كتب وبحوث

تاريخ حلّ الدَّولتين منذ الانتداب البريطاني حتَّى صفقة القرن 2من 6

تاريخ حلّ الدَّولتين منذ الانتداب البريطاني حتَّى صفقة القرن 2من 6

 

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

 

بداية الدَّعوة إلى تأسيس دَّولة ثنائيَّة القوميَّة

كما يذكر بيني موريس، إذا كان المؤرّخون التَّعديليون (Revisionists) يرون أنَّ حدود دولة إسرائيل تتخطَّى نهر الأردن، وإذا كان التَّيَّار الليبرالي والاشتراكي في الصُّهيونيَّة طالَب بتأسيس دولة تمتدُّ من البحر المتوسّط ونهر الأردن، فقد كان هناك فريق آخر يؤيّد المخطَّط الصُّهيوني لتأسيس دولة، عبرة عن مركز يهودي في الأرض المقدَّسة وتشجيع الهجرة اليهوديَّة إليه، ولا يمانع في الوقت ذاته أن تكون تلك الدَّولة ثنائيَّة القوميَّة، أي يهوديَّة وعربيَّة معًا، وأن تُحكم من خلال إدارة عربيَّة-يهوديَّة مشتركة. بدأ الحديث عن ذلك المفهوم للدَّولة منذ سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين (1920-1947م)، وكان من أكبر من المؤيّدين لتلك الفكرة حركة بريت شالوم (ברית שלום‎)، أو تحالُف السَّلام، الَّذي شكَّله مجموعة من المفكّرين اليهود المؤمنين بالعالميَّة (Universalism)، وكذلك حركة هشومير هاتزير (הַשׁוֹמֵר הַצָעִיר)، أو الحرَّاس الشَّباب، والَّتي تحوَّلت لاحقًا إلى حزب سياسي.

 أُسّست حركة بريت شالوم عام 1926م، على يد مجموعة من الأكاديميين الوافدين من أوروبَّا، والملتحقين بالجامعة العبريَّة، أوَّل جامعة تُؤسَّس في إسرائيل، وكانت الشَّرارة الباعثة لتأسيسها زيارة قام بها جوزيف هورويتز، مؤسّس معهد دراسات الشَّرق الأوسط في الجامعة، إلى مصر، تبيَّن له أنَّ الإسلام ينهض، وأنَّ العلماء المسلمين معادون للصُّهيونيَّة. نقل هورويتز ذلك إلى آرثر روبين، عالم الاجتماع والاقتصاد والزَّعيم الصُّهيوني ومنظّم المستوطنات الزّراعيَّة في فلسطين التَّاريخيَّة، خلال اجتماعه به في منزله في 26 أبريل 1925م، معربًا عن أمله أن يتعاون العرب واليهود معًا. نقل روبين تلك الفكرة إلى زعماء الصُّهيونيَّة خلال المؤتمر الصُّهيوني في فيينا ذلك العام، مشيرًا إلى أنَّ “فلسطين ستصبح دولة لأمَّتين” (ص46). يتَّفق ذلك مع ما كتبه الصُّحافي الألماني روبرت ويلتش، حينما رأى أنَّ مستقبل فلسطين مرتبط بتعايش العرب واليهود، قائلًا “لا نريد دولة يهوديَّة، بلا مجتمعًا ثنائي القوميَّة في فلسطين…نريد أن نعود شرقيين من جديد”، كما أوردت سوزان هاتيس في كتابها The Bi-National Idea on Palestine in Mandatory Times-فكرة القوميَّة الثُّنائيَّة في فلسطين في زمن الانتداب (1970م)، نقلًا عن موريس (ص46).

 كما أُعلن عنه عام 1928م، كان هدف بريت شالوم هو تعزيز التَّفاهم بين العرب واليهود وإتاحة سُبل للتَّعاون في إسرائيل على أساس المساواة في الحقوق السّياسيَّة، مع فتح آفاق واسعة للتَّنمية. وفي عام 1930م، نشرت الحركة، الَّتي كان كافَّة أعضائها من اليهود، مذكّرة طالبت فيها بـ “تأسيس دولة فلسطينيَّة…تتكوَّن من شعبين، يتمتَّع كلٌّ بحريَّة إدارة أموره الدَّاخليَّة، ولكن يتَّحد الشَّعبان في المصالح السّياسيَّة المشتركة، على أساس من الحريَّة الكاملة”، كما أوردن سوزان هاتيس في كتابها آنف الذّكر (ص51-52). غير أنَّ الحركة بدأت تتفكَّك في أغسطس 1929م، على خلفيَّة أعمال شغب قام بها عرب حصدت أرواح أكثر من 130 يهوديًّا، وسط رفْض عربي صارم للوجود اليهودي في فلسطين. ساءت العلاقات بين العرب واليهود خلال السَّنوات اللاحقة نتيجة صعود نخبة عربيَّة متطرّفة، على حدّ وصْف موريس، والهجرة اليهوديَّة واسعة النّطاق إلى أرض فلسطين، لتزداد العلاقات سوءً مع اندلاع الثَّورة الكبرى عام 1936م لإجلاء الانتداب البريطاني وإفشال المشروع الصُّهيوني.

بعد انهيار حركة بريت شالوم، لم تعد فكرة تأسيس دولة ثنائيَّة القوميَّة أكثر من أمل كاذب، لم يتجدَّد إلَّا عام 1939م، مع نهاية الثَّورة وبعد اندلاع الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، على يدّ الرَّبَّاني يهودا ليون ماغنس، بمشاركة هنريتا زولد، وهي ناشطة سياسيَّة ونسويَّة صهيونيَّة كانت تدير قسم هجرة الشَّباب (עלית הנוער) في الوكالة اليهوديَّة، من خلال تأسيس منظَّمة اغودات ايهود في 11 أغسطس 1942م. ركَّزت تلك المنظَّمة على الدَّعوة إلى التَّعاون بين العرب واليهود، مع تجنُّب الإشارة الصَّريحة لمسألة القوميَّة الثُّنائيَّة للدَّولة، والاكتفاء بالتَّرويج لفكرة مساواة جميع مواطني فلسطين، خلال فترة الانتداب، في الحقوق السّياسيَّة. كان الرَّبَّاني يهوذا ليون ماغنس يشجّع الهجرة اليهوديَّة إلى الأرض المقدَّسة، على غير رغبة القوميين العرب، ممَّن اعتاد على التَّواصل معهم، أملًا في رأب الصَّدع بين اليهود والعرب، وسعيًا إلى تحقيق التَّعاون المرجوّ. رأى مارتن بوبر، أستاذ الفلسفة وأحد مؤسّسي اغودات ايهود، أنَّ تأسيس دولة يهوديَّة سيفضي إلى صراع طويل قد يمتدُّ إلى عقود طويلة؛ ممَّا يستدعي أن “تتصرَّف الدَّولة اليهوديَّة كدولة عسكريَّة”، معربًا عن عدم رغبته في أن يكون مواطنًا في مثل تلك الدَّولة (ص49).

غير أنَّ رأي بوبر لم يؤثّر على مسار اغودات ايهود، الَّتي استغلَّت انتهاكات ألمانيا النَّازيَّة في حقّ اليهود في محاولة استمالة العرب لقبول الهجرة اليهوديَّة غير المشروطة إلى فلسطين. إلى جانب ما واجهته من معارضة من المنظَّمة الصُّهيونيَّة، لم تجد فكرة ثنائيَّة قوميَّة الدَّولة قبولًا لدى العرب، ولا تفسير لذلك أفضل ممَّا ذكره ماغنس في أحد كتاباته عام 1932م، حيث قال “لن يجلس العرب على طاولة واحدة مع اليهود…فالمعلّمون (العرب)…يلقّنون الطُّلَّاب كراهية اليهود أكثر فأكثر”؛ هكذا، دهورت الأمور بمرور الوقت، “مع تعمُّق الوعي العربي وزيادة الهجرة اليهوديَّة” (ص52). ألقى الرَّبَّاني ماغنس باللوم على غياب الشَّجاعة الأدبيَّة لدى العرب في تقاعُسهم عن التَّفاوض مع اليهود للوصول إلى قاعدة للتَّفاهم، مهاجمًا عقيدة العرب الدّينيَّة، الَّتي اعتبرها المحرّض الأكبر على عدم الاستجابة إلى دعوة اليهود إلى التَّفاوض، حتَّى أنَّه قال “يبدو أنَّ الإسلام دين السَّيف”، كما ورد في مذكّرة له تعود إلى 18 ديسمبر 1937م، نقلًا عن موريس (ص52). تجدر الإشارة في هذا السّياق إلى أنَّ أحد أعضاء لجنة بيل لعام 1937م، والمكلَّفة بدراسة أحوال فلسطين تحت الانتداب البريطاني، قد اعتبر أنَّ الثَّورة الكبرى (1936-1939م) كانت شكلًا من أشكال الجهاد الإسلامي، مشيرًا إلى أنَّ الحماسة الَّتي أبداها الفلَّاحون في المقاومة كانت إسلاميَّة الطَّابع، وكأنَّما كانت تلك الثَّورة حربًا مقدَّسة ضدَّ الانتداب البريطاني المسيحي والرَّعايا المسيحيين واليهود الَّذين يحميهم، أو لتقل الَّذي أوجدهم، الانتداب. وأشار نائب المفتّش العام لشرطة الانتداب البريطاني في تقرير له عن الثَّورة ذاتها، تحت عنوان “الجانب الدّيني-الجهاد أو الحرب المقدَّسة”، إلى أنَّ طلَّاب فلسطين لديهم قناعة بأنَّ الدّين وحده يمكنه استعادة النّظام، مضيفًا أنَّ لعلماء الإسلام دورهم في التَّحريض على المقاومة، ويتجلَّى ذلك في مطالبة مفتي القُدس، أمين الحسيني، بإعلان حرب دينيَّة.

بعد فشل كافَّة الجهود السَّابقة، اقتنع الرَّبَّاني ماغنس، في وسط سنوات الحرب العالميَّة الثَّانية، بأنَّ الحلَّ الوحيد لتأسيس دولة ثنائيَّة القوميَّة كان من خلال اتّحاد بين اليهود والعرب يُفرض خارجيًّا، ثمَّ يُدمج في اتّحاد سياسي واقتصادي أوسع، يضمُّ شرق الأردن ولبنان وسوريا والعراق، وكمنت المشكلة حينها في تفوُّق العرب عددًا على اليهود. شعر ماغنس بحالة من التَّشاؤم في وسط عام 1948م، مع اقتراب الحرب بين العرب واليهود، خشية أن يسفر التَّفوُّق العددي للعرب في انتصارهم، واعتبر أنَّ مشروعه قد انقضى وانتهى أمره حينما راح فريق طبّي من حوالي 80 فردًا ضحية في كمين نصبه العرب لهم في 13 أبريل من عام 1948م؛ وحينها قرر المغادرة إلى أمريكا، حيث مات بعد بضعة أشهر. لم تنتهِ جهود المفكّرين الصَّهاينة الرَّامية إلى تأسيس دولة تجمع العرب واليهود بانهيار منظَّمة اغودات ايهود، فقد كانت حركة هشومير هاتزير (הַשׁוֹמֵר הַצָעִיר)، أو الحرَّاس الشَّباب، الَّتي أُسّست عام 1915م على يد يهود بولنديين في فيينا، وتستمرُّ إلى يومنا هذا بوصفها منظَّمة شبابيَّة، مقرُّها إسرائيل وتعمل على نطاق دولي، وتجعل من أولويَّاتها توجيه السُّلوك الشَّخصي لصغار المستوطنين، قادة المستقبل.

 وتتميَّز حركة هشومير هاتزير في أنَّها أضافت إلى الهويَّة ثنائيَّة القوميَّة عنصرًا آخر، هو الاشتراكيَّة؛ حيث اعتبرت أنَّ التَّحرُّر القومي من الاستعمار من خلال الثَّورة الاشتراكيَّة وإلغاء الطَّبقيَّة سيسفر عن نشأة مجتمع اشتراكي ثنائي القوميَّة. سلَّطت الحركة تركيزها على التَّغيير الاجتماعي، أكثر من تأسيس دولة، حتَّى أنَّ أحد قادتها، ويُدعى مائير يعاري، قد صرَّح بقوله “هدفنا هو الوصول إلى مجتمع اشتراكي ثنائي القوميَّة في فلسطين”، نقلًا عن موريس (ص56). أدَّت أحداث الحرب العالميَّة الثَّانية إلى تحويل الحركة إلى حزب سياسي، شجَّع الهجرة اليهوديَّة، واتَّخذ من التَّعاون بين العمَّال العرب واليهود سبيلًا للتَّحول الاجتماعي إلى المجتمع الاشتراكي المأمول. وإلى جانب الخطاب الماركسي والأهداف الاشتراكيَّة، عنيت الحركة بتحقيق أغلبيَّة يهوديَّة في الدَّولة ثنائيَّة القوميَّة، كما عنيت بحماية يهود أوروبَّا من مطرقة الجيش النَّازي ومن الاضطهاد خلال الحرب العالميَّة الثَّانية. احتفظت فكرة الدَّولة ثنائيَّة القوميَّة بجاذبيَّتها لدى زعماء الصُّهيونيَّة، وفي مقدّمتهم حاييم وايزمان ودافيد بن غوريون، خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين، الأولى والثَّانية، لكن بقيت مشكلة التَّفوُّق العددي للعرب، ولم يكن هناك حلٌّ غير تشجيع الهجرة اليهوديَّة، على أن تقوم الدَّولة على أساس التَّكافؤ السّياسي. ومن بين النَّماذج المقترَحة لتلك الدَّولة تقسيم المواطنين إلى كانتونات، أو تجمُّعات، (cantonization)، فيما يُعرف بالحُكم الذَّاتي الإقليمي (regional autonomy)، لكنَّ تلك الفكرة لقيت معارضة من الطَّرفين؛ حيث أنَّها كانت تعني التَّقسيم دون الحصول على أهمّ ميزاته، ألا وهي السَّلام.

نشأة مقترَح حلّ الدَّولتين

نتيجة حملة معاداة السَّاميَّة في أوروبَّا، بزعامة ألمانيا النَّازيَّة، والثَّورة الكبرى المطالِبة بجلاء الانتداب البريطاني وإنهاء المشروع الصُّهيوني، شهد عام 1936م تحوُّلًا فارقًا في سياسة التَّعامل مع وضع اليهود الدَّاخلي في فلسطين. اقتضت الضَّرورة إيجاد ملجأ آمن لليهود الغربيين، خاصَّة بعد أن أوصدت الدّيموقراطيَّات الأوروبيَّة أبوابها أمام لجوء اليهود إليها؛ لذلك، أقرَّ زعماء الصُّهيونيَّة بضرورة تقسيم فلسطين لتوفير الحماية ليهود أوروبا، بعيدًا عن التَّهديد العربي، في ظلّ الهجوم الشَّرس على الوجود اليهودي في فلسطين خلال سنوات الثَّورة الكبرى (1936-1939م). أثار تقرير لجنة بيل لعام 1937م مسألة التَّقسيم، واقتُرح تخصيص مساحة 20 بالمائة من أرض فلسطين التَّاريخيَّة لتأسيس دولة يهوديَّة، بينما يُخصص 70 أو 75 بالمائة من الأرض للدَّولة العربيَّة، كما اقتُرح ضمُّ القسم العربي من فلسطين إلى شرق الأردن، تحت حُكم الهاشميين، على أن تبقى المنطقة ذات الَّتي تأوي مقدَّسات دينيَّة، القُدس وبيت لحم، تحت حُكم بريطانيا. قوبل مقترَح التَّقسيم برفض من بعض السّياسيين، المنتمين إلى تيَّار وسط اليمين، بحجَّة أنَّ تأسيس دولة يهوديَّة بدون القُدس والخليل وأرض جلعاد، أو شرق الأردن، لا يصح. امتدَّ الرَّفض إلى رموز الحركة التَّعديليَّة (Revisionist Movement)، ومن بينهم الشَّاعر اوري تسفي جرينبيرج، الَّذي نادى بتأسيس دولة يهوديَّة ما بين نهري النّيل والفرات، وفق عهد الرَّب لأبرام في العهد القديم، كما ورد في “لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ” (سفر التَّكوين: إصحاح 15، آية 18) -سبق تبيان بُطلان ذلك العهد في أكثر من دراسة. وصل الأمر بالشَّاعر الصُّهيوني أن انتقد الملك سليمان وخلفاؤه لعجزهم عن تحقيق النُّبوءة التَّوراتيَّة والاكتفاء بدولة لا تتعدَّى أرض فلسطين التَّاريخيَّة وشريط من الأراضي في شرق الأردن.

فرضت المحرقة اليهوديَّة (Holocaust) على العالم واقعًا جديدًا أجبر السّياسيين الصَّهاينة، كما يدَّعي بيني موريس، إلى التَّسليم بأنَّ تقسيم فلسطين التَّاريخيَّة هو الحلُّ الأمثل لمشكلة يهود الغرب، وأدركت المنظَّمة الصُّهيونيَّة حينها أنَّ عليها الرُّضوخ لإملاءات الواقع. وخلال عاميّ 1946 و1947م، أُجريت مفاوضات بين زعماء الصُّهيونيَّة وعبد الله بن الحسين، مؤسّس المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة، حيث اقترح بن غوريون في يوليو 1946م تأسيس دولة يهوديَّة، دولة يهودا، في أجزاء من فلسطين، على أن تُؤسَّس دولة عربيَّة في منطقة الوجود العربي الكثيف، أي الضَّفَّة الغربيَّة، إلى جانب معظم شرق الأردن. يذكّر موريس بما كشفت عن الوثائق الإسرائيليَّة بشأن مفاوضات عبد الله بن الحسين مع إلياهو ساسون في أغسطس 1946م، وجولدا مائير في نوفمبر 1947م، والاتّفاق على حياديَّة موقف بن الحسين حيال تأسيس دولة يهوديَّة في المناطق الَّتي يشغلها اليهود، دون الإشارة إلى حدود لتلك الدَّولة، وإن كانت هناك إشارة ضمنيَّة إلى السَّهل السَّاحلي ووادي يزرعيل وغور الأردن. في حين، تضمُّ الأردن المناطق الغنيَّة بالعرب، ويشمل ذلك مدن الخليل ورام الله ونابلس وقلقيليَّة وطولكرم وجنين. واشتُرط على عبد الله الأوَّل عدم المساس بأمن الدَّولة اليهوديَّة، وعدم المشاركة في أيّ عدوان عربي تحرّكه جامعة الدُّول العربيَّة لمنع تأسيس تلك الدَّولة، الَّتي تشهد عودة بني إسرائيل إلى الأرض المقدَّسة منذ القرن الأوَّل الميلادي، حينما سقطت مملكة يهودا على يد الرُّومان بعد فشل ثورة اليهود (66-70م) في طرد الاحتلال الرُّوماني.

يعيد موريس الإشارة إلى أنَّ الأردن فقد الضَّفَّة الغربيَّة بعد هزيمة الجيوش العربيَّة في حرب الأيَّام السّتَّة، في يونيو 1967م، ويرى انتصار جيش الدّفاع الإسرائيلي أنَّه كان بمثابة “انتصار أبناء النُّور على أبناء الظَّلام، الَّذين هدَّدوا اليهود بالدَّمار” (ص81). صرَّح موشيه ديان، وزير الدّفاع الإسرائيلي، بمناسبة ذلك النَّصر المؤزَّر بقوله “عدنا إلى الهضاب، إلى مهد تاريخ شعبنا، إلى أرض الآباء، إلى أرض القضاة وحصن مملكة آل داود. عدنا إلى الخليل (حيث توجد مقابر الآباء أبراهام وإسحق ويعقوب وزوجاتهم، وحيث كانت عاصمة الملك داود الأولى)، وإلى شكيم (حيث أسس أبراهام مذبحًا للرَّب وحيث دُفن يوسف)، وأناتوت (محل ميلاد ارميا)، وإلى أريحا (المدينة الَّتي غزاها بنو إسرائيل خلال اقتحامهم أرض كنعان تحت إمرة الملك يوشيا)، وإلى مخاوض الأردن ومدينة آدم” (ص81-82). اقتحمت قوَّات جيش الدّفاع الإسرائيلي كذلك القُدس الشَّرقيَّة، ودخلوا إلى مركزها، البلدة القديمة، ثاني عاصمة لمملكة داود، حيث بُني الهيكلان الأوَّل والثَّاني، وحيث كانت عاصمة بني إسرائيل من عام 1000 ق.م. إلى عام 70 ميلاديًّا. على ذلك، فلعلَّ من أهم تبعات حرب الأيَّام السّتَّة أنَّها أعادت أرض فلسطين التَّاريخيَّة، الممتدَّة من البحر المتوسّط إلى الأردن، إلى بني إسرائيل لأوَّل مرَّة في العصر الحديث؛ حتَّى العديد من الصَّهاينة المتدينين رأوا أنَّ ذلك الانتصار مدبَّر إلهيًّا، وأنَّه ينذر بقرب العصر المسياني، أي عصر مجيء المخلّص (Messiah).

برغم هزيمتهم المنكرة على يد إسرائيل، أصرَّ الزُّعماء العرب خلال عدم التَّفاوض أو الاعتراف بإسرائيل أو السَّلام، في الوقت الَّذي اتَّسع فيه النَّشاط الاستيطاني الإسرائيلي، ليشمل الجولان المحتل خلال الحرب، ومناطق في محيط الخليل وبيت لحم، إلى جانب القُدس الشَّرقيَّة. في محاولة لإحلال السَّلام وإنهاء النّزاع مع العرب، اقترح وزير العمل الإسرائيلي ايغال آلون خطَّة لتوسيع نطاق دولة إسرائيل، دون ضمّ العرب، تمثَّلت في التَّخلي لصالحهم عن الخليل وبيت لحم وجنين ورام الله. أراد آلون تسليم الأجزاء الشَّماليَّة والجنوبيَّة من الضَّفَّة الغربيَّة إلى الأردن، مع الاحتفاظ القُدس الشَّرقيَّة، ومعظم الشريط غير المأهول بالسُّكَّان جنوبي غور الأردن، الواقع غربي النَّهر على طول امتداد الشَّاطئ الغربي للبحر الميّت. لم ينجح آلون في حشْد أغلبيَّة لتمرير خطَّته، وكانت أشرس معارضة لقيها من الأحزاب اليمينيَّة، الَّتي عبَّر مناحم بيجن عن رفضها بقوله “من غير المعقول…أن نسلّم إلى الأغيار…ولو شبرًا واحدًا من أرضنا“، كما أورد آري ناعور في كتابه Greater Israel: Theology and Policy-إسرائيل الكبرى: اللاهوت والسّياسة (2001م)، نقلاً عن موريس (ص86). على مدار سنوات، جرت مفاوضات متعاقبة بين الملك حسين، حفيد عبد الله الأوَّل، وقادة إسرائيل بشأن المساحة المفترَض ضمَّها إلى الأردن، ولكن دون الوصول إلى حلّ مرضٍ، خاصَّة مع إصرار الحسين على الاستحواذ على القُدس.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى