كتب وبحوث

بنو إسرائيل وميراث الأرض: لمَن العاقبة في الصِّراع العربي-الإسرائيلي؟ – 2 من 6

بنو إسرائيل وميراث الأرض: لمَن العاقبة في الصِّراع العربي-الإسرائيلي؟ – 2 من 6

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

نشأة بني إسرائيل

أفرد الله تعالى في بيان الحقِّ سورة كاملة تخبر عن بني إسرائيل، وبداية اتِّباعهم الهوى وانحرافهم، ثمَّ توبتهم ورجوعهم إلى الله، كما أوضحت الآية 133 في سورة البقرة، هي سورة يوسف، وهي السُّورة الـ 12 بترتيب المصحف، والمقسَّمة آياتها الـ 111 بين الجزأين الثَّاني عشر (آيات 1-52) والثَّالث عشر (آيات 53-111). لم يخبرنا القرآن الكريم عن عدد أبناء يعقوب مباشرةً، إنَّما يُفهم من تأويل رؤيا يوسف (عليه وعلى سائر أنبياء الله ورُسُله أزكى الصَّلوات وأتمُّ التسليم) في الآية 4 من السُّورة “إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ”. لعلَّ في ردِّ نبي الله يعقوب على هذه الرؤيا في الآية التَّالية ما يخبر عن سبب انحراف باقي بنيه عن طريق الحقِّ “قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)”، وهو الحقد، النَّابع من الشُّعور بأفضليَّة يوسف عليهم؛ ولا يصدر هذا الشُّعور إلَّا عن الاستجابة لوساوس الشَّيطان، “إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ“. كان يوسف هو صفوة الله من بني يعقوب النبيِّ، حيث اختصَّه بالنبوَّة والرِّسالة، دون سائر إخوته “وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)”، وهذا سرُّ حقد إخوته، الذي تحوَّل إلى كيد للتخلُّص منه. وعن هذا الكيد، تخبرنا السُّورة “لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)”.

أمَّا الرواية التوراتيَّة، فهي تتغاضى عن مسألة صراع أبناء يعقوب ضدَّ أخيهم يوسف، وكيدهم له، وإلقائه في بئر ليشتريه ركبٌ من المسافرين إلى أيِّ بلدٍ بعيد؛ فيقول سفر التَّكوين “وَأَمَّا يُوسُفُ فَأُنْزِلَ إِلَى مِصْرَ، وَاشْتَرَاهُ فُوطِيفَارُ خَصِيُّ فِرْعَوْنَ رَئِيسُ الشُّرَطِ، رَجُلٌ مِصْرِيٌّ، مِنْ يَدِ الإِسْمَاعِيلِيِّينَ الَّذِينَ أَنْزَلُوهُ إِلَى هُنَاكَ” (إصحاح 39: آية 1). وخلافًا للرواية القرآنيَّة عن مراودة امرأة العزيز يوسف عن نفسه، وعن استعصام يوسف أمام الشَّهوة، وعن تفضيله السَّجن على ما دعاه إليه القوم الفاسقون، نجد أنَّ رواية سفر التَّكوين تقول أنَّ يوسف أُدخل إلى السَّجن بعد ادِّعاء امرأة رئيس الشُّرط مباشرةً بأنَّه أراد مضاجعتها “فَكَانَ لَمَّا سَمِعَ سَيِّدُهُ كَلاَمَ امْرَأَتِهِ الَّذِي كَلَّمَتْهُ بِهِ قَائِلَةً: «بِحَسَبِ هذَا الْكَلاَمِ صَنَعَ بِي عَبْدُكَ»، أَنَّ غَضَبَهُ حَمِيَ. فَأَخَذَ يُوسُفَ سَيِّدُهُ وَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ” (إصحاح 39: آيتان 19-20). أمَّا الرواية القرآنيَّة، فتقول “قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)”. تشير هذه الرواية ليس فقط إلى استعصام يوسف، ولكن كذلك إلى رفضه الاستجابة إلى الإغراء بتغاضي رجال المدينة عن فعله، كما يوضح قول الله “يَدْعُونَنِي” بالجمع في حالة المذكَّر، التي تشمل مشاركة الرجال والنساء في الدَّعوة؛ أي أنَّ الدَّعوة إلى الفاحشة كانت بمعرفة الرجال. الدليل على ذلك أنَّ العزيز لم يعنِّف زوجته لمَّا تأكَّد من أنَّها هي مَن راود يوسف عن نفسه، وليس كما ادَّعت هي “يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)”. أصرَّت امرأة العزيز على الفاحشة، وعذرها تقدِّمه رواية سفر التَّكوين، وهو أنَّ زوجها هو “خَصِيُّ فِرْعَوْنَ”، لكنَّ العذر لا يبرر المعصية.

تُنقص الرواية التوراتيَّة في العهد القديم لنشأة بني إسرائيل من قدر يوسف في مسألة أخرى، وهي استجابته المباشرة لدعوة فرعون للخروج من السَّجن لتأويل رؤياه “فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ وَدَعَا يُوسُفَ، فَأَسْرَعُوا بِهِ مِنَ السِّجْنِ. فَحَلَقَ وَأَبْدَلَ ثِيَابَهُ وَدَخَلَ عَلَى فِرْعَوْنَ” (سفر التَّكوين: إصحاح 41، آية 14). أمَّا الرواية القرآنيَّة، فتقول “وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ” (سورة يوسف: الآية 50). أصرَّ نبي الله يوسف على تبرئة نفسه من الافتراء، قبل الخروج من السَّجن، وفي رواية صحيحة الإسناد، وردت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، قال رسول الله(ﷺ)، “لو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي”. وتختلف الرواية التوراتيَّة كذلك في موقف يوسف من إخوته لمَّا جاؤوا إلى مصر طلبًا للقمح، في زمن مجاعة؛ حيث أجبرهم على العودة باحتجاز أحدهم عنده، وإن كان قد ردَّ إليهم مالهم وأجزل لهم العطاء ” وَإِذْ كَانُوا يُفَرِّغُونَ عِدَالَهُمْ إِذَا صُرَّةُ فِضَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي عِدْلِهِ. فَلَمَّا رَأَوْا صُرَرَ فِضَّتِهِمْ هُمْ وَأَبُوهُمْ خَافُوا. فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: «أَعْدَمْتُمُونِي الأَوْلاَدَ. يُوسُفُ مَفْقُودٌ، وَشِمْعُونُ مَفْقُودٌ، وَبَنْيَامِينُ تَأْخُذُونَهُ. صَارَ كُلُّ هذَا عَلَيَّ». وَكَلَّمَ رَأُوبَيْنُ أَبَاهُ قَائِلًا: «اقْتُلِ ابْنَيَّ إِنْ لَمْ أَجِئْ بِهِ إِلَيْكَ. سَلِّمْهُ بِيَدِي وَأَنَا أَرُدُّهُ إِلَيْكَ»” (سفر التَّكوين: إصحاح 42، آيات 35-37). أمَّا الرواية القرآنيَّة، فهي تنفي احتجاز يوسف لأيِّ من إخوته في المرَّة الأولى، وإن كانت تثبت إعادة بضاعة إخوته إليهم “وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” (سورة يوسف: الآية 62). فطن يوسف إلى شهوة المادَّة لدى إخوته، وعرف أنَّ همَّهم متاع الدُّنيا؛ فأغراهم بالعطايا من أجل العودة، وليس أنَّه اعتبرهم جواسيس وأراد أن يتأكَّد من نزاهتهم باحتجاز أحدهم، كما تقول رواية سفر التَّكوين.

لعلَّ أهمُّ اختلاف في الرواية التَّوراتيَّة عن القرآنيَّة أنَّها تغفل عن جانب النبوَّة لدى يوسف، وتجعل منه شخصًا عاديًّا، مجرَّد “سَيِّدُ الأَرْضِ” (سفر التَّكوين: إصحاح 42، آية 30)، وليس وريثًا للنبوَّة والكتاب، والمجتبى بين أبناء يعقوب لنشر الدَّعوة إلى سبيل الله “وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)”، بفضل ما اختصَّه الله به من علم “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)”. بدأت دعوة يوسف إلى سبيل الله في السجن “إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (سورة يوسف: آيات 37-40). يوضح يوسف في دعوته أنَّه لم يتَّبع الملَّة السَّائدة في مصر آنذاك، القائمة على الشِّرك بالله وتعدُّد الآلهة والكُفر بالآخرة، معتبرًا أنَّ إيمانه بالله “فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ” يستحقُّ الشُّكر؛ لأنَّ الاهتداء إلى سبيل الله تضمن مثابة الدُّنيا والآخرة، وتقي من الخزي في الدَّارين. حدَّد يوسف المَّلة التي اتَّبعها، أي الإسلام، موضحًا أنَّ توحيد الله هو “الدِّينُ الْقَيِّمُ“. لا يختلف باقي الروايتين في مجيء بني إسرائيل إلى مصر، مع أبيهم، واستقرارهم فيها؛ وتُختتم سورة يوسف بشهادته لله بفضله عليه، مقرًّا له بالولاية، وداعيًا إيَّاه أن يميته على الإسلام “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” (سورة يوسف: الآية 101).

تستدعي الإشارة إلى حاكم مصر في الرواية التوراتيَّة بـ ‘‘فرعون’’، وفي القرآنيَّة بـ ‘‘الملك’’ الانتباه، والرواية القرآنيَّة هي الأدقُّ؛ والسبب أنَّ فكَّ رموز حجر رشيد أثبت أنَّ الفترة ما بين 1730 ق.م و1580 ق.م كانت فرتة استعمار الهكسوس لمصر، مما يعني أنَّ حُكَّام مصر ممَّن لُقِّبوا بـ ‘‘فرعون’’ لم يظهروا إلَّا بعد زمن يوسف، ليكون قوم فرعون بذلك آخر الأمم الهالكة بسبب شركها بالله وكُفرها بالآخرة وانغماسها في متاع الدُّنيا قبل نزول التوراة. ما يثبت ذلك ما جاء على لسان مؤمن آل فرعون في سورة غافر “وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِمِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ” (سورة غافر: آيتان 30-31). يعني هذا أنَّ قوم فرعون كانوا على علم بصحيح رسالة السَّماء، التي جاءهم بها يوسف، كما ذكَّرهم مؤمن آل فرعون “وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ” (سورة غافر: الآية 34).

بنو إسرائيل بعد يوسف: ملاقاة سوء العذاب

يفسِّر بعض المؤرِّخين عداء فرعون، الذي هو على الأرجح رمسيس الثَّاني، كما سبقت الإشارة بالدليل في الدِّراسة السَّابقة، تجاه بني إسرائيل إلى تحالُفهم سرًّا مع أعدائه الحيثيين. بعد هزيمة الحيثيين على يد فرعون في معركة قادش عام 1274 ق.م. تقريبًا، أذلَّ فرعون بني إسرائيل لتعاونهم سرًّا مع أعدائه. ويكشف سفر الخروج جانبًا من تلك القصَّة “قَامَ مَلِكٌ جَدِيدٌ عَلَى مِصْرَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ. فَقَالَ لِشَعْبِهِ: «هُوَ ذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ شَعْبٌ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنَّا. هَلُمَّ نَحْتَالُ لَهُمْ لِئَلاَّ يَنْمُوا، فَيَكُونَ إِذَا حَدَثَتْ حَرْبٌ أَنَّهُمْ يَنْضَمُّونَ إِلَى أَعْدَائِنَا وَيُحَارِبُونَنَا وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ»” (إصحاح 1: آيات 8-10). وقد اتَّفقت سورة القصص مع هذه الرواية في أكثر من جانب “نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَوَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ” (سورة القصص: آيات 3-6). لن نعيد الإشارة إلى مواجهة موسى وهارون لفرعون وتحدِّي موسى لسحرة فرعون، ولكن يستوقفنا تعقيب الله تعالى لهذه القصَّة في سورة يونس (آيات 75-82) بقوله “فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (سورة يونس: الآية 83)”. تشير الآية الكريمة إلى أنَّ الإيمان بدعوة موسى انحصر في فئة قليلة من قومه خافت الفتنة بالإغراء بالكُفر في مقابل متاع الدُّنيا، ولعلَّ في قصَّة قارون، الذي كان من قوم موسى، الدليل على أنَّ فئة من بني إسرائيل والت فرعون وعاونته، وربَّما هم المقصودون بقوله تعالى “مَلَئِهِم“.

ما يدعم هذا التفسير ما ترويه سورة الشُّعراء عن ردِّ فرعون لمَّا طلب منه موسى وهارون أن يرسل معهما بني إسرائيل من مصر “فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ” (سورة الشُّعراء: آيتان 16-17). ما كان من فرعون إلَّا أن خاطب ملأه مستنكرًا “قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ” (سورة الشُّعراء: آيتان 34-35). تعني كلمة ‘‘الملأ’’ الجماعة من علية القوم، أصحاب الرأي والمشورة، وقد ميَّزهم الله عن قوم فرعون، الذين ذُكروا في أكثر من آية، من بينها “وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى” (سورة طه: الآية 79). إن لم يكن الملأ من بني إسرائيل، فلماذا يوجِّه فرعون لهم الخطاب بقوله “يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم“، وهو الذي طلب وأخوه “أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ“؟

ما يدعم الافتراض بأنَّ ملأ فرعون لم يكن مقتصرًا على قومه قوله تعالى في سورة غافر “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ” (سورة غافر: آيتان 23-24)، وقد قال في سورة هود “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ۖ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ” (سورة هود: آيات 96-98). تتطابق الآيتان 23 في سورة غافر و96 في سورة هود لفظًا ومعني، وما يختلف هو الفئة المستهدفة بالدَّعوة؛ “إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ“، و “إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ“، وهذا لا يترك مجالًا للشك في أنَّ ملأ فرعون كان من بين أفراده فئة من بني إسرائيل أعانته على كُفره بتحريق صحيح الكتاب، الذي ورثته عن نبيِّ الله يوسف. سبق إيضاح كيف احترف قارون فنون القبَّالة، التي أشار إليها بأنَّها علم باطني، “علم عندي”، جنى من ورائه الأموال والجاه والسُّلطان. ولا شكَّ في أنَّ الذُّريَّة المؤمنة من قوم موسى هي التي لم يفتنها متاع الدُّنيا الذي تنعَّم به قارون، ونصحت المفتونين من قومهم بقولها “وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ“، وهي فئة “الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ” (سورة القصص: الآية 80).

غير أنَّ الرواية التوراتيَّة لخروج بني إسرائيل من مصر لم تُشر إلى أنَّ النجاة للصابرين، كما لم تُشر إلى انشغالهم عن متاع الدُّنيا وقت الخروج، حيث أنَّها اقترضوا من المصريين والمال والدواب، وحملوا ما استطاعوا معهم من طعام، معتبرين أن سلبهم أموال المصريين “نِعْمَةً لِلشَّعْبِ” وهبهم الربُّ إيَّاها “أَعْطَى الرَّبُّ نِعْمَةً لِلشَّعْبِ فِي عِيُونِ الْمِصْرِيِّينَ حَتَّى أَعَارُوهُمْ. فَسَلَبُوا الْمِصْرِيِّينَ. فَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ رَعَمْسِيسَ إِلَى سُكُّوتَ، نَحْوَ سِتِّ مِئَةِ أَلْفِ مَاشٍ مِنَ الرِّجَالِ عَدَا الأَوْلاَدِ. وَصَعِدَ مَعَهُمْ لَفِيفٌ كَثِيرٌ أَيْضًا مَعَ غَنَمٍ وَبَقَرٍ، مَوَاشٍ وَافِرَةٍ جِدًّا” (سفر الخروج: إصحاح 12، آيات 36-38). على عكس دعوة موسى وهارون فرعون إلى الهُدى “فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى” (سورة طه: آيتان 47-48)، لم يطلب موسى وهارون من فرعون إلَّا إخراج بني إسرائيل، استجابة لأمر “الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ”، كما جاء في سفر الخروج “وَبَعْدَ ذلِكَ دَخَلَ مُوسَى وَهَارُونُ وَقَالاَ لِفِرْعَوْنَ: «هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: أَطْلِقْ شَعْبِي لِيُعَيِّدُوا لِي فِي الْبَرِّيَّةِ»” (سفر الخروج: إصحاح 5، آية 1). في إشارة موسى وهارون إلى ربِّهما بـ “الرَّبّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ” تعبير عن النَّزعة العنصريَّة لليهود، في اعتبار أنفسهم صفوة الخَلق والشَّعب المُختار، بأن حصروا الإله فيهم. يتساءل فرعون عن هويَّة هذا الإله، وتأتيه إجابة تؤكِّد النظرة العنصريَّة المرتبطة بمفهوم الألوهيَّة لديهم ” فَقَالَ فِرْعَوْنُ: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ حَتَّى أَسْمَعَ لِقَوْلِهِ فَأُطْلِقَ إِسْرَائِيلَ؟ لاَ أَعْرِفُ الرَّبَّ، وَإِسْرَائِيلَ لاَ أُطْلِقُهُ». فَقَالاَ: «إِلهُ الْعِبْرَانِيِّينَ قَدِ الْتَقَانَا، فَنَذْهَبُ سَفَرَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْبَرِّيَّةِ وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا، لِئَلاَّ يُصِيبَنَا بِالْوَبَاء أَوْ بِالسَّيْفِ»” (سفر الخروج: إصحاح 5: آيتان 2-3). يتناقض هذا مع الرواية القرآنيَّة لنفس الموقف “قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” (سورة طه: آيتان 49-50).

حياة بني إسرائيل بعد الخروج

تذكر التوراة أنَّ الربَّ أراد أن يجبر كسر بني إسرائيل بعد ما لاقوه من ذلٍّ وعذاب على يد الفرعون، وأن يورثهم أرض كنعان “قَالَ الرَّبُّ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ. فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ، إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً، إِلَى مَكَانِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزَّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ” (سفر الخروج: إصحاح 3، آيتان 7-8). ويوضح الربُّ السبب في انتزاع أرض كنعان من أهلها، وهو كفرهم وعبادتهم للأصنام، في طقوس فُصِّلت في دراسة مستفيضة عن وصف الربِّ والهيكل في الكتاب المقدَّس، والتي أوضحت أنَّ بني إسرائيل انخرطوا في الممارسات الوثنيَّة ذاتها، كما جاء في أسفار الملوك وأخبار الأيَّام وحزقيال ودانيال وعزرا؛ يقول الربُّ لموسى “كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ، فَتَطْرُدُونَ كُلَّ سُكَّانِ الأَرْضِ مِنْ أَمَامِكُمْ، وَتَمْحُونَ جَمِيعَ تَصَاوِيرِهِمْ، وَتُبِيدُونَ كُلَّ أَصْنَامِهِمِ الْمَسْبُوكَةِ وَتُخْرِبُونَ جَمِيعَ مُرْتَفَعَاتِهِمْ” (سفر العدد: إصحاح 33، آيتان 51-52). نعود إلى قصَّة بني إسرائيل في القرآن، التي استهلَّ الله بها كتابه الكريم في سورة البقرة؛ لتبيان فعل بني إسرائيل بعد نجاتهم من فرعون، ورؤيتهم لمعجزة شقِّ البحر وغرق عدوِّهم “وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ. وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ. ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” (سورة البقرة: آيات 50-53). لن نعيد تفصيل قصَّة اتِّخاذ العجل، استخدام السَّامري أسرار القبَّالة في صناعة عجل ذهبي، وإن وجبت الإشارة إلى ضعف إيمان الفئة من بني إسرائيل التي خرجت من مصر مع موسى وهارون. وهناك جانب هامٌّ يستوجب التحليل في هذا الصدد، وهو سعي بني إسرائيل إلى رؤية إلههم مباشرةً، في جحود لحقيقة أنَّ عبادة الله حقَّ العبادة تقوم على أن يُعبد كأنَّ العبد يراه، موقنًا بأنَّ الله يراه.

تروي الآية 52 في سورة البقرة واقعة مواعدة الله نبيِّه موسى أربعين ليلة، يعتكف خلالها لعبادة ربِّه، ثمَّ يتلقَّى بعده ألواح الوحي الإلهي، أمام أعين بني إسرائيل؛ ليطمئنِّوا أنَّ كتابهم أُنزل من السَّماء، فلا يشكِّكون في صحَّة ما جاء به. وما أن ذهب موسى للقاء ربِّه، اتَّخذ بنو إسرائيل عجلًا ذهبًا أقنعهم السَّامري بأنَّه إلههم وإله موسى، لكنَّه نسي. أراد الله فتنة بني إسرائيل لاختبار صدق إيمانهم، والكشف عن العقيدة الفاسدة السَّائدة فيهم، والتي تعلَّموها عن المفسدين من ملأ فرعون، كما سبقت الإشارة. أمَّا الرواية التوراتيَّة، فهي تبدأ بذهاب موسى ويشوع بن نون وسبعين من شيوخ بني إسرائيل للقاء ربِّهم ” قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْعَدْ إِلَيَّ إِلَى الْجَبَلِ، وَكُنْ هُنَاكَ، فَأُعْطِيَكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتَعْلِيمِهِمْ». فَقَامَ مُوسَى وَيَشُوعُ خَادِمُهُ. وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى جَبَلِ اللهِ” (سفر الخروج: إصحاح 24، آيتان 12-13). تجلَّى الربُّ أمام أعين بني إسرائيل، في مظهر يتطابق مع ما سبقت الإشارة إليه عن وصف الربِّ في الكتاب المقدَّس “وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَدَخَلَ مُوسَى فِي وَسَطِ السَّحَابِ وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ. وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً“. يعني ذلك أنَّ موسى ظلَّ فوق الجبل، مختفيًا عن أعين بني إسرائيل، ليأخذ عن الربِّ طقوس العبادة التي يرجوها من بني إسرائيل، ويصنع أدوات ممارسة الطُّقوس على النَّحو الذي تلقَّاه عن الربُّ “وَفِي قَلْبِ كُلِّ حَكِيمِ الْقَلْبِ جَعَلْتُ حِكْمَةً، لِيَصْنَعُوا كُلَّ مَا أَمَرْتُكَ: خَيْمَةَ الاجْتِمَاعِ، وَتَابُوتَ الشَّهَادَةِ، وَالْغِطَاءَ الَّذِي عَلَيْهِ، وَكُلَّ آنِيَةِ الْخَيْمَةِ. وَالْمَائِدَةَ وَآنِيَتَهَا، وَالْمَنَارَةَ الطَّاهِرَةَ وَكُلَّ آنِيَتِهَا، وَمَذْبَحَ الْبَخُورِ. وَمَذْبَحَ الْمُحْرَقَةِ وَكُلَّ آنِيَتِهِ، وَالْمِرْحَضَةَ وَقَاعِدَتَهَا. وَالثِّيَابَ الْمَنْسُوجَةَ، وَالثِّيَابَ الْمُقَدَّسَةَ لِهَارُونَ الْكَاهِنِ وَثِيَابَ بَنِيهِ لِلْكَهَانَةِ، وَدُهْنَ الْمَسْحَةِ وَالْبَخُورَ الْعَطِرَ لِلْقُدْسِ. حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ يَصْنَعُونَ»” (سفر الخروج: إصحاح 31، آيات 6-11).

بحسب الرواية التوراتيَّة، يستبطئ بنو إسرائيل ‘‘مُوسَى الرَّجُلَ’’؛ فيطلبون من ‘‘هَارُونَ الْكَاهِنِ’’ أن يصنع لها آلهة يرونها بأعينهم، برغم رؤيتهم للربِّ في تجلِّيه من فوق الجبل “وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ، اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: «قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ»” (سفر الخروج: إصحاح 32، آية 1). ويأتي بيان الحقِّ في سورة الأعراف ليردَّ على الرواية التوراتيَّة “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ. وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ” (سورة الأعراف: آيات 150-155).

ذهب سبعون من بني إسرائيل للقاء الله لإعلان التَّوبة، بعد أن تسلَّم موسى ألواح الوحي، وليس قبله، كما أنَّهم بدلًا من إعلان التَّوبة، أرادوا أن يروا ربَّهم رأي العين، كما توضح الآية 55 في سورة البقرة “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ”، وهذه الصَّاعقة هي ذاتها ‘‘الرَّجْفَةُ’’ في الآية 155 في سورة الأعراف، كما جاء في تفسير ابن كثير. وعد الله بني إسرائيل بالمغفرة عند توبتهم من الإثم، وقدَّم إليهم نبيُّهم موسى ألواح الوحي فيها “هُدًى وَرَحْمَةٌ” للَّذين يخشون ربَّهم بالغيب، أي لا يرونه بأعينهم، إنَّما يستشعرون قدرته وسلطانه، ويعبدونه كأنَّهم يرونه. غير أنَّ بني إسرائيل رفضوا تحمُّل الأمانة، وأصرُّوا على رؤية الله جهرة، فأدَّبهم الله بأن أماتهم بصاعقة، ثم استجاب لابتهال عبده موسى بالصَّفح والمغفرة “أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا”؛ ويأتي التعقيب الإلهي في سورة البقرة المبيِّن لعفو الله عن بني إسرائيل، أملًا في أن يدفعهم العفو إلى شُكر النَّعمة “ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (سورة البقرة: الآية 56). قبل المضي إلى مرحلة جديدة في حياة بني إسرائيل بعد الخروج، نقف قليلًا عند قوله تعالى في سورة البقرة، في إشارته إلى ما أنزله على نبيِّه موسى من كتاب، والذي أشار إليه في سورتي الأعراف بـ ‘‘الألواح’’ (آية 145) “وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (سورة البقرة: الآية 53)”.

لن نقف من جديد عند المقصود بـ ‘‘الكتاب’’، ويكفي التذكير بأنَّه الدستور الإلهي لتنظيم حياة النَّاس لهدايتهم إلى خير سُبُل أداء ‘‘الأمانة’’؛ إنَّما نقف عن كلمة ‘‘الْفُرْقَانَ’’، التي ارتبطت بما أُنزل على موسى، وذُكرت كذلك في سورة الأنبياء “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ” (سورة الأنبياء: الآية 48). تعني كلمة الفرقان لفظًا الَّذي فُرِّق به بين الحقِّ والباطل، وهذا يعني أنَّ ألواح الوحي التي تلقَّاها موسى من ربِّه جاءت لتصحيح عقيدة اعتنقها بنو إسرائيل في فترة مكوثهم في مصر، تجلَّت عند صناعتهم العجل وعكوفهم عليه، في نفس فترة نزول الألواح. عرفنا من دعوة مؤمن آل فرعون في سورة غافر، أنَّ قومه رفضوا الإيمان بصحيح دعوة نبيِّ الله يوسف، كما ثبُت أمامنا أنَّ من بني إسرائيل مَن أعان فرعون على كُفره وشكَّك في دعوة موسى وهارون. يعني هذا أنَّ نزول التَّوراة لم يأتِ إلَّا لتصحيح مفاهيم خاطئة لدى بني إسرائيل اكتسبوها خلال احتكاكهم بأهل الكُفر، ممَّن رغبوا عن صحيح رسالة يوسف، ثمَّ كذَّبوا رسالة موسى. جاءت نبوَّة موسى وهارون بعد غرق آل فرعون، الَّذين توجَّها إليهم بصفتهما رسولين “فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى” (سورة طه: الآية 47).

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى