تقارير وإضاءات

حرب التجديد والثوابت.. كيف نفهم المواجهة بين شيخ الأزهر والسلطة المصرية؟

حرب التجديد والثوابت.. كيف نفهم المواجهة بين شيخ الأزهر والسلطة المصرية؟

 

بقلم محمد فتوح

 

تقديم

لم تكن المواجهة الأخيرة التي حدثت بين شيخ الأزهر أحمد الطيب ورئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد عثمان الخشت مجرد اشتباك عابر بين شخصيتين تعملان تحت المظلة السياسية للنظام السياسي الحالي في مصر، فالشيخ أحمد الطيب أصبحت مواجهاته الصريحة ضد مشروع التجديد الديني الذي يرعاه السيسي ظاهرة للعيان وملفتة للنظر، حتى أصبح الكثيرون في حيرة من أمرهم بين مواقف الطيب المتصلبة في حفاظها على الثوابت الدينية ضد مشروع السلطة، ومواقفه السياسية العامة التي تأتي في سياق شرعنة الواقع السياسي الحالي في مصر، يشرح هذا التقرير كيف يمكن فهم سلوك شيخ الأزهر في الحالتين.

https://youtu.be/aYrZ1FS7gck

 

نص التقرير

 “أنا بقول لفضيلة الإمام كل ما أشوفه أنت بتعذبني، فيقولي أنت بتحبني ولا لأ.. ولا حكايتك إيه؟

أنا بحبك وبحترمك وبقدرك وإياكم تكونوا فاكرين غير كده تبقى مصيبة”

(عبد الفتاح السيسي)

في الثاني عشر من ربيع الأول لعام ألف وأربعمئة وأربعين خلت لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقبل أن ينطلق السيسي ليتحدث كعادته في المناسبات الدينية عن “التجديد الديني”، وقف أحمد الطيب، شيخ الأزهر، في مناورة جديدة من مناوراته الإعلامية التي باتت تتكرر بينه وبين السيسي في كل مَحفل رسمي. حذّر الطيب حينها من دعاوى التجديد التي تُنكر السُنة، مضيفا أن القرآن لا يمكن الاستغناء به عن السنة، وواصفا هؤلاء المنكرين بأن الشك والريبة تجمعهم، ليقاطع المستمعون كلامه بتصفيق حار ثناء على كلامه.

 

وعلى ما يبدو، فإن هذا الحديث قد أثار حفيظة السيسي، وهو ما جعله يشتبك مباشرة مع ما قاله الطيب بقوله: “أرجو ألا يفهم أحد كلامي على أنه إساءة لأحد”، وليؤكد أن “الإشكالية في عالمنا الإسلامي حاليا ليست في اتباع السنة النبوية من عدمها، فهذه أقوال بعض الناس، لكن المشكلة هي القراءة الخاطئة لأصول ديننا، وهذه المرة الرابعة أو الخامسة التي أتحدث فيها معكم، كإنسان مسلم وليس كحاكم”. ويتساءل السيسي: “من أساء إلى الإسلام أكثر: الدعوة إلى ترك السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن فقط، أم الفهم الخاطئ والتطرف الشديد؟”.

تبدو مواقف الطيب غامضة على التفسير الطبيعي في المشاهد المتعاقبة، فالطيب الذي وقف خلف السيسي في الانقلاب العسكري، هو ذاته الذي اعتزل في قريته حين مذبحة الفض، والطيب الذي يُخاطب السيسي واصفا إياه “بفخامة رئيس الجمهورية”، هو من يُعاتبه السيسي على الملأ قائلا: “تعبتني يا فضيلة الإمام”، والطيب الذي يتلقى دعما سخيا ومستمرا من الإمارات، هو الصوفي الزاهد في الدنيا ومتاعها! فكيف يفكر شيخ الأزهر؟ وأين يقف في كل موقف يستجد؟! وهل يقف مع السيسي في كل كبيرة وصغيرة أم أنه يتبع ما يُمليه عليه ضميره وحسب؟! أم أن هناك أبعادا متشابكة كوّنت مواقف الطيب ورؤيته؟

المواجهات بين الطيب والسيسي

مناوشة الطيب والسيسي، موقف تكرر في عديد من المناسبات، بداية من طلب السيسي من شيخ الأزهر القيام “بثورة دينية” موجها الحديث له على الهواء مباشرة: “أنتم المسؤولون أمام الله عن ذلك، والله لأُحَاجيكم يوم القيامة”.

وهو المطلب الذي ما فتئ السيسي أن يُكرره على مسامع الأزاهرة، واتخذ أسامة الأزهري، تلميذ عليّ جمعة الأثير، مستشارا دينيا لتحقيقه، ليُعرّض الأخير بالطيب واصفا التجديد بأنه يسير ببطء لتراخي الأزهر، وأن على شيخه مسؤولية جمع الشمل[1]. وهو ما لم يُعره الطيب بالا، فهو مما تأباه خلفيته العلمية، فالطيب، ذو التعليم الأزهري القديم، كتب عددا من أبحاثه حول التراث وأهمية المحافظة عليه من العبث، ومنها بحثه “التراث والتجديد: مناقشات وردود”.

تتابعت حرب التصريحات فيما عُرف “بالحرب على داعش” ومحاولة الحكومة استصدار فتوى من الأزهر تُكفّر تنظيم الدولة، وهو ما تصدى له الطيب بالتفريق بين قِتالهم وتكفيرهم، وأن التنظيم مفسد مستحق للقتال، لكن القِتال لا يلزم منه التكفير، قائلا: “الأزهر ليس ما يطلبه المستمعون! عاوزني أكفّر داعش ولو مكفرتش تقول عليا أنا داعشي.. قول براحتك. لكن التكفير له ضوابط وأنا مش من حقي أن أكفر أحد”[2].

 

بيد أن الأزمة بين شيخ الأزهر وما تطلبه الدولة منه ستطفو على السطح أكثر حين خاطبه السيسي بقوله: “تعبتني يا فضيلة الإمام” مطالبا إياه بإصدار فتوى تُبطل وقوع الطلاق الشفوي. وفي الأسبوع نفسه كان رد هيئة كبار العلماء، والتي يرأسها الطيب، بالرفض لهذا الاقتراح العلنيّ، وهو ما اعتبره البعض محاولة لإيقاف العبث الذي يتم باسم التجديد، لا سيما مع ضم الهيئة لعلماء كبار أظهروا معارضتهم لانقلاب السيسي مثل الشيخ حسن الشافعي ومحمد محمد أبو موسى والمفكر المصري محمد عمارة [أ]. وذيّلت هيئة كبار العلماء بيانها بإشارة ضمنية للحكومة ناصحة “بأن يَصرِفوا جُهودَهم إلى ما ينفعُ الناس ويُسهم في حل مشكلاتهم على أرض الواقع، فليس الناس الآن في حاجةٍ إلى تغيير أحكام الطلاق، بقدر ما هم في حاجةٍ إلى البحث عن وسائل تُيسِّرُ سُبُلَ العيش الكريم”[3].

الطيب والطريق إلى السياسة

في قرية “القرنة” بمحافظة الأقصر، نشأ أحمد الطيب ليجد نفسه في بيت صوفي، فجده الأكبر الشيخ “الطيب الحساني” مؤسس الطريقة “الخلواتية الحسانية” التي تولى والده شؤونها ثم تركها لأخيه الشيخ محمد الطيب.

تعلّم الطيب في الأزهر، فحفظ القرآنَ وقرأ المتون العلميَّة على الطريقة الأزهرية القديمة، ثم التحَقَ بشُعبة العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين بالقاهرة حتى تخرَّج فيها بتفوق وحصل فيها على الدكتوراه عام 1977م، ليرحل بعدها إلى باريس فيُجيد الفرنسية حَدّ الترجمة منها وإليها، إذ ترجم عن الفرنسية بحوثا متصلة بفلسفة المتصوفة [ب].

هذا النمط الصوفي التقليدي، المتمثل في الأزهرية العلمية والطُرقية الصوفية، مع النبوغ العلمي للطيب والإجادة لعدد من اللغات والإيمان بثقافة التعايش العالمي، ساهم في ضم الطيب لصفوة الدولة السياسية، حيث اُختير الطيب عضوا في لجنة السياسات بالحزب الوطني التي ترأسها جمال مبارك. لكن النبوغ العلمي والتصوف الأزهري والانخراط في مؤسسات الدولة لم يُكونوا كافيين بمفردهم لاختيار الطيب في لجنة السياسة، فهناك عامل محوري آخر تمثل في “بُعد الطيب عن الإسلام السياسي وجماعاته”، فقد كان للطيب مواقفه الحازمة تجاه أفرادهم.

ففي عام 2006 قام رئيس جامعة الأزهر بفصل خمسة من طلاب الإخوان [ج] ليتجمع ما يقارب من 3000 طالب أمام مكتب رئيس الجامعة، ويستعرض بعضهم ألعابا قتالية، في عروض تمثيلية تشبه عروض القسام، وهو ما سيُعرف لاحقا بـ “ميليشيات الإخوان”، الذي حُكم فيها  قضائيا على 40 طالبا إخوانيا وبعض القيادات وعلى رأسهم كان خيرت الشاطر وحسن مالك[5]. تكمن المفارقة في أن أحمد الطيب كان رئيس الجامعة [د] في ذلك الوقت الذي تجمهر أمام مكتبه طُلاب الإخوان المحكوم عليهم. لم يتدخل الطيب بالطبع للتخفيف عن الطلاب الأزاهرة المحكوم عليهم، وهو ما يتسق مع شخصية الطيب بوصفه رجل يُعظّم للدولة ومؤسساتها، ويعتبر المؤسسات الدينية جزءا منها.

 

الطريق إلى المشيخة ودين الدولة

“إن مؤسسة الأزهر لا تحمل أجندة الحكومة على عاتقها، لكن الأزهر لا ينبغي أن يكون ضد الحكومة؛ لأنه جزء من الدولة وليس مطلوبا منه أن يبارك كل ما تقوم به الحكومة، وعندما جئت شيخا للأزهر وافق الرئيس مبارك على استقالتي من عضوية المكتب السياسي للحزب الوطني؛ كي يتحرر الأزهر من أي قيد”

(أحمد الطيب)

في العاشر من مارس/آذار 2010 رحل شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، وهو ما جعل المنافسة تحتدم بين أحمد الطيب وعلي جمعة للفوز بهذا المنصب، وهو ما يُرجع إليه البعض جذور الخلاف الذي يلوح بين تيارين داخل الأزهر: تيار علي جمعة، متمثلا في دار الإفتاء، وتيار أحمد الطيب متمثلا في مشيخة الأزهر[6].

منذ تعيين الطيب شيخا للأزهر وحتى ثورة يناير سار الطيب على الخط الرسمي للمؤسسات الدينية التقليدية في مصر، فقد أظهر الولاء لرئيس الجمهورية وللحزب الحاكم، ورفض الطيب أن يُقدم استقالته من الحزب الوطني مُصرحا: “إذا شعرت أن الحزب الوطني يقيّد رسالتي سأستقيل، لكن إذا شعرت أن الحزب يقدم لي دعما وأنا أقدم له رؤية عالمية!”، قبل أن يُرغم في نهاية المطاف على الاستقالة بناء على طلب من رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك.

كان تعامل الطيب مع الأزهر نابعا من إيمان حقيقي باعتبار الأزهر جزءا مُكملا للدولة المصرية وموجها لسياستها وعاملا تحت لوائها، لكن الدولة تمثلت عند الطيب في الحزب الوطني الحاكم، فقد صرّح الأزهر أن الحزب الوطني والأزهر يؤدي كلٌّ منهما وظيفة مختلفة لكنها متكاملة، كالشمس والقمر والليل والنهار، “فالحزب يحتاج إلى الأزهر كي يُسدد وجهته إلى الوجهة الصحيحة، والأزهر محتاج إلى الحزب لكي يقويه”.

https://youtu.be/oHhTMY-PTxw

الشرعية الدينية على الدولة في مقابل الحصول على دعم من الدولة، هذه هي الصورة التقليدية التي درج عليها رؤساء المناصب الدينية الرسمية في مصر، فكان من يتولى أمر الأزهر يشهد المراسم الجمهورية العامة، بينما توفر الدولة الدعم للأزهر فيما يتصل بخصوصية الأزهر ومعالم مناهج النص الديني وتفسيره والتعامل مع التراث والعمل بالسُنة، وهو ما سيشعل الحرب لاحقا بين الطيب ودعاوى التجديد الديني في عهد عبد الفتاح السيسي.

من الثورة إلى استقلالية الأزهر

“اليوم المظاهرات حرام لأنها تُعد خروجا على الدولة وعلى النظام”

(أحمد الطيب)

باغتت أحداث 25 يناير/كانون الثاني المصريين، ولم يتوقع أحد أن تتحول إلى ثورة، فمال أحمد الطيب بالأزهر إلى الاتجاه الرسمي للدولة، وأفتى بحرمة المظاهرات. بيد أن الطيب لم يمنع الأزاهرة من المشاركة في مطالب التغيير واتسع صدره للمشاركين في الثورة، فقد رفض استقالة المتحدث باسم الأزهر المستشار محمد رفاعة الطهطاوي، وهو ما يُعد مفارقة كعادة الطيب في مواقفه[7].

بعد الثورة، عقد الطيب عدة لقاءات لبيان موقفه وموقف الأزهر الرسمي، والتي تنبع من حرص -على حد قوله-، قائلا بأن الأزهر “لم يكن ليمسك بالعصا من الوسط كما قيل، بل أمسك بالعصا وهو يتقلب بين خوفين: خوف قطرة دم تراق من هؤلاء الشباب، وخوف على الوطن أن ينفرط عقده ويدخل فى مجهول لا تُرى فيه يمين من شمال”[8].

وفي وسط الأحداث، استطاع الطيب أن يحصل على ما عُرف بقانون استقلال الأزهر، والذي يضمن “عدم المساس بمنصب شيخ الأزهر وتحصينه ليصبح منصبه مستقلا لا يقبل العزل، بل ويُختار شيخ الأزهر من بين هيئة كبار العلماء ويعامل شيخ الأزهر معاملة رئيس الوزراء من حيث الدرجة والراتب والمعاش”[9].

اعتُبر هذا الاعتراف من أهم المزايا التي حصل عليها الطيب، وهو ما ثبت في دستوري 2012 و2014 والذي يقضي بأن “استقلال الأزهر الشريف وفقا للدستور الجديد، وتعيين رئيس شيخ الأزهر خارج سلطات رئيس الجمهورية، وأصبح تعيينه من مسؤولية هيئة كبار العلماء”.

ويشير بعض المراقبين إلى أن الصراع بين الرئيس والشيخ يبدأ من هذه الحيثية، إذ يرى البعض أن الاستقلال والحصانة التي حظي بها الطيب جعلته يخوض صراعاته مع السيسي بقوة وجرأة. لكنّ منعطفا أشد من الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني كان في انتظار الطيب، إذ تسارعت وتيرة الأحداث ليجد شيخ الأزهر نفسه في معركة هي الأعنف إبان الثلاثين من يونيو/حزيران التي انحاز فيها للقوات المسلحة وعبّر بأنها محل رضاه وثقته.

الطيب على المنصة (30/6)

خلف عبد الفتاح السيسي، وعلى مقربة من تواضرس، بابا الإسكندرية، وممثل عن حزب النور، ومحمد البرادعي، وقف الطيب لإلقاء كلمته أمام الأمة المصرية فيما يتصل بالثلاثين من يونيو/حزيران. دعا الطيب لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة وإلغاء فترة الحكم لمحمد مرسي، وهو ما مثّل انحيازا إلى السيسي ودوره في الانقلاب، وقد اعتُبر هذا المشهد مخيبا لآمال الكثيرين.

لكن المواقف المتعددة، والتي ستحل بعد قليل من الطيب، تُنبئ بأن شيئا ما غير مفهوم في موقف الرجل، إذ إن الطيب الذي ظهر في موقف الثلاثين من يونيو/حزيران مؤيدا، سيرفض -بعد قليل- عنف الجيش ضد المتظاهرين الذي بدأ بأحداث الحرس الجمهوري، إذ طالب الطيب “في تصريحات للتلفزيون الرسمي للدولة بفتح تحقيق في الأحداث وتشكيل لجنة للمصالحة الوطنية وإعطاء اللجنة صلاحيات كاملة والإعلان عن جدول للفترة الانتقالية التي لا يجب أن تزيد على ستة أشهر، وإطلاق سراح جميع المعتقلين، ثم أعلن اعتكافه في بيته رفضا للأجواء التي تفوح منها رائحة الدماء -وفقا لقوله-“[10].

https://youtu.be/hvg8O62p1bE

سيتكرر الموقف بعد فض رابعة، إذ دعا الأزهر إلى الحوار ووقف نزيف الدم وأنه لم يكن على علم بما جرى قائلا: “وإيضاحا للحقائق وإبراء للذمة أمام الله والوطن يعلن الأزهر للمصريين جميعا أنه لم يكن يعلم بإجراءات فض الاعتصام إلا عن طريق وسائل الإعلام صباح اليوم”[11].

قوة الطيب ومناوراته مع السيسي

خرج الطيب من عُزلته وعاود الظهور للحياة العامة وسط إجلال وحفاوة من رجالات الدولة، وقد امتلك الطيب عددا من مقومات القوة التي أهّلته لأن ينال مكانة بين الناس، وتتمثل نفوذ الطيب في نفوذ المشيخة حول العالم، ومحبة الأزهريين لشيخها، والحصانة التي حصل عليها الطيب في منصبه. كل ذلك إضافة إلى علاقاته القديمة بالتصوف ومشايخ الطُرق ورجالات الحزب الوطني ذوي النفوذ في الدولة، وهو ما أكسب الطيب نقاط قوة في تعبيره عن رأيه.

لكنّ الطيب حاز شيئا آخر لا يقل أهمية عن ذلك، وهو دعم الإمارات له وللمشيخة مقابل استمالته في المشاريع الإسلامية التي بدأت في نشرها في العالم الإسلامي من 2013. أتى الطيب على رأس مجلس حكماء المسلمين، ذي الخلفية الإماراتية، وحرصت الإمارات على ظهور الطيب في مناسباتها الدينية، وقد احتفت أبوظبي بالشيخ الطيب فأعطته عددا من الجوائز، منها جائزة الشيخ زايد الثقافية لعام 2013، وسخّرت طائرة خاصة لتنقّلاته[12]، ومنحته مئتي تأشيرة حج سنوية على نفقتها لأحبابه[13].

كان ظهور الطيب في مشاريع الإمارات بمنزلة تأسيس لمرجعية سُنية جديدة في العالم الإسلامي وليس ظهورا شرفيا عابرا، وهو ما عزز من حضور دور شيخ الأزهر العالمي وليس المصري فقط، وهو ما جعل السيسي يخاطبه في أحد اللقاءات قائلا: “أنا بحب الإمام وعارف دور الأزهر ومقدره كويس في مصر والعالم كله”.

أحمد الطيب ومواقفه.. محاولة للفهم

“لن يستطيعوا التغلب على هذا المخ الصعيدي”

بتتبع هذه السياقات المختلفة يمكننا أن نفهم شخصية أحمد الطيب واختياراته في مواقفه المختلفة. فأحمد الطيب، ابن الصعيد، شخصية هادئة لكنها عنيدة فيما تعتقده ولا يقبل التنازل بسهولة، وهو ما يجعل نَفَسه طويلا في المعارك التي يخوضها حتى تكون له الغلبة. وعلى الرغم من الغارات التي يشنّها الطيب في مخالفة ما تتبناه الدولة من مفهوم “تجديد الدين”، فإن حرصه على استمرار الدولة ومؤسساتها وعدم المساس بها هو ما يُحركه، والذي يعتبر الأزهر جزءا منها.

أدّت نشأة الطيب في الصوفية الطُرقية إلى القبول بموقف الدولة من الإسلام السياسي، وزاد من ذلك  عدم انتماء الطيب إلى مفاهيم الحركة الإسلامية في تطوراتها المتواليه، وهو ما يعكس حدّة في تصريحاته من التيارات الإسلامية الخارجة عن النطاق المعتاد للدولة، لا سيما الإخوان المسلمين، على العكس من تصريحات شيوخ آخرين في هيئة كبار العلماء مثل حسن الشافعي ومحمد عمارة، نظرا لجمعهم بين الأزهر والحركة في فترات من حياتهم.

وتكمن منازعات الطيب والسيسي فيما يتصل بملف “تجديد الخطاب الديني”، إذ يريد السيسي عمل قطيعة مع التدين الأزهري العام وتعاطيه مع التراث وعلوم الدين، للخروج بأقوال أكثر عصرية تُساعد في حرب التيارات الدينية صاحبة الفهم المغلوط للدين -على حد تعبيره-.

أما الطيب فيرى أن مجابهة التيارات المتشددة لا يأتي بالقطيعة مع التراث أو تغيير مناهج الإسلام، وإنما بالحجة ونشر صحيح الإسلام. ويعتبر الطيب، ومن خلفه لجنة كبار العلماء، أن المساس بهذه القضايا إنما هو مساس بهُوية الأزهر الدينية وثوابت الأمة الإسلامية، وهو ما يُفسر اهتمام الأزهر الواسع بالإعلام المصري والردود التي يطلقها على أفكار التنوير المصري التي تُبث فيه وعقد المناظرات مع أربابها أو إصدار بيانات في حق أصحابها، وبيان ثبوت القرآن وحجية السنة والدفاع عن كتبها كالبخاري ومسلم وكتب السُنن، وكذا الدفاع عن التاريخ الإسلامي.

ويتولّى الطيب بنفسه التأكيد على هذه المفاهيم التراثية والدخول فيها شخصيا، فعلى سبيل المثال، رفع مكتب شيخ الأزهر بلاغا للنائب العام يطلب فيه وقف برنامج إسلام البحيري الذي يبثه من إحدى الفضائيات المصرية، وجاء في نص البيان أن طلب إيقافه إنما هو “اعتراض على ما يبثه من أفكار شاذة، تمس ثوابت الدين، وتنال من تراث الأئمة المجتهدين المُتفق عليهم، وتسيء لعلماء الإسلام، وتعكر السلم الوطني، وتثير الفتن”[15]. كل ذلك لما تُمثّله هذه المعارك من هوية أزهرية يرى شيخ الأزهر أن مهمته في الحفاظ عليها لا تقل عن الوقوف مع الدولة.

وهو الموقف ذاته الذي تتخذه الدولة، إذ تحاول فتح حرية الحركة أمام الأزهر في المجال الديني بشرطين اثنين: تكثيف مقاومة الإسلام المتشدد، والذي يُقصد منه جماعة الإخوان، وعدم المساس بالمشاريع التي تتبناها الدولة باسم التجديد.

ومن هنا يمكننا تفسير العديد من المواقف التي قد تبدو للوهلة الأولى غامضة عند الشيخ الطيب، والمناوشات التي يشنها الطيب بين زمن وآخر، ومن أي نقطة يفكر الطيب في إدارة صراعاته مع السيسي مستصحبا هويته الأزهرية، ومن أين يبدأ وأين ينتهي، وما نقاط القوة التي يتكئ عليها.

________________________________________

الهوامش:

[أ] تكثر الأقاويل الشفهية من تلاميذهم بأن بعض أعضاء هيئة كبار العلماء غير الراضين عن السلطة يتمسكون بالطيب بشدة ويمنعونه من الاستقالة حتى لا يأتي رجل أسوأ.

[ب] خصوصا فلسفة محيي الدين بن عربي، ومن ترجماته: “مؤلفات ابن عربي تاريخها وتصنيفها” و”الولاية والنبوة عند الشيخ محيي الدين بن عربي”.

[ج] فيما عُرف بالاتحاد الحُر، وهو اتحاد طُلاب صوري/شعبي لجأ إليه الإخوان حين ضيّق عليهم نظام مبارك الدخول إلى الاتحادات الطلابية.

[د] وقد أضاف الطيب مواد حديثة للجامعة وساهم في تطوير مناهجها مثل مادة الأسانيد وغيرها من المواد.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى