدين إليهم فشاركوهم في أموالهم وثرواتهم، بينما قدم الوافدون الجدد بالمقابل خبراتهم وإخلاصهم وتفانيهم.

وبفرض الزكاة والصدقات وكفالة الأيتام في المجتمع الإسلامي أضحى التكافل الاقتصادي والاجتماعي سمة بارزة في المدينة.

ومما يجدر الإشارة إليه أن يثرب كانت مدينة صغيرة يعمل أهلها في الزراعة؛ بينما يهيمن على سوقها التجارية اليهود. وحين وصل المهاجرون وكانت أعدادهم كبيرة، لم يحملوا معهم رؤوس أموال تصلح لمنافسة اليهود، لكن هذه المؤاخاة التي ابتدأ بها النبي ﷺ صنعت أواصر أقوى وأمتن من أخوة النسب كانت منافعها كثيرة.

وآثر الأنصار المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فسارعوا لتقسيم أملاكهم معهم، فما كان من المهاجرين إلا الإكرام والإحسان.

وشملت المؤاخاة تسعين رجلًا، خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: إنه لم يبقَ مهاجري إلا وقد آخى النبي ﷺ بينه وبين أنصاري. [9]

وكفل الأنصار المهاجرين وأدخلوهم حتى في سلسلة التوارث، فكان إذا مات الأنصاري يرثه المهاجر، وإذا مات المهاجر يرثه الأنصاري، بالتآخي، واستمر هذا فترة من الزمن حتى نسخ ذلك بقول الله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) [الأنفال: 75].

ومن النماذج الباهرة التي تستوجب الذكر في هذا المقام؛ المؤاخاة بين عبد الرحمن بن عوف المهاجر وسعد بن الربيع الأنصاري، حيث بلغ الإيثار بسعد بن الربيع أن قال لعبد الرحمن بن عوف: “إني أكثر الأنصار مالًا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك، فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها، فتزوجها” [10] وذلك قبل فرض الحجاب.

فماذا كان من عبد الرحمن بن عوف أمام هذا العرض المغري السخي، لقد كان الرد تاريخيًا عفيفًا فقال رضي الله عنه: “بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فما رجع حتى استفضل أقطًا وسمنًا”. [11]

وقدّم المهاجر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه درسًا للأجيال في كيف يكسب الرجل قوته في الديار البعيدة، وكان يحسن التجارة، فباع واشترى، ورجع بفائض من سمن وأقط. وتزوج عبد الرحمن، وكان المهر نواة من ذهب أصدقها لزوجته، ونمت ثروته بعد ذلك ليصبح من كبار أغنياء المسلمين.

وهذه صورة من أرقى الصور لطبيعة العلاقة الاقتصادية والاجتماعية بين المهاجرين والأنصار آنذاك.  لقد كان هذا الإخاء أحد أعمدة الحضارة الإسلامية الرائعة.

ولا تنفك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تحثّ على الأعمال الخيرية والتطوعية والإحسان وكفالة الأيتام وتفريج الكربات والمسابقة بالخيرات، ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.

وبهذا الرقي، قام اقتصاد الدولة الإسلامية الأولى.

وقفة مع بناء المسجد النبوي

سأل الرسول أسعد بن زُرارة رضي الله عنه، أن يَبيعه أرضًا متصلة بالمسجد الذي كان أسعد قد بناه لنفسه، فعرَض عليه أسعد أن يأخذها الرسول هِبة منه، لكنه رفَض ﷺ؛ ليُقيم الموازين الإسلامية في التعامل مع بداية إنشاء الدولة، فدفَع ثمنها عشرة دنانير أدَّاها من مال أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وشارك ﷺ بنفسه الشريفة في بنائه وبهذا وضع ﷺ القاعدة الدينية والأساسية في بناء دولة المدينة؛ حيث إن المسجد آنذاك كان مركز القيادة لتعدد وظائفه.

مشروعية المال في الإسلام

لم يكتف النبي ﷺ بالحض على الإحسان والتكافل بل طهّر رؤوس الأموال والتجارة، ولم يقبل إلا الحلال الطيّب، فحرم المتاجرة بما حرمه الإسلام، كبيع الخمر والخنزير.

كما نهى ﷺ عن الاحتكار فقال: “لا يحتكر إلا خاطئ” ونهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها مخافة أن يقع ظلم على المشتري.

وحين نتحدث عن مشروعية المال وحله فهي تعني أن مصدره حلالًا وإنفاقه حلالًا، في الوجوه المشروعة. وعلى هذا الأساس قام الاقتصاد في المدينة.

والحلال لا يقبل الغش والخداع، روى النسائي عن ابن عباس قال: لما قدم النبي ﷺ المدينة كانوا من أخبث الناس كيلًا، فأنزل الله تعالى: “ويل للمطففين”، فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وقد كان النبي ﷺ يخرج بنفسه في الأسواق ويقرأ هذه الآية أمام التجار ومعاملات البيع والشراء.

ومما يعكسه هذا الالتزام بالحلال من مفاهيم سامقة، أن الاقتصاد والتجارة وإدارة الأموال على ما تحمله من مكانة تنظيمية في الإسلام تبقى وسيلة لا غاية في حياة المسلم ولا تعتبر مقياسًا منفردًا لتزكيته وتفضيله. وبهذا المعنى جاء الهدي النبوي في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قَالَ: “ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس”.

وعلى عكس ما شاع بين الناس في الجاهلية أن الإفلاس خسارة المال، ربى النبي ﷺ المسلمين على معنى أعمق وأجل للإفلاس، حيث قال ﷺ في الحديث في صحيح مسلم: “أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار”.

تحديد وظيفة المال في الإسلام وحقوقه

قال تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) [الكهف: 46]. في العهد المدني حرص الرسول ﷺ على تحديد وظيفة المال في الإسلام والتي ترتكز على دوره في عملية التنمية الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين مستويات المجتمع الإسلامي وصرفه في خدمة العباد ومصالحهم. وحذر النبي ﷺ من أن المسلم سيسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، كما حث على اكتسابه بالطرق المحمودة كالعمل أو الأعطيات أو الزكاة، ونهى عن اكتسابه بالطرق غير المشروعة كالظلم والغصب والربا والاحتكار.

وجعل الإسلام قواعد لحفظ حقوق العباد وحفظ المال من الفساد، فحرم الربا بجميع أنواعه وحرم الاكتناز وفرض الزكاة، ولحماية المال فرض العقوبات على من يتعدى عليها، كحد السرقة والحرابة. كما أعطى الإسلام لصاحب المال الحق في الدفاع عن ماله من أي اعتداء، واعتبره شهيدًا إن قتل في حالة الدفاع تلك. “منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ” الحديث.

إقامة الأسواق الخاصة في المدينة وتنظيمها

اعتنى النبي ﷺ بتنمية الأسواق الجديدة في المدينة، مستقلة عن اليهود؛ ليواكب التوسع التجاري وإقبال الناس عليها. وكانت البداية بتحديد المكان المناسب لإقامتها، وتميز الموقع بمواءمته لحركة التجارة والقوافل. ثم استقرت هذه الأسواق وازدهرت بتقييدها بأحكام البيع والشراء وفق هدي الإسلام بلا تطفيف ولا غش ولا احتكار، وكان لذلك بركاته الظاهرة.

يروى أن رسول الله ﷺ ذهبَ إِلى سُوق النَّبِيط فنَظَرَ إِليْهِ، فقَالَ: “لَيْسَ هَذَا لَكُمْ بِسُوقٍ”، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى سُوقٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: “لَيْسَ هَذَا لَكُمْ بِسُوقٍ”، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا السُّوقِ، فَطَافَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ:”هَذَا سُوقُكُمْ فَلَا يُنْتَقَصَنَّ وَلَا يُضْرَبَنَّ عَلَيْهِ خَرَاجٌ ” (سنن ابن ماجه).

ومن أسرار انتظام الأسواق في عصر النبي ﷺ وضعه ﷺ آدابًا للسوق مرتبطة بالأجر الأخروي وفرضه رقابة ميدانية عن طريق نظام الحسبة.

كما كان النبي ﷺ يطوف بنفسه الشريفة في الأسواق يتفقد أوضاعها، ويوجه إلى ما في صلاحها. ومما روي عنه ﷺ أن الناس كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق يبيعونه في مكانه. فنهاهم ﷺ أن يبيعوه مكانه حتى ينقلوه إلى أدناه، فعن نافع عن عبد الله رضي الله عنه قال: “كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانا النبي ﷺ أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام”.

وعيّن النبي ﷺ سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة، وعمر بن عمر رضي الله عنهما على أسواق المدينة، وعين غيرهما على الأسواق الأخرى ليقوموا بأمور إدارة السوق.

ولم يفرض ﷺ نظام رقابة على السوق فقط بل كان يعاقب من يتعاطى العقود الباطلة أو المعاملات الفاسدة. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “رَأَيْتُ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مُجَازَفَةً، يُضْرَبُونَ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، أنْ يَبِيعُوهُ حتَّى يُؤْوُوهُ إلى رِحَالِهِمْ“. (البخاري).

وبالإضافة إلى تنظيم السوق اهتم النبي ﷺ بما يعزز الثقة في السوق ويزيد حجم التداول فيه مثل استخدام عقود البيع وتبيان الأنواع المتاحة منها، مع قطع الطريق على العقود الباطلة والتي يشوبها الغش أو الغبن.

ودعا ﷺ إلى توحيد الموازين والأطوال والأوزان وأن تكون معيارية ومنع العبث فيها أو التطفيف في الوزن والمكيال. وحدد النبي ﷺ الوزن للاستخدام في الدنانير والدراهم وأمر باستخدام وزن أهل مكة. وحرص ﷺ على العدالة في معايير التبادل التجاري، وقال ﷺ: “كيلوا طعامكم يبارك لكم” (البخاري).

ونهى النبي ﷺ عن الحلف على السلعة، كما حث على الأخلاق الحميدة في السوق وأداء الأمانة فقال ﷺ: “أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك”. (صحيح الجامع الصغير). وجعل المحافظة على أموال الناس من الإيمان؛ قال ﷺ: “المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم” (صحيح الجامع الصغير).

وحث ﷺ أيضًا على السماحة في البيع والشراء والتجاوز عن المعسر، والتقليل من دور الوسيط في المعاملات التجارية، وعدم استغلال حاجات الناس.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ مر في السوق على صرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا فقال: “ما هذا يا صاحب الطعام؟” قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: “ألا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا ليس منا” (رواه مسلم).

وهكذا كان النبي ﷺ يربي الناس من حوله على الصدق والأمانة التي هي أساس ازدهار الأسواق. ويظهر أن النبي ﷺ حرص على أن يكون السوق هو المكان لتبادل البضائع والخدمات، على ألا تكون هناك أفضلية لأحد على أحد في الحصول على المعلومات وإنما كافة المعلومات عن البضاعة أو الخدمات لابد أن تكون واضحة، ومتوفر لجميع المتعاملين.

وجعل مدار التعاملات حول “لا ضرر ولا ضرار”. فلا غش ولا خداع ولا تحايل ولا يبيع أحد على بيع أخيه.

وفي الواقع فقد كانت الأسواق في المدينة كأداة لتنمية التبادل التجاري، من خلال حسن اختيار مواقعها وطبيعة البضائع المتبادلة وتقليل الحواجز لدخولها فضلًا عن تمتعها بنظام الإدارة والرقابة والإصلاح.

كتابة الديون

ومع ازدهار حركة التجارة والاقتصاد في المدينة قام النبي ﷺ بتنظيم المعاملات التجارية والمالية، بكتابة الديون في صكوك لحفظ الحقوق وتوثيقها. مما قدم تنظيمًا إداريًا وأمنيًا يمنع الاحتيال والتلاعب ويسهل المتابعة.

كما نظم الديْن وفق أصول الإسلام كما في الآية (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) ]البقرة: 280[ فقضى عادات الدين الجاهلية، وألغى سياسة أن يستولي صاحب الدين حين يتعذر دفعه على أحد عبيد أو أبناء الدائن، إلى أن يقضي دينه. كما بيّن فضل من يسارع لدفع ديونه ولا يماطل فيها عند استطاعته الدفع، فقال ﷺ: “من خيار الناس أحسنهم قضاء”، وقال ﷺ: “مطيل الغير ظلم” أي عدم تسديد الدين مع القدرة ظلم (البخاري).

ونظم ﷺ عمليات تقاضي الديون وإجراءات الإفلاس لأهميتها في التعامل التجاري ودعمًا للثقة في السوق، قال ﷺ: “أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل وقد أفلس، ولم يكن قبض ثمنها شيئًا فهي له، وإن كان قبض من ثمنها شيئًا فهي أسوة الغرماء”. (صحيح الجامع الصغير).

ومما يسجله التاريخ بفخر في سيرة النبي ﷺ أنه لما فتح الله عليه الفتوح قال ﷺ: “أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه” (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية “فمن ترك مالًا فلأهله ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإلي وعلي”.

تحريم الربا والقضاء على عادات الجاهلية

من أبرز خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي أنه قضى على فساد الجاهلية وعلى سياسات اليهود الجائرة التي امتصت ثروات المجتمعات، فحرّم الربا بكل أنواعها وعلى الجميع فلم يستثن أحدًا، وقال ﷺ في حجة الوداع: “ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون”.

مصداقًا لقول الله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ]البقرة: 275]

وطهر الأسواق من كل عادات الجاهلية كالتطفيف والخداع وبيع السرقات وغيره من أشكال الفساد الجاهلي.

الأخلاق الإسلامية الراقية

كان للأخلاق الإسلامية حضورها المصيري في النظام الاقتصادي للدولة الإسلامية في المدينة، فلا يزال القرآن والحديث يحثان التجار على الاستقامة والصدق والأمانة، ثم التسامح الذي تسير به عجلة الحياة بيسر، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله ﷺ قال: “رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى”. [12]

قال ابن بطال: “فيه الحضُّ على السَّمَاحَة، وحسن المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها، وترك المشاحة والرقة في البيع، وذلك سبب إلى وجود البركة فيه؛ لأن النَّبي عليه السلام لا يحض أمته إلا على ما فيه النفع لهم، في الدنيا والآخرة”. [13]

وحديث صحيح مسلم: “الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما”. وحديث: “من غشَّنا فليسَ منَّا”. من بين العديد من الأحاديث التي ترسخ مفهوم الأخلاق في التعاملات والنظام الاقتصادي والتي كانت لاحقًا سببًا في نشر الإسلام في زوايا الأرض عن طريق التجار المسلمين لصدقهم وأمانتهم وحسن خلقهم.

تفعيل الحسبة

ومن خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي تفعيل الحسبة التي تحفظ الحقوق وتبقي عين الرقابة على الأسواق، لرد المظالم وتقويم سلوك الباعة والزبائن.

التشجيع على العمل وترك البطالة

قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]. وقال سبحانه: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة: 10]. وقال سبحانه: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سبأ: 10-11].

فهذه الآيات وغيرها من آيات القرآن الكريم تحثّ على العمل والجد في الحياة وكذلك جاءت الأحاديث بنفس المعنى، قال رسول الله ﷺ: “ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده”. [14] وقال ﷺ: “لَأنْ يَحتطب أحدُكم حزمةً على ظهره خيرٌ له من أن يَسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه”. [15]

والحديث:

لا يَغرس مسلم غرسًا، ولا يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة. [16]

وقوله ﷺ: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فَسيلة، فإن استطاع ألَّا يقوم حتى يغرسها، فليفعل.” [17]

ومن يتدبر الأحاديث في هذا الباب -باب العمل والإنتاجية وإتقان الحرفية- يدرك أن الإسلام اعتنى أيما اعتناء بالعمل الذي هو قلب الحياة، في الدولة الإسلامية. وهو محرك الاقتصاد في أي دولة.

إحياء الأرض الزراعية والإقطاع

عند وصول المهاجرين إلى المدينة لم يقف الأمر عند المؤاخاة، ولا مشاعر الحب والإيثار وتقسيم الأموال والأراضي والمساكن، بل قابله تعفف المهاجرين وسعيهم بنشاط في شتى نواحي العمل ومناشط الحياة مع إخوانهم الأنصار. ويذكر من ذلك أهل الصفة؛ وهم قوم هاجروا إلى المدينة وكانوا فقراء، فأمرهم الرسول ﷺ بالبقاء قرب المسجد يتعلمون منه ويكتبون له ويبعث منهم البعوث، أي أنهم متفرغون لأعمال الدولة. [19] وكانت تصلهم أرزاقهم عن طريق التبرعات.

وكان الأنصار يعملون في المزارع، وكما في الحديث الذي رواه البخاري: “قالتِ الأنْصَارُ للنبيِّ ﷺ: اقْسِمْ بيْنَنَا وبيْنَ إخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قالَ: لَا، فَقالَ: تَكْفُونَا المَئُونَةَ ونُشْرِكْكُمْ في الثَّمَرَةِ، قالوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا”.

وقد بدأت عملية مزارعة كبرى في المدينة أعقبتها حركة إحياء للأرض الزراعية المهملة. وفقًا للقاعدة الشرعية التي وضعها الرسول ﷺ في الحديث الصحيح “من أحيا أرضًا مواتًا فهي له”. فكانت هذه القاعدة من أروع قواعد النظام الاقتصادي، التي تجمع بين تحريض الإنسان على العمل ومكافأته بالأرض التي يملكها استحقاقًا، فجمعت بين صناعة الإنسان وصناعة الاقتصاد.

ويجدر الإشارة إلى أنه بعد فتح خيبر خصص النبي ﷺ نصف أرضها للنوائب؛ أي لمن ينوب من مصالح وحاجات عامة المسلمين. منها أرض فدك ونصف أرض خيبر، كان خراجها يأتي النبي ﷺ كل عام، فيصرفه في نفقات المسلمين وما تبقى في الكراع والسلاح ومصالح المدينة.

ومن الأودية التي اشتهرت بانتشار الزراعة فيها في عصر النبي ﷺ وادي العقيق الذي هو أهم أودية المدينة وفيه أموال أهل المدينة ومزارعهم، وكذلك في الطائف الكثير من الأودية أهمها وادي وج غرب الطائف وفيه الكثير من المزارع والبساتين وترفده بعض الأودية الأخرى، وغيره.

لقد عرفت المدينة نهضة زراعية على يد المهاجرين والأنصار والوافدين الذين أسلموا والتحقوا بالمدينة من الشام ومصر والعراق وغيره. وانضم الموالي لهذا النظام بترحيب كبير، ويرجع ذلك لحسن معاملة الإسلام لهم.

وفيما يتعلق بالأرض ومعادنها أو زراعتها، قام الرسول ﷺ بتوزيع الأرض المتروكة في المدينة على الصحابة، فأقطَع ﷺ بلال بن الحارث معادنَ بناحية الفروع؛ أي: أرضًا فيها معادن.

وأقطع النبي ﷺ علي بن أبي طالب عيونًا بينبع اشتهرت فيما بعد بكثرة إنتاجها وعمل فيها علي رضي الله عنه بنفسه. وعن جعفر بن محمد أن رسول الله أقطَع عليًّا رضي الله عنه أربع أرَضين: الفقيرين، وبئر قيس، والشجرة. وأقطع ﷺ الزبير بن العوام رضي الله عنه أرضًا بالمدينة استثمرها في الزراعة.

تنظيم الري

بعد الإخاء بين المهاجرين والأنصار وإقطاع الأراضي، قام الرسول ﷺ بتنظيم التعامل مع الماء والزرع بما يكفل أقصى فعالية، وعندما قال له بنو حارثة من الأنصار: “يا رسول الله، ها هنا مسارح إبلنا، ومرعى غنمِنا، ومَخرج نسائنا -يعنون: موضع السقاية- قال لهم الرسول: مَن قطع شجرة، فليَغرس مكانها، فغرَسنا الغابة”.

وقد قضى رسول الله ﷺ في وادي مهزور أن يُحبَس الماء في الأرض إلى الكعبين ثم يُرسَل إلى الأخرى، لا يمنع الأعلى الأسفل (وهي عملية داخلة في باب تنظيم المياه بالنسبة للزراعة)، ووردت أحاديث أخرى في هذا الباب، وبتنظيم المياه والأرض والأسواق، وتشجيع الزراعات والمهن والحرف، تحقَّق لدولة النبي ﷺ كِيان اقتصادي قادر على مواجهة اليهودَ الذين تعودوا على احتكار عصب الاقتصاد في الداخل، بل قادر على مواجهة الكِيانات الاقتصادية الخارجية – خارج المدينة.

مجتمع مساواة لا ظلم فيه

قام النظام الإسلامي الاقتصادي في المدينة على مبدأ المساواة، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. (صححه الألباني).

فقدم النظام الاقتصادي الإسلامي نموذجًا رائعًا عن مجتمع السواسية، وقد استخلص الاقتصاديون المعاصرون بعض القواعد الاقتصادية النظرية التي يستند إليها هذا النظام على أنها تتلخص في المبادئ التالية:

  • أولًا: نظرية دورة الإنفاق الخيرة، وهي تطبق في أوقات الرخاء والكساد معًا (فلا جمود ولا توقف ولا اكتناز ولا احتكار ولا ربا).
  • ثانيًا: الحد من أرباح الوساطة وتحريم الربا والاستغلال بصفة عامة.
  • ثالثًا: الملكية الخاصة وظيفة اجتماعية وليست حقًا مقدسًا ولا يجوز أن تنفصل عن العمل لتصبح أداة لاستغلال عمل الغير.
  • رابعًا: إقامة مجتمع السواسية والمقاسمة المقنعة والطوعية في الأموال والخبرات”. [20]

وبهذا الشكل أقام النبي ﷺ مجتمعًا إسلاميًا، مؤمنًا ملتزمًا له نظامه الاقتصادي المرتبط بقواعد الإيمان والقائم على الاقتناع الداخلي الذي يصل حد الكفاية والزهد والاستعلاء، ويقدم أروع صور التكافل الاجتماعي القائم على الحب والإخاء والإيثار. [21]

بناء الإنسان بالتزامن مع بناء الاقتصاد

وتزامن مع هذا البناء الاقتصادي القائم على التكافل والتراحم، العمل على بناء الإنسان جسديًا كما بناه عقليًا وروحيًا وفكريًا.

وللنبي أحاديث كثيرة تبني الإنسان، فجسديًا؛ تدعوه للبحث عن العلاجات للأمراض ليحفظ نفسه في حالة قوة، كما أمره بالرياضة كالرمي، وفضل المؤمن القوي على المؤمن الضعيف، وأوصى بالوقاية وعلّم الصحابة بأن لكل داء دواء إلا الهرم؛ ليبحثوا عن أسباب العلاج عند المرض، قال رسول الله ﷺ في حديث رواه البخاري وابن ماجة رحمهما الله: “ما أنزل الله داء إلا أنزل به شفاء”. وفي حديث آخر: “لكل داء دواء”؛ وفي حديث ثالث: “تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم”. مما شكل دافعًا قويًا لتحصيل العلم في اختصاص الطب.

وروي عن رسول الله ﷺ العديد من الأحاديث في علم الصحة والوقاية وأيضًا في علم النفس والعناية بقلب الإنسان، فجمع ﷺ بين إصلاح الأجساد وإصلاح القلوب والنفوس، وحمايتها من مختلف الأمراض التي تتربص بها؛ الجسدية منها والقلبية والنفسية، وجعلها قاعدة في مجتمع مسلم متماسك فقال ﷺ: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.

فالإنسان في المنظومة الإسلامية كلّ لا يتجزأ، والأمة المسلمة كذلك كلّ لا يتجزأ، كما وصفها النبي ﷺ بمثال يستند لهذا الإنسان نفسه كجزء من الأمة.

وكانت الحرف والمهن سائدة في عهد النبي ﷺ، كما ثبت في الحديث أن رجلًا من الأنصار يكنى أبا شعيب قال لغلام له قصاب وكذلك أن خياطًا دعا الرسول ﷺ إلى طعام صنعه. كما روى ذلك البخاري.

ولم يكتف النبي ﷺ بتشجيع المسلمين على العمل بل حضهم أيضًا على الإتقان. عن عائشة أم المؤمنين: أن النبي ﷺ قال: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه”. أخرجه أبو يعلى في مسنده.

وقال رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح: “أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بير مبرور”، كما قرن العمل بالجهاد في قوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [المزمل: 20]

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ۗ) [الفرقان: 20]: “كان آدم عليه السلام حراثًا، ونوح نجارًا وإدريس خياطًا وإبراهيم ولوط زارعين، وصالح تاجرًا وداود زرادًا (أي صانعًا) ويوسف وشعيب ومحمد صلوات الله تعالى عليهم وسلم رعاة غنم”. [22]

وهكذا صنع الإسلام الإنسان الصالح المنتج.

الانفتاح التجاري

شجع النبي ﷺ على أن يخرج أصحابه في الأرض سعيًا نحو التجارة مما يساعد على التوسع التجاري. وقد حرص المسلمون في المعاملات التجارية على الصدق والأمانة وكذلك إعطاء صفة الأمان للتجار غير المسلمين. وعندما كان يرسل مندوبًا عنه لقوم آمنوا كان يلقنهم مفاهيم الإسلام وشرائعه في الاقتصاد والتجارة؛ ليعم المجتمعات المسلمة بركات الالتزام بالتوجيهات الربانية، وبرزت هذه الصفة أكثر في عصر الخلفاء.

الإنفاق والتنمية

بدأ رسول الله ﷺ في تنظيم العطاء من خلال إحصاء المسلمين، كما ورد أن النبي ﷺ أمر حذيفة بإحصاء الناس [23] لتوزيع العطاء.

كما حث الإسلام على التنمية، قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس: 14]. وجعلها مرتبطة بالأجر الأخروي، وبما أن معظم التطور في الاقتصاد الإسلامي اعتمد أساسًا على التطور الزراعي، والتبادل التجاري فقد ركزت التنمية على هذا الجانب، والجانب الزراعي كان له دور كبير في التطور الاقتصادي آنذاك.

ونلاحظ هذا الاهتمام بتنمية الأرض، من خلال أحاديث النبي ﷺ عن غرس الأشجار وزراعتها، حتى أن البخاري قد بوب عن فضل الزرع والغرس إذا أكل منه. وفيه حديث النبي ﷺ: “ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”. (البخاري)، يقول في ذلك ابن حجر: “وفي الحديث فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض”.

ولم يذم النبي ﷺ ذلك إلا في حالة واحدة في الحديث:

إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم [24].

ويظهر من خلاله كراهية الانشغال بالزراعة الحرث حين يغلب العدو ويأخذ الأرض.

وحين نتحدث عن الزراعة فترافقها تربية الحيوانات أيضًا. وأما الصناعة ففي قول الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد‏: 25]‏ قال البيضاوي: “ما من صنعة إلا والحديد آلتها أي له دخل في آلتها” [25]. لكنها كانت لا تزال ضعيفة في تلك الحقبة حيث اقتصرت على البناء لحاجة المسلمين لمساكن لاستيعاب الأسر المهاجرة والخدمات وقد تولى النبي ﷺ يختار الأرض للبناء ويقدم مجموعة من التوجيهات التنظيمية في سبيل إتقان ذلك.

ويدخل في الصناعات، حفر الخنادق وصناعة الأسلحة كالرماح والسهام والأقواس والسيوف والخناجر، كما ازدهرت العديد من المهن في عهد النبي ﷺ كالصياغة (صناعة الحلي) وكالنساج والخياط والنجار والقين والحداد، ذكره البخاري في كتاب البيوع.

قال ﷺ: “خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح”، (حديث حسن صحيح في الجامع الصغير).

ولذلك كان النبي ﷺ يقدم الماهر في الحرفة لسد النقص ويسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي خاصة في الصناعات الاستراتيجية كصناعة الأسلحة. وازدهرت بعد الفتوحات الصناعات بكافة اختصاصاتها مع الانفتاح على شعوب أخرى.

ترشيد السلوك الاقتصادي والعناية بالقيم الأخلاقية

بيّن الشارع أن الاضطراب في التوزيع الاقتصادي وتزايد حدة الفقر يأتي نتيجة الاختلال في الموازين الأخلاقية وفي سيادة النزعة الاستهلاكية، فحرص الإسلام على ترشيد السلوك الاقتصادي بالبعد عن الإسراف وعدم التوسع في المباح والاقتصاد في الأمور كلها وعدم إضاعة المال، قال تعالى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الاعراف: 31]. وقال سبحانه (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 27].

وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67]. وقال تعالى (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) [النساء: 5]. وقال سبحانه (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر: 7].

تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية

تفرد النظام الاقتصادي الإسلامي عن غيره من الأنظمة بتقليل العبء الضريبي واقتصاره على الزكاة لمن أسلم والجزية على من بقي على دينه، وكان هذا من أهم أسباب اعتناق غير المسلمين الإسلام، وإقبالهم عليه، مقارنة مع العصور التي سبقت الإسلام حيث كانت الضرائب تثقل كاهل الطبقة العاملة، لدرجة أن الرعية كانت تدفع ثمانية أضعاف ما يدفعون في الإسلام [26] كما حرص الإسلام على توزيع الثروة والتقليم من الفوارق بين الناس، بتفعيل نظام الزكاة لمن يستحقها، وإلى توسيع دائرة الإحسان والتطوع؛ ليكون رافدًا للزكاة ومكملًا لها، التزامًا بالتوجيه الرباني كما قال تعالى (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء: 183].

وقد نهى النبي ﷺ عن المكوس وقال ﷺ: “لا يدخل الجنة صاحب مكس”، وكان المكس منذ الجاهلية حيث يأخذ الملوك عشر أموال التجار. وقال ﷺ: “تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة”.

فكانت منظومة بديعة متكاملة شاملة تحض على المسابقة بالخيرات والصدقات والإحسان وعدم ازدراء أي عمل صالح مهما صغر. ولذلك الإسلام مدرسة عظيمة في التطوع والعمل الخيري والإحسان، يتجلى في منهجه وفي تاريخ المسلمين الزاخر بالنماذج الرائعة من عطاء النفس المؤمنة وتفانيها في سبيل الله. ونماذج الصحابة في ذلك لا تعد ولا تحصى، لم تمنعهم مسؤولياتهم في الحياة من إيلاء الاهتمام الكامل بعمل التطوع والمسابقة بالخيرات، بالسر والعلن، رضي الله عنهم وأرضاهم.

ويجدر الإشارة إلى أن بذل المال في عهد النبي ﷺ كان في سبيل الله، سواء للتصدق على الفقراء وذوي الحاجات أو لبذله في الجهاد لإعلاء كلمة الله، لم تكن هناك حالة واحدة إلزامية أو تحت الضغط، بل كانت جميعها طوعًا عن طيب نفس وخاطر ومسابقة.

حسن استثمار وتوزيع الموارد الاقتصادية

بئر عثمان بن عفان في المدينة المنورة وهو أحد الأوقاف الموقوفة على المسلمين.

بئر عثمان بن عفان في المدينة المنورة وهو أحد الأوقاف الموقوفة على المسلمين.

قال تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) [الأعراف: 10]. لقد حرص رسول الله ﷺ على الاهتمام بالموارد الاقتصادية من خلال رعاية عناصر الإنتاج. ومن ذلك مبدأ عدم تحميل الأرض أكثر مما ينبغي، وعدم جمع الزكاة والصدقات بأكثر من مقدارها، وجاء في الحديث، قال رسول الله ﷺ لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن: “فإياك وكرائم أموالهم” (رواه مسلم).

وفي هذا الإطار جعل الإسلام بعض الموارد الاقتصادية ملكًا لعموم المسلمين يشتركون فيها حيث ورد في الأثر: “المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ” [27]، وقال رسول الله ﷺ: “ثلاث لا يمنعنا: الماء والكلأ والنار” [28]. كما جعل الناس شركاء في كل ما ينبت من الأرض العامة من المعادن الجارية والجامدة [29].

ونظم النبي ﷺ سقاية الماء عند مجاري الأمطار عندما اختلف الزبير مع رجل من الأنصار [30]، وجعل الماء إذا كان نابعًا من أرض مباحة فهو مشترك بين الناس وإن كان نابعًا من ملك رجل فعليه بذل فضله لمن يحتاج إليه. [31] كما قال ﷺ: “ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل على فضل ماء يمنعه ابن السبيل” (من حديث مسلم). كما نهى ﷺ عن بيع فضل الماء. حيث قال: “لا تمنعوا فضل الماء لا تمنعوا فضل الكلأ” (رواه مسلم).

وفي المقابل أجاز النبي ﷺ حماية الأرض للمنفعة العامة للمسلمين بتحريم عضاة المدينة وما حولها (أي تحريم نفع النبات التي ترعاه الماشية)، بالإضافة إلى نظام الحمى أي تخصيص أرض تحمي من الاستخدام من قبل أفراد المسلمين لاستخدامها في رعاية ماشية الصدقة.

ويدخل في ذلك إقطاع الأراضي لمن يحييها، ويدخل في ذلك أيضًا الاهتمام بالإنتاج الزراعي والحيواني، وهي مهنة العرب آنذاك، وقد جعل ﷺ غرس النخل أحد الصدقات السبع، التي يجري أجرهن في قبر المؤمن.

ويدخل في ذلك إيتاء الأجير أجره، حرصًا على تشجيع العمل ورفعة قدره. قال ﷺ: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” (حديث حسن من صحيح الجامع الصغير). كما نهى عن المماطلة في دفع أجره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا واستوفى منه ولم يوفه أجره” (البخاري).

وحين يُعطى كل ذي حق حقه، يأمن المجتمع ويزدهر وهو مفهوم العدالة.

تنظيم السياسة المالية والرقابة عليها

بعد الهجرة انتقل النبي ﷺ وصحابته الكرام من صفة المحكومين تحت سلطة قريش إلى حاكمين ثم متوسعين وناشرين للدعوة والحكم بعد الهجرة. وارتبطت السياسة المالية ارتباطًا وثيقًا بهذا الانتقال واتسعت دائرة الإنفاق.

وكان طبيعيًا أن تتبلور الدولة الإسلامية الناشئة في شكلها التنظيمي وبشكل أخص في الجانب المالي. ومن أساسيات الاقتصاد الإسلامي تنظيم المال والرقابة على صرفه.

وقد تكفلت أحكام الشريعة الإسلامية بتنظيم القواعد والأسس لشؤون هذه الدولة في الناحية الاقتصادية كما في بقية النواحي، وحددت موارد الدولة واستخداماتها ومصارفها على وجه لم يسبقها فيه تشريع.

رافق هذا الاهتمام بالمال العام محاربة الفساد وشددت الأحاديث النبوية على أهمية الأمانة، وكان النبي ﷺ يذكر صحابته عند تحملهم أدنى مسؤولية، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بعثني النبي ﷺ ساعيًا ثم قال: “انطلق أبا مسعود ولا ألفينك تجيء على ظهر بعير من إبل الصدقة قد غللته” قلت: إلا لا أنطلق، قال: إذًا لا أكرهك، (رواه أبو داود بسند صحيح).

كما كان ﷺ يحذر من يرسلهم لجمع الزكاة والصدقات من التجاوز والظلم، فعن سعد بن عبادة، أن رسول الله ﷺ قال له: “قم على صدقة بني فلان، وانظر لا تأتي يوم القيامة ببكر تحمله على عاتقك، أو على كاهلك له رغاء يوم القيامة ” (صحيح لغيره).

وكانت المحاسبة للعمال متعارف عليها في عهد المدينة، فعن هشام عن أبيه عن أبي حميد الساعدي قال: “استعمل رسول الله ﷺ رجلًا على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه قال هذا مالكم وهذا هدية فقال رسول الله ﷺ: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فلأعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه يقول اللهم هل بلغت بصر عيني وسمع أذني” (البخاري).

وكان النبي ﷺ يستوفي الحساب على عمل العمال ويحاسبهم ولم يكن يبقى المال في بيت المال لأن النفقات كانت كبيرة، أكبر من الإيرادات.

لقد كان النبي ﷺ ينفق الزكاة والجزية وغيرها من الموارد المالية فورما تصله لشدة الحاجة إليها وتعدد مصارفها، فعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي ﷺ العصر فأسرع ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج فقلت أو قيل له، فقال: “كنت خلفت في البيت تبرًا (فتات الذهب) من الصدقة فكرهت أن أبيته (أي أتركه حتى يدخل عليه الليل) فقسمته” (البخاري).

وكان التنظيم الإداري لإيرادات الدولة سهلًا يتناسب مع صغر الدولة الإسلامية وقلة الموارد، فقد كان ﷺ يرسل السعاة بنفسه ويحاسبهم على ما قدموا بنفسه أيضًا.

ونظرًا لقلة الموارد وشدة الحاجة فلم يكن هناك تدوين واضح لهذه الأموال وإنما تنفق حالما يتم استلامها وبالتالي لم تكن هناك حاجة إلى دواوين أو سجلات كما ذكر ذلك ابن تيمية. [32]

ومع ذلك جعل النبي ﷺ أمناء على بيت المال يتولون حفظه وإدارته كان من أحفظهم بلال بن رباح ومحمية بن جزء الزبيدي رضي الله عنهما. [33]

وتميزت فترة العهد المدني بنزول آيات القرآن الكريم لتحديد مصادر تمويل نفقات الدولة الإسلامية وأبواب هذه النفقات، بينما يشرح الرسول ﷺ المقادير والتفاصيل التي لم ترد بالآيات الكريمة.

وكان الهدف الأساس في النظام المالي تغطية النواحي الاجتماعية ومتطلبات الدفاع عن الدولة الجديدة. وحين واجهت النبي ﷺ مشكلة العجز الحاصل في بيت مال المسلمين، لجأ لفكرة غير مسبوقة وهي استعجال جزء من أحد موارد الدولة «الزكاة»، فاستعجل من عمه العباس زكاة سنتين.

لقد تميز النظام الاقتصادي في عصر النبي ﷺ بجوانب وممارسات ذات أثر بالغ في حسن الإدارة المالية بتحديد النبي ﷺ الموارد المالية للدولة والمصارف المحددة لها، بل وجعل أحيانًا تحديد المصارف لكل مورد مالي. كما نظم بيت المال كحيز تحفظ فيه الأموال العامة، وشدد على حرمة المال العام وحدد دور الخليفة أو الأمير في الصرف منه.

وفيما يلي إيرادات الدولة الإسلامية:

أولًا- إيرادات الدولة:

وقد توزعت على أربعة موارد هي:

المورد الأول: الزكاة:

فرض الله الزكاة على المسلمين في السنة الثانية للهجرة، وبين مصارفها الشرعية، في قوله تعالى (إنما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 60]، وشرح النبي ﷺ تفاصيل الأموال التي تجب فيها الزكاة ومقدار النصاب والواجب فيه والشروط الواجب توفرها في المزكي وفي المال نفسه. ويعتبر باب الزكاة أول تبويب في الإنفاق العام لتلبية حاجات الدولة والمجتمع الإسلامي.

المورد الثاني: الغنائم

وهو المورد المشار إليه في قوله تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال: 41].

وكانت الغنائم مرتبطة بنظام إدارة المال العام، الذي يمنع الرشوة والغلول وحسن اختيار الولاة لأمانتهم وصدقهم.

وازدادت إيرادات الدولة الإسلامية في آخر أيام النبي ﷺ، مع الغنائم ووصلت أرقامًا ضخمة مقارنة مع طبيعة الحياة في ذلك الوقت، حيث يذكر أن النبي ﷺ أعطى أربعة عشر شخصًا مائة من الإبل لكل منهم، من غنائم هوازن وحدها بعد معركة حنين.[34]

المورد الثالث: الفيء

وهو الراجع إلى المسلمين من مال الكفار بغير قتال وقد بينه الله تعالى في قوله (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،  مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 6-7].

المورد الرابع (الناشئ): الجزية

وهو المورد المستوفى من غير المسلمين وفق قوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29].

المورد الخامس: الصدقات والأوقاف 

وجدير بالذكر أن أغلب مصاريف الحاجات العامة وبناء المساجد وحفر الآبار وغيره من خدمات كان تمويلها عن طريق التبرعات ومنها تخصيص البساتين للنفع العام كما فعل طلحة في حائط بيرحاء.

ويذكر أن النبي ﷺ كان نصح عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يحبس رقبة أرض له في خيبر، ويجعل غلتها في سبيل الله، كما دعا عثمان ليشتري مربدًا كان بجوار المسجد ويضمه للمسجد النبوي، وقفًا لله تعالى. وكذلك الحال مع بئر رومة التي جعلها سقاية للمسلمين.

المورد السادس: القروض

استقرض النبي ﷺ لأجل سد حاجة المصالح العامة، فقد اقترض أدرعًا من صفوان بن أمية عند الخروج إلى غزوة حنين، فقال له صفوان وكان مشركًا: أغصب يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل عارية مضمونة”[35].

واقترض ﷺ من أبي ربيعة أربعين ألف درهم وردها من إيرادات بيت المال. كما استقرض زكاة العباس لسنتين كما أسلفنا.

ثانياً – ممتلكات الدولة:

امتلكت دولة النبي ﷺ بعض الموارد الاقتصادية ومنها: أرض البقيع التي حماها رسول الله ﷺ لرعي خيل المسلمين، خارج نطاق الملكية الخاصة.  فضلًا عما يصل من خراج الأراضي المملوكة للدولة والتي كانت تُنفق في مصالح المسلمين وفي توفير السلاح والعتاد.

التنظيم الإداري لحفظ المال العام

تبلورت ملامح التنظيم الإداري لحفظ المال العام مع أول معركة للمسلمين حصلوا فيها على الغنائم، ألا وهي معركة بدر، حيث استعمل النبي ﷺ عبد الله بن كعب بن النجار على غنائم بدر قبل قسمتها، والفتى شقران على الأسرى ثم خصص رجلا يقوم بتقسيم الغنائم، وكان محمية بن جزء بن عبد يغوث، وأُطلق عليه اسم “صاحب الغنائم”، وشكل هؤلاء الأفراد الثلاثة الجهاز الإداري المالي في المدينة، والذي تطور بتوسع الإدارة المالية للدولة حيث ضم إليه التراتيب الإدارية لجمع الزكاة وحفظها وإنفاقها، وشمل ذلك أيضا تنظيم أداء العاملين في هذا الجهاز الإداري من حيث الدوام وتحديد المهام، والصفات التي يجب أن يتصف بها وانضباط لا يظلم معه أحدًا. “وكانت هذه التنظيمات تتناسب مع أهداف الإسلام عامة، في تحقيق معنى العدالة وبناء مجتمع فاضل يقوم أساسه على الرحمة والحب والإخاء والتعاون”.

وشمل التنظيم الإداري المالي أيضا حفظ موارد الدولة التي كانت تصل على أشكال مختلفة فإما على شكل نقدي، من ذهب وفضة ودينار ودرهم أو على شكل عيني من ثمار ومزروعات وحيوانات، فكان لكل صنف مكانا خاصا لحفظه ويولى عليه مسؤول عنه، يحفظه ويحصيه، قال الجهشياري أن حنظلة بن الربيع كاتب رسول الله ﷺ كان مسؤولا عن حفظ وتسجيل جميع ما يدخل من أموال في بيت المال، ثم يرفع تقريره إلى النبي ﷺ في مدة أقصاها 3 أيام، ويقوم ﷺ بتوزيعها فورًا على المستحقين للحاجة إليها، وكانت ترصد أسماء هؤلاء المستحقين قبل التوزيع.

أما الموارد العينية فكانت تحظى بعناية خاصة من الاهتمام والحفظ والتنمية، كي لا تفسد أو تهلك.

صفتان أساسيتان في الاقتصاد الإسلامي

تميّز المذهب الاقتصادي الإسلامي بصفتين أساسيتين: الواقعية والأخلاقية. فهو مذهب واقعي من حيث تلبيته حاجات الناس ورعايتهم وعدم إرهاقهم ومن حيث استهدافه لغايات واقعية يمكن تحقيقها.

كما أنه مذهب أخلاقي يستمد غاياته من أبعاد أخلاقية وليس مادية كما هي الحال في الرأسمالية أو مرتبطة بظروف قوة الإنتاج كما هي في الماركسية.

وفي الواقع فإن النظام الاقتصادي الإسلامي كان الأسبق في تقرير الأصول العامة والقواعد الكلية التي ينبني عليها تقرير النظام الاقتصادي بتطبيقاته المختلفة. من العدالة وتحريم الربا والظلم والغبن الفاحش والغش، وقواعد الملكية والاستهلاك والإنتاج والتوزيع وغيرها، كلها نجدها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة، وفي كتب التفسير والحديث والفقه.

لقد واكب النظام الاقتصادي الإسلامي واقع المجتمع المسلم وتطور أحداثه، في الشدة والرخاء وفي الضيق والسعة.

ربط السلوك الاقتصادي بالعقيدة

ربط الإسلام السلوك الاقتصادي بالعقيدة، فربط الرزق بالإيمان والاستغفار وسلط الضوء على مفهوم البركة وحث على جلب الرزق بالضرب في الأرض وحذر من الحرمان الاقتصادي والمحن والأزمات كعقوبات لإهمال بعض الفرائض أو الواجبات.

من ذلك قوله تعالى (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 130]. وقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: : 96].

وفي الحديث، روى ابن عباس رضي الله عنهما: قال، قال رسول الله ﷺ: “خمس بخمس” قيل يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال: “ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات وأخذوا بالسنين”. [36]

كما وظّفت الشريعة المعالجة الاقتصادية مع الجرائم والمخالفات، فجعلت الدية للقتيل، والتعويض المادي للمتضرر في جسده أو أعضائه، وغيره من توجيهات تنظم علاقات الناس وتحفظ حقوقهم.

الخلاصة

لقد لعبت الدولة الأولى للإسلام دورًا حسامًا في إنجاح السياسات الاقتصادية، بربط السلوك الاقتصادي بالعقيدة، وترشيد هذا السلوك والتركيز على دور القيم الأخلاقية في تنظيم قوى السوق، وتحديد دور الدولة في إدارة الاقتصاد وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية من خلال الزكاة والإحسان، والمسابقة بالخيرات، وحسن استثمار الموارد الاقتصادية والإنتاج الزراعي والحيواني وتشجيع العمل والإنتاجية وتعلم الحرفية والإتقان، وتحريم الربا والنهي عن الإسراف وكل ما يفسد المصالح الاقتصادية من محرم أو ظلم، واعتمدت على الحس الإيماني وحسن الإدارة والرقابة والإصلاح.

وبالمقارنة مع الاقتصاد الحديث، نجده يفتقد بشدة لربط السلوك الاقتصادي بالعقيدة والمحاور الأخلاقية. يقول مالك بن نبي، أن الرأسمالية أهملت العلاقة بين القيم الأخلاقية والقيم الاقتصادية [38]، مما أدى إلى الانفصام بينهما.

ثم قدمت هذه المرحلة -العهد المدني- حجر الأساس في نمو الاقتصاد لاحقًا في عهد الخلفاء والدول الإسلامية المتعاقبة والذي كان معلمًا بارزًا في قوة المسلمين وتفوقهم.

لنخرج بخلاصة مؤلمة عند تحسس درجة الانفصام الحاد بين سمو التعاليم الإسلامية والتوجيهات الربانية لمنظومة اقتصادية متينة ناجحة متكاملة شاملة مرنة، كانت سر نجاح من سبق حين التزموها منظومة تحكم حياتهم، وبين واقع الأمة المرير اليوم.

وهو الواقع الذي لن نتخلص منه قبل العودة لما كان عليه المسلمون في أول دولة في المدينة، وما أعقبها من دول الخلفاء الراشدين، بالتمسك بالشريعة كمنظومة شاملة في الحياة. حكمًا ومنهجًا. قال ﷺ:

تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا الحوض.

ويبقى أهم تحدي أمام عودة الإسلام حاكمًا لحياة المسلمين، قلة اهتمام هؤلاء المسلمين بتاريخهم بما فيه الاقتصادي وعبقريته، وذلك الانهزام النكد للفكرة الغربية في جميع نواحي الحياة.

مع التنبيه إلى حقيقة أن الاستقرار السياسي ونظام الحكم كان ولا يزال العامل الحاسم في تحديد مراحل تطور الاقتصاد الإسلامي، ولن نحلم باقتصاد متين ناجح قبل أن يحكم الإسلام حياتنا من جديد. لقد آن الأوان لعودة حكم الإسلام بعد حجم الفشل والأزمات والمظالم التي بات يعاني منها الاقتصاد العالمي.

 

المصدر: موقع تبيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى