كتابات

بين الجامعات والجماعات

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

الجامعة سقف السلّم التعليمي في كل الاختصاصات، والمصنع الذي يكوّن النخب العلمية المعنية بإدارة كل شؤون الحياة تقريبا، ومع كل هذا فالمجتمع اليوم كأنه لا يقرّ للجامعة بمرجعيتها العلمية، فهي لا تعدو في نظره كونها مؤسسة خدمية، تقدّم الخدمات والمؤهلات المعرفية، ثم يقف دورها عند هذا الحد ليبدأ دور آخر تقوم به كيانات ومؤسّسات أخرى.

في تاريخنا الإسلامي كانت المدرسة تقود المجتمع، وتعيش معه في همومه وتطلّعاته، وتواكبه في كل شؤونه، وكان الطالب -من أي تخصص كان- لا يقطعه عن التواصل مع شيخه إلا الموت مهما بلغ في العلم أو العمر، والمدرسة بقدر ما يكثر طلابها بقدر ما تتعمّق جذورها في المجتمع، فكل طالب كان يمثّل جسرا دائما للتواصل بين المدرسة وبين المجتمع، هكذا كانت المذاهب الأربعة، والتي ما هي في الحقيقة إلا مدارس علمية، وكذلك المدرسة الظاهرية في الأندلس، والزيدية في اليمن، والإباضية في عُمان، مع الفوارق المنهجية والاجتهادية المعروفة.

وحين أخذت تلك المدارس شكلها المؤسسي لم ينخفض مستوى حضورها ودورها الريادي في المجتمع، فالمدارس النظامية والمستنصرية في بغداد، والزيتونة في تونس، والأزهر في مصر، ومحاضر العلم في موريتانيا، وغيرها الكثير في الشام واليمن والجزيرة كانت كلها تمارس ذات الدور الريادي الذي مارسته المذاهب الأربعة مع بعض الفوارق في المناهج والوسائل.

في النماذج المتبقية من ذلك التعليم الأصيل -وأنا هنا أتكلم عن تجربة شخصية- شاهدنا تجربة (الآصفية) التي كان لها الدور الأول في الحفاظ على هويّة (الفلوجة) العربية الإسلامية، وما حولها من المدن والقرى رغم كل النوازل والكوارث التي حلّت بهذه المدينة، بينما لم تتمكن الجامعات الكبيرة من أن تلعب مثل هذا الدور لا من قريب ولا من بعيد رغم الامتيازات الماديّة الهائلة والإمكانات الحديثة التي تتمتع بها قياسا بالآصفيّة.

إن تراجع دور المؤسسات العلمية من دور (الريادة) إلى دور (الخدمة) قد ترك فراغا واسعا، استثمرته الكيانات المنظمة (الجماعات)، فصار الطالب يأخذ من الجامعة العلم والشهادة وكل الأوراق المطلوبة للتوظيف، ثم هو يعمل أثناء ذلك ومن بعده لصالح الجماعة التي ينتسب لها، إنه لا يشعر بالانتماء للجامعة، ولا ينوي المحافظة على علاقاته الجامعية، ولا يشعر حتى بالحاجة إلى الاحتفاظ برقم هاتف أستاذه ليستشيره فيما يعنّ له من نوازل ومستجدّات، بينما تكون هذه كلها موجودة بشكل مركّز ومكثّف في الجماعة، سواء أكانت هذه الجماعة جماعة دينية أم جماعة سياسيّة (حزب)، وسواء اتسمت باللين أو التشدد، وبالسلم أو العنف، فأستاذه الحق هو ذلك الذي يتلقى منه التوجيهات (التنظيمية) وليس ذلك الشيخ أو الدكتور الذي تلقى عنه العلم بأصوله وفروعه، وزملاؤه الذين يتبادل معهم الحبّ والاحترام والتعاون هم أولئك الذي يجتمع بهم في نشاطات الجماعة حتى لو كانوا من اختصاصات أخرى، وليس أولئك الذين كانوا معه على مقاعد العلم والتكوين.

في مقابل هذا نجد العلاقات بين خريجي الآصفية مثلا أقوى بكثير من العلاقات التنظيمية والحزبية، فحتى مع الخلافات الحادّة في النوازل السياسية المعقدة يبقى منتسبو الآصفية (أساتذة وطلابا وإداريين) يحافظون على مستوى مقبول من الاحترام والود، مع أن العلاقة التي كانت تربط بينهم قد مضى عليها عقود من الزمن، إننا نحفظ أسماء بعضنا البعض وأخبارهم وأرقام هواتفهم، بينما الأستاذ الذي نعمل معه في الجامعات الحديثة عشر سنوات، ثم بانتهاء العقد تنتهي العلاقة وينتهي كل شيء!

لا شك أن الجامعات ليس مطلوبا منها أن تتدخّل في ولاءات الطالب وانتماءاته، ولا أن تكون بديلا عن الجماعات أو منافسا لها، لكن أن تتراجع حتى في مستوى (الثقة المعرفية) بحيث يكون (المسؤول) في الجماعة أكثر ثقة وأكثر قدرة على الإقناع في المسائل العلمية والفكرية من (أستاذ) الجامعة، فهذا مؤشّر خطير يعكس بصورة أو بأخرى نظرة المجتمع إلى الجامعة، ونظرة الطالب نفسه إلى معلّميه وأساتذته.

إن المقارنة ليست مقارنة علميّة بالأساس، فأساتذة الجامعات ليسوا أقل علما من تلك (القيادات) و(القدوات)، بل إن كثيرا من تلك القيادات ربما كانوا طلابا لهؤلاء الأساتذة، إن المشكلة أبعد من ذلك، إنها مشكلة مركبة تبدأ أولا بعقدة (الثقة)، فمعلّم الابتدائية إلى أستاذ الجامعة هو (موظّف) بعقد وراتب في مقابل خدمة معيّنة يؤدّيها تنتهي نهائيا بانتهاء العقد، إنه ليس صاحب رسالة كأبي حنيفة ومالك، ولا صاحب قضية يعيش لها ويموت لها كقادة الجماعات على اختلافها وتباينها، وهو بهذا الوصف أبعد ما يكون عن معنى القدوة أو القيادة.

لقد رأيت بعض شيوخ التعليم (الأصيل) لا يختلف عطاؤهم العلمي أيام الدوام الرسمي عن غيرها، ولا أثناء الوظيفة عن بعدها، (من المهد إلى اللحد)، بينما تجد الآخرين محكومين بالوظيفة والدوام الرسمي كأيّ موظّف آخر، وبالتالي فإن المجتمع لا يلام حينما يميّز بين هؤلاء وهؤلاء، وحينما يختار مرجعياته العلمية والثقافية من خارج الجامعة، بقي أن الجامعة نفسها ما الذي تختاره بالنسبة لأساتذتها، وبالأحرى ما الذي تختاره لنفسها؟

إن التفكير في تطوير العملية التعليمية، والبحث عن الأدوات والوسائل الحديثة، وحتى البحث عن الكفاءات والخبرات المتميّزة لا يؤدّي أبداً إلى (التحوّل) المطلوب، بل غاية ما في الأمر أنه يحسّن من أداء الوظيفة الخدمية، إن السؤال المركزي الذي ينبغي أن ننطلق منه: ما موقع الجامعة في المجتمع؟ وما الدور الذي ينبغي أن تضطلع به؟.

المصدر: العرب القطرية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى