كتب وبحوث

تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 10 من 10

تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 10 من 10

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

كاتب بيان ثورة يوليو شاهد على سلبيَّات النَّاصريَّة وأسباب هزيمة 67

حلَّ اللواء أركان حرب محمود جمال الدّين إبراهيم حمَّاد، وهو أحد الضُّبَّاط الأحرار وكاتب البيان الأوَّل لثورة يوليو 1952م، ضيفًا على برنامج “شاهد على العصر”، الذي أذاعته قناة الجزيرة القطريَّة وقدَّمه الإعلامي المصري الشَّهير أحمد منصور ما بين يوليو 2008م وفبراير 2009م، في سلسلة من 9 حلقات، أدلى خلالها بشهادته على الحُقبة النَّاصريَّة، التي كان هو أحد رجالها وكبار مسؤوليها بدءً من كتابة بيان ثورة يوليو 1952م. فقد تدرَّج حمَّاد في المناصب القياديَّة في الجيش، حتَّى صار قائد منطقة العريش العسكريَّة، ثمَّ أُجبر على ترْك الجيش، ليصبح محافظًا لكفر الشَّيخ، ثمَّ المنوفيَّة. عُرف عن اللواء حمَّاد ميله إلى التَّأليف، وبخاصَّة في مجال التَّاريخ، ومن بين ما كَتَب من سيناء إلى الجولان (1988م) والحكومة الخفية في عهد عبد النَّاصر وأسرار مصرع المشير عامر (2008م)، وقد لُقّب حمَّاد بـ “مؤرّخ الثَّورة” من كثرة ما قدَّمه من كتابات عن ثورة يوليو، شُهد لها بالإنصاف.

تناولت ثامن حلقات سلسلة شهادة اللواء أركان حرب جمال حمَّاد على الحقبة النَّاصريَّة، تقييمه لحرب الأيَّام الستَّة، ورأيه في أسباب الهزيمة. يبدأ الحديث بالإشارة إلى تدخُّل المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للجيش، في شؤون الحُكم، لدرجة أنَّ مصر كانت تُدار من مكتب مساعده، اللواء شمس بدران، ممَّا أضرَّ بقدرة الرَّئيس جمال عبد النَّاصر على إدارة شؤون البلاد خلال الفترة ما بين عاميّ 1962 و1967م. فوجئ اللواء حمَّاد في تلك الفترة، وتحديدًا عام 1965م، بتعيينه محافظًا لكفر الشَّيخ من الصُّحف اليوميَّة، برغم تمسُّكه بموقعه في الجيش وإدراكه مدى حساسيَّة الموقف حينها. كان حمَّاد يتلقَّى حينها دورة عالية المستوى في العلوم العسكريَّة، مع كبار قادة الجيش المصري، على يد مجموعة من الجنرالات السُّوفييت، ممَّن شاركوا في الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، وكانوا على علم غزير بأساليب إدارة الحروب. عن حالة الجيش المصري حينها، يقول حمَّاد أنَّها “كانت صعبة للغاية”؛ لأنَّ جزءً كبيرًا من قوَّاته كان في اليمن، ولم يكن الجزء الباقي في القاهرة يُعطى الاهتمام الكافي؛ “لأنَّ كلَّ المخّ والاهتمام والاتّجاه كان لحرب اليمن”. وعن سؤاله عن تقييمه لـ “المغامرة بالجيش في أماكن بعيدة”، في سوريا واليمن والكونغو، وترْك الجبهة مع العدوّ الصُّهيوني، يجيب حمَّاد بأنَّه لم يكن يميل إطلاقًا إلى ما حَدَث في اليمن، خاصَّةً وأنَّ هدفها كان إسقاط النَّظام القائم على الإمامة وتوارُث الحُكم، وهو لم يرَ ضررًا في ذلك، مع وجود أنظمة ملكيَّة قائمة في العالم العربي حينها، بل ويعترف بأنَّ الإمام محمد البدر بن حميد الدين، آخر حُكَّام المملكة المتوكليَّة، كان يريد الإصلاح، وقد أسفرت محاربته عن توتير العلاقات مع السَّعوديَّة، التي كانت تسانده.

تحفَّظ اللواء حمَّاد في الرَّد على تعليق المحاور بأنَّ البعض اعتقد أنَّ في إرسال الجيش للمشاركة في حروب لا دخلَ لمصر فيها كان “مؤامرة لتدمير الجيش” وإفساح المجال لإسرائيل لتعزيز قوَّتها، مكتفيًا بقوله إنَّ “من الغريب أن نبعث بقوَّات على مسافة أكثر من 2500 كيلومتر جنوبًا، ونضطر إلى إرسال تعزيزات مستمرَّة”، أنهكت قوَّة الجيش وأرهقت ميزانيَّة الدَّولة حينها. ثمَّ يعترف حمَّاد بأنَّنا “تركنا العدو الرئيسي (إسرائيل)، وذهبنا إلى ميدان ثانوي” دون الحاجة إلى ذلك، خاصَّة وأنَّ اليمنيين كانوا غير راضين عن التَّدخُّل المصري، على حدّ قوله. لم تكن هناك استعدادات لمواجهة إسرائيل وقتها؛ لأنَّه “لم يكن من الممكن لمخلوق أن يظنَّ أنَّ مصر تستطيع أن تحارب إسرائيل في ذلك الوقت“، وبرغم الاستعدادات الإسرائيليَّة للمواجهة الحربيَّة منذ عام 1956م تقريبًا، والتي كان من بينها إعداد القادة العسكريين للحرب، في الوقت الذي كان يشهد إبعاد كبار قيادات الجيش إلى العمل الإداري، وكان حمَّاد من بين هؤلاء. وكان سبب الإبعاد هو التَّخوُّف من شعبيَّة كبار القادة وإمكانيَّة تأثيرهم على الأفراد بما لا يتوافق مع مصلحة السُّلطة، ولو كان ذلك ضدَّ مصلحة البلاد. يشير اللواء حمَّاد إلى أنَّ قبيل حرب 5 يونيو 1967م، استُبدلت القيادات النابهة بـ “طائفة من القادة كلّهم من أهل الثّقة وأهل الفرفشة، ولم يكن فيهم أحد من النَّاس النَّابهين“، وكانت محاولة تدارُك الأمر متأخّرة، حيث جرى تغيير هؤلاء القادة قبل الحرب بساعات، وكانت النَّتيجة أنَّ القادة الجدد كانوا يجهلون كافَّة التَّفاصيل الضَّروريَّة في ذلك الحين، “وتلك كانت كارثة كبيرة، من ضمن أسباب الهزيمة“، كما اعترف حمَّاد.

يتحدَّث حمَّاد عن الاستعدادات الأخيرة للحرب، بالإشارة إلى إرسال كافَّة القوَّات المصريَّة إلى شرق القناة، بما في ذلك الفرقة الرَّابعة المدرَّعة، وهي فرقة “الاحتياطي الاستراتيجي” للجيش، على حدّ وصْف اللواء. ويلقى حمَّاد باللوم في ذلك على المشير عامر، برغم وجود قائد للجبهة، هو الفريق عبد المحسن مرتجي؛ لأنَّ عامر كان المتصرّف الأوَّل. كان من المفترض أن يعطي الرَّئيس عبد النَّاصر للمشير الأهداف الاستراتيجيَّة السَّليمة، التي على أساسها توضع الخطط، لكنَّ ذلك لم يحدث، ولم يكن هناك استراتيجيَّة مدروسة أو تكتيك، ومن أمثلة ذلك خلوُّ القاهرة من كافَّة الجنود وقت الحرب. وبسؤاله عن إمكانيَّة وجود مؤامرة وراء ما حدث، أجاب اللواء بما يفيد عدم استبعاده لذلك، ويعزّز قوله بأن ينسب إلى حسين الشَّافعي، القائد العسكري والسّياسي المصري، وأحد أعضاء حركة الضباط الأحرار ونائب رئيس جمهوريَّة مصر العربيَّة خلال الفترة من بين عاميّ 1963 إلى 1975م، القول بوجود خيانة، خلال شهادته على العصر في نفس البرنامج ومع المحاور ذاته. بدا الأمر وكأنَّما مصر وُضعت في أيدي مجموعة من المقامرين، خاصَّة وأنَّه قد تردَّد أنَّ القيادة العليا في الجيش وصلتها معلومات عن إمكانيَّة اندلاع حرب يوم 5 يونيو تحديدًا، كما ينقل المحاور عن بعض اللواءات.

يشير المحاور إلى اعتراف مراد غالب، وزير الخارجيَّة المصري الأسبق وسفير مصر إلى الاتّحاد السُّوفييتي وقت اندلاع حرب الأيَّام السّتَّة، له بأنَّه أبلغ الرَّئيس عبد النَّاصر بما وصله من السَّفير الأمريكي إلى موسكو، عن نيَّة إسرائيل ضرْب مصر يوم 5 يونيو، مضيفًا أنَّ جوزيف بروز تيتو، رئيس يوغوسلافيا (1953-1980م)، أبلغ عبد النَّاصر بنفس الرّسالة؛ “مع ذلك، تُرك الجيش المصري ليُدمَّر ويُحرق في 5 يونيو”، كما علَّق المحاور. في حين يذكر اللواء حمَّاد أنَّ الرَّئيس عبد النَّاصر قد أبلغ القيادات بموعد الحرب، لكنَّ المشير عامر استخفَّ بذلك قائلًا “وهل كان ينجّم؟ كيف عرف الموعد؟!”. ويعلّق المحاور بالإشارة إلى شهادة حسين الشَّافعي برؤيته للطَّائرات يوم 5 يونيو 1967م في مطار فايد وهي مرصوصة، الجناح إلى جانب الجناح، وكأنَّما كان من المقصود تدميرها. ورأى اللواء حمَّاد أنَّ المصيبة الحقيقيَّة كانت في إصرار الرَّئيس عبد النَّاصر على أن يتلقَّى قائد الطَّيران الضَّربة الأولى، برغم معرفته بموعد الحرب، بشهادة أكثر من شخص من أهل الثّقة.

يعلّق اللواء حمَّاد على تصرُّف الرَّئيس عبد النَّاصر وخطابه للتَّنحي، الذي اعتبره عاطفيًّا ومؤثّرًا، أكثر منه واقعيًّا ومعبّرًا عن حجم الكارثة، وكأنَّما أراد الرَّئيس أن يقول للنَّاس تمسَّكوا بي، كما أنَّ الخطاب أوهم الشَّعب بأنَّ الحرب كانت مؤامرة، مثل العدوان الثُّلاثي أواخر عام 1956م، كما ألقى فيه بالمسؤوليَّة على قوى الاستعمار، وبرغم ذلك أبدى استعداده لتحمُّل المسؤوليَّة، وكأنَّما هو لم يكن مسؤولًا. يردف اللواء جمال حمَّاد بقوله إنَّ القوَّات المصريَّة المنسحبة من سيناء إلى القاهرة كانت لم تزل تعود سيرًا على الأقدام، والطَّيران الإسرائيلي يقصفهم، وينشر تصويره لانسحابهم غير المدروس، ورعبهم من القصف عبر وسائل الإعلام الغربيَّة، وكانت إسرائيل في موقف المدافع عن نفسه أمام التَّهديد العربي. وهنا يشير المحاور إلى شهادات الكثير من أفراد القوَّات المسلَّحة عن المحنة الرَّهيبة التي مرُّوا بها في عودتهم إلى القاهرة، وقد ورد بعضها في كتاب مذبحة الأبرياء في 5 يونيه (1988م).

لقطة مصوَّرة لجنود الجيش المصري في خضوعهم للعدوان الإسرائيلي

يعترف القائد العسكري المشارك في ثورة يوليو 1952م بأنَّ “مصر لم تكن تستحق الذين حكموها” لأنَّهم “حطَّموا سمعة مصر وسمعة الجيش المصري”، وبأنَّ هزيمة يونيو كانت “أشنع هزيمة في تاريخها”، وإن لم ينكر أنَّ للثَّورة إيجابيَّات، كما لم ينكر تهوُّر القيادات الكبرى لمصر وعدم اتّصافهم بالرُّشد، ردًّا على ما نقله المحاور عمَّا قاله عبد الَّلطيف البغدادي، وهو أحد الضُّبَّاط الأحرار ومسؤوليّ مصر خلال الحقبة النَّاصريَّة، في مذكّراته الصَّادرة عام 1977م. يعارض حمَّاد مزاعم انتحار المشير عبد الحكيم عامر في سبتمبر 1967م، مؤكَّدًا أنَّ “نحره…كان لمصلحة عبد النَّاصر”، مشيرًا إلى محاولة عامر تدبير انقلابًا عسكريًّا، اعتراضًا منه على استمرار عبد النَّاصر في الحُكم. المفارقة أنَّ خطَّة الانقلاب كُشفت للرَّئيس عبد النَّاصر، وهنا يشير حمَّاد إلى وجود “جواسيس” على عامر لصالح عبد النَّاصر أوفقوا الخطَّة؛ والسُّؤال: إذا كان هناك جواسيس أبلغوا الرَّئيس بخطَّة الانقلاب، فلماذا لم يبلغوه من قبل بالتَّجاوزات المؤدّية إلى الهزيمة؟! نجح عبد النَّاصر، كما يشير حمَّاد، في خداع عامر وإيهامه بأنَّ سيسافر معه للمشاركة في مؤتمر الخرطوم؛ فذهب عامر للقائه، ظانًّا أنَّ الأمور بينهما هدأت، وألغى ترتيب الانقلاب، رغم تحذير المخلصين له. غير أنَّ عامر اكتشف أنَّ الأمر مكيدة شارك فيها السّكرتير الشَّخصي لعامر نفسه. في النّهاية، يعبّر اللواء حمَّاد عن مشاركته محمَّد نجيب رأيه بأنَّه لو كان يعرف ما ستؤول إليه الأمور لاحقًا لما شارك في الثَّور، وهو، أي حمَّاد، على رأس قائمة الضُّبَّاط الأحرار. أرسل اللواء في آخر كلماته رسالة غير مباشرة لنظام مبارك، الذي كان لم يزل يحكم مصر، بتعبيره عن أمنيَّته بتطبيق الدّيموقراطيَّة وعدم تزوير الانتخابات وإلغاء قانون الطَّوارئ.

شهود عيان على ‘مذبحة الأبرياء في 5 يونيه’

جمع الصحافي المصري الشَّهير وجيه أبو ذكري شهادات أفراد القوَّات المسلَّحة المصريَّة بشأن ما حدث في حرب 5 يونيو 1967م، في كتاب ينبئ عنوانه عن مدى المعاناة التي لاقاها الضُبَّاط والمجنَّدون في مواجهة العدوان الإسرائيلي على سيناء في أوَّل أيَّام حرب الأيَّام الستَّة. نشَر أبو ذكري كتابه مذبحة الأبرياء في 5 يونيه في طبعته الأولى عام 1988م، ليواجه سيلًا من الانتقادات والتَّنديدات، ووصل الأمر إلى حدّ مصادرة الكتاب من الأسواق فور طرحه، ليُفرج عنه بعد التَّحقُّق من عدم احتوائه على ما لا يجب تعريف النَّاس به. يقول أبو ذكري في مقال نشره في 10 يونيو 1988م، عن الإفراج عن كتابه، أنَّ الكتاب “يكشف المسئولين الحقيقيين عن هزيمة 5 يونيو بالوثائق والمستندات، ولقاءات قادة حرب يونيو 1967″، مندّدًا بالممارسات القمعيَّة لطمس الحقائق.

‘المذبحة’ كما يؤرّخها أبو ذكري

يخصّص وجيه أبو ذكري فصلًا منحه عنوان ‘المذبحة’ يستعرض فيه أحداث يوم 5 يونيو منذ بدايته، مشيرًا اطمئنان إلى عدم وجود حرب، لدرجة أنَّ بعضهم يخطّط للسَّفر إلى غزَّة لشراء بعض الأغراض الشَّخصيَّة. وفجأة، وبدون نُذُر مسبقة، بدأ الطَّيران الإسرائيلي في قصْف المطارات المصريَّة في وقت واحد، لتصبح السَّيادة الجويَّة لإسرائيل بالكامل، ولينهي الطَّيران الإسرائيلي مهمَّته في أقل من 3 ساعات، بتدمير الطَّيران المصري “تدميرًا كاملًا” (ص286). ويعلّق أبو ذكري على عدم إبداء القيادة العامَّة في القاهرة الاهتمام الواجب في تلك الفترة العصيبة بقوله “تحوَّلت غرفة العمليَّات التي يقود منها المشير معركة مصير أمَّة إلى مقهى بلدي للأصدقاء من أعضاء مجلس قيادة الثَّورة، يشاركونه-أحيانًا-في قيادة المعركة حتَّى انهار المشير وأصدر القرار ((السياسي)) بالانسحاب وخرَج من غرفة العمليَّات، وترَك القوَّات المنسحبة بلا قيادة عليا” (ص286). وينسب أبو ذكري الهزيمة السَّاحقة إلى قرارين للقيادتين السّياسيَّة والعامَّة لمصر، أي الرَّئيس عبد النَّاصر والمشير عامر، هما قرار الرَّئيس يوم 2 يونيو 1967م بانتظار الضَّربة الأولى من إسرائيل ثمَّ الرَّد، وليس شنّ ضربة استباقيَّة، وقرار انسحاب القوَّات غرب القناة خلال 24 ساعة تخطيط لتفادي الفوضى والخسائر، ودون غطاء جوّي. ويشير أبو ذكري إلى إجماع العسكريين على أنَّ هذين القرارين أفضيا إلى الكارثة المحقَّقة؛ فالأوَّل “دمَّر الطَّيران المصري بالكامل”، والثَّاني “دمَّر القوَّات البريَّة بالكامل” (ص297).

وينقل أبو ذكري عن الفريق محمَّد فوزي، رئيس العمليَّات خلال الحرب، شهادته على الانسحاب الفوري، حيث قال فوزي إنَّ المشير اتَّصل به يوم 6 يونيو 1967م بعد الظُّهر، وأمره بوضع خُطَّة للانسحاب من سيناء إلى غرب قناة السُّويس خلال “20 دقيقة فقط” (ص295). استجاب فوزي لأمر المشير، وأُعدَّ خطَّة كان من المفترض تنفيذها خلال 4 أيَّام و3 ليالٍ؛ فاندهش المشير، الذي أراد خطَّة للانسحاب الفوري، ليترك الفريق فوزي ومرافقيه إلى غرفة نومه “بطريقة هستيريَّة” (ص296). يصف الفريق صلاح الحديدي، كما يعرض أبو ذكري، الانسحاب الفوري الفوضوي بأنَّه أتى بخلاف ما كان مقصودًا من ورائه؛ فقد أُصدر القرار للحفاظ على حياة أفراد الجيش، وكانت النتيجة هي أنَّه “كلَّفنا أضعاف ما كان يُحتمل أن يصيبنا من خسائر لو قاتلنا المعركة بدفاع وتروٍّ أو حتَّى قمنا بعمليَّة الانسحاب كوحدات وتشكيلات منظَّمة تأتمر بأوامر القادة والقيادات…وتنفيذ التَّعليمات بطريقة عسكريَّة صحيحة…وكلُّهم في عُمر الزُّهور قدَّموا حياتهم دون مقابل…رخيصة بلا هدف حقُّقوه…لفظ أكثرهم أنفاسه الأخيرة في ظروف غير إنسانيَّة…قاسوا فيها آلام الجوع والعطش وضربة الشَّمس…ونزف الجرحى منهم أنفاسهم الذَّكيَّة فوق رمال الصَّحراء…المحرقة” (ص298-299). وبشأن هويَّة متَّخذ قرار الانسحاب الفوري، يحسم أبو ذكري التَّساؤلات في هذا الشَّأن بالإشارة إلى ما أورده عبد الَّلطيف البغدادي في مذكّراته، بأنَّ عرف من زكريَّا مُحيي الدّين، مؤسّس جهاز المخابرات المصريَّة، أنَّ عبد النَّاصر هو الذي أخذ قرار الانسحاب “لينقذ أولادنا”، بعد أن كانت الطَّائرات الإسرائيليَّة تقصف المدرَّعات في الصَّحراء، وكان لا بدَّ من سحبها إلى الأراضي الزّراعيَّة (ص301).

شهادة عبد الَّلطيف البغدادي على تفاصيل إدارة الحرب

ينقل وجيه أبو ذكري عن عبد الَّلطيف البغدادي، السّياسي والعسكري المصري الذي فارق العمل في إدارة عبد النَّاصر لمَّا “شعُر في وقت مبكر بأنَّ البلاد مقبلة على كارثة لا محالة”، لكنَّه سارَع بالعودة إلى المشهد لمَّا اقتضت الضَّرورة (ص307). يروي البغدادي أنَّ “هؤلاء الذين كانوا يديرون معركة مصير أمَّة، لا يصلحون للجلوس في غرفة عمليَّات لتسيير مترو، بل هم فشلوا-من قبل-في إدارة مرفق مترو العاصمة” (ص307). توجَّه البغدادي إلى مبنى القيادة العامَّة، وقصد غرفة إدارة العمليَّات، مشيرًا إلى اطّلاعه على مكالمة للفريق محمَّد صدقي محمود، قائد القوَّات الجوّيَّة، كان يبكي فيها منهارًا، وحاول المشير عامر تهدئته، بعد أن كاد يفقد السَّيطرة على نفسه. ومن المفارقات الدَّاعية للانتباه أنَّ البغدادي يروي أنَّه حضر اجتماعًا ضمَّ كبار القيادات، وعلى رأسهم عبد النَّاصر، في خضمّ الكارثة، وكان الجميع يرى ضرورة خروج الرَّئيس والمشير من المشهد، ولو بالانتحار (ص314):

وجلسنا دون أن نتكلَّم-وكلُّ منَّا يهمس في أُذُن الآخر-لا بدَّ أن ينتحر جمال أو يستقيل فورًا على الأقلّ-وأن ينتحر عبد الحكيم، وشعرنا بالكابوس وقد ازداد ضغْطه على كلّ مَن بالغرفة حتَّى أنَّنا كنَّا نشعر أنَّنا نكاد نختنق ولا نستطيع التَّنفُّس-ورغبتنا في الانصراف من هذا الجو…

ويعلّق البغدادي في ختام شهادته على ذلك الموقف، بتساؤله “الذين فشلوا في إدارة مرفق مواصلات القاهرة…كيف ينجحون في إدارة معركة عسكريَّة يُحدَّد فيها مصير أمَّة” (ص314).

 

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى