كتاباتكتابات المنتدى

(الوسطية منهج قرآني أصيل) – وسطية القرآن الكريم في العبادة (2)

(الوسطية منهج قرآني أصيل)

وسطية القرآن الكريم في العبادة (2)

 

بقلم د. علي الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

ذكرنا في المقال السابق الآيات التي تبين انحراف أولئك الذين صرفوا العبادة عن وجهها الصحيح.

وذكرنا كذلك: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة، وبأن عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدلُّ على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف

ونذكر في هذا المقال: الآيات التي جاءت في بعض أنواع العبادة كالصلاة، والدعاء، وغيرهما؛ حيث نجد فيها أمراً بالتزام منهج الوسط، ونهياً عن الإضاعة، أو الرهبنة، وهو ما يمثل الإفراط، والتفريط.

وسأذكر بعض الآيات التي وردت في ذلك، مقتصراً على ما يبين المراد، مع بيان دلالة الآية على الوسطيَّة:

1 ـ ذم الله الإفراط في العبادة والغلو فيها، حيث قال في حق بني إسرائيل من النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ *}[الحديد: 27].

قال القاسمي: (الرهبانية: هي المبالغة في العبادة، والرياضة، والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة، والتبتُّل). (تفسير القاسمي (11/ 4137)

وقال ابن كثير: أي: ابتدعتها أمَّة النصارى {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}. أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: قاموا بما التزموه حقَّ القيام. وهذا ذم لهم من وجهين:

أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.

الثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا: أنه قربةٌ تقرِّبهم إلى الله، عز وجل.

وهذه الرهبانية التي ابتدعها النصارى لم يشرعها الله، وهي غلو في العبادة، ولذلك كانت النتيجة عدم قدرتهم على المحافظة عليها لمشقتها، وصعوبتها.

وقول الله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} دليل على أن الله لا يشرع، ولا يكلف بما فيه غلو ومشقة، كما سبق بيانه. ولقد اعترف عدد من متأخري النصارى بخطأ هذا الغلو، والرهبنة التي ابتدعها أسلافهم، وأنها ليست من دين الله. ونحن لسنا بحاجة إلى ذلك؛ لأن الله قد بين هذا الأمر في كتابه، ولكن هذا الاعتراف له دلالاته التي لا تخفى.

وقد ذكر القاسمي بعض هذه الاعترافات تفصيلاً، أذكر موجزاً منها:

قال صاحب ريحانة النفوس ـ وهو نصرانيٌّ ـ: (إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات، والتأملات الدينية هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة؛ لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة، ثم قال : ونحن نقول بكل جرأة: إنه لا يوجد في جميع الكتب المقدَّسة مثال، ونحن نقول للرهبنة : ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس.

وذكر القاسمي نقلاً عن النصارى من كتاب: «البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل البابوية»: إن ذم الزيجة خطأ ؛ لأنها عمل الأفضل؛ لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة. ثم قال: ومن المعلوم: أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن نستوفيها، إلى أن قال: ولذلك نرى كثيراً من القساوسة، والشمامسة، لا بل من البابوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوَّة الزنى لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي.

ثم قال: فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطانيٌّ قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى. وختم كلامه الطويل ـ بقوله: ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات. ثم عقَّب القاسمي على ذلك: وهو حجَّة عليهم منهم.

هذه نتيجة الرهبنة، والإفراط، والغلو الذي ذمَّه الله، فقال: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء: 171] وقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }[الحديد: 27].

وكما ذمَّ الله الغلوَّ، والرهبنة؛ فقد ذم التفريط، والتضييع، والإهمال، فقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا *}[مريم: 59].

وقال ابن كثير مبيناً دلالة هذه الآيةعلى الخروج عن منهج الوسطيَّة:

لما ذكر الله تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله، وأوامره، المؤدين فرائض الله، التاركين لزواجره، وذكر: أنه{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي: قرون أخرى: {أَضَاعُوا الصَّلاَةَ} وإذا أضاعوها؛ فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين، وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غيّاً، أي: خسارة يوم القيامة. (تفسير ابن كثير (3/ 137)

وقال الشنقيطي في تفسير الآية: (فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي: أولاد سوء. ثم قال: إن هذه الخلف السيِّأى الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة: أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات. ثم قال: فإذا عرفت الكلام في الآيةالكريمة، وأن الله توعَّد فيها من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات بالغيِّ، الذي هو الشر العظيم، والعذاب الأليم؛ فاعلم: أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخرى، كقوله في ذم الذين يضيعون الصلاة، ولا يحافظون عليها، وتهديدهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *}[الماعون: 4 ـ 6] وأشار ـ سبحانه ـ في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتبعون الشهوات، وتهديدهم، وكقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *}[الحجر:3].

ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة: أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتبعون الشهوات، وقد أشار إلى هذا في مواضع كثيرة من كتابه، كما في سورة المؤمنين في وصف المؤمنين، وكقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى *}[النازعات: 40 ـ 41]. (أضواء البيان ، للشيخ الشنقيطي (4/ 307)

2 ـ وبعد أن ذكر الآيات التي تدل على النهي عن الغلوِّ، والإفراط، أو التفريط، والتضييع ذكر بعض الآيات التي تأمر بالتزام الوسط بين الإفراط والتفريط، قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]. نزلت هذه الآيةورسول الله (ص) متوارٍ بمكة: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}كان (ص) إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون؛ سبُّوا القرآن، وسبُّوا من أنزله، ومن جاء به. قال: فقال الله تعالى لنبيه (ص): {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أي: بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن .{وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}عن أصحابك ، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *}. (تفسير ابن كثير (3/ 68)

قال القرطبي: روى مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ  بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قالت: أنزل هذا في الدعاء.

والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهيٌّ عنهما، وهما الجهر الشديد، والمخافتة، والإسرار: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *}

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغَدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ *}[الأعراف:205].

قال القرطبي: {وَدُونَ الْجَهْرِ}أي: دون الرفع في القول ، أي: أسمع نفسك كما قال: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *} [الإسراء: 110] أي: بين الجهر، والمخافتة. (تفسير القرطبي (7/ 355)

وقال ابن كثير: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} أي: اذكر ربك في نفسك رغبة، ورهبة، وبالقول لا جهراً، ولهذا قال: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وهكذا يستحب أن يكون ، لا يكون نداءً، ولا جهراً بليغاً. (تفسير ابن كثير (2/ 281).

وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] قال ابن كثير: أي: جهدكم ، وطاقتكم. وهذه الآيةناسخة لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *}[ آل عمران: 102] ؛ لأنه لما نزلت هذه الآيةاشتدَّ على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى هذه الآيةتخفيفاً عن المسلمين: [التغابن: 16] فنسخت الآيةالمذكورة. ودلالة الوسطيَّة على هذا القول واضحة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}

ونقف أمام قوله تعالى في سورة المزمل: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً *}[المزمل: 1 ـ 4] ثم قال في آخر السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآنِ}[المزمل:20].

قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: {عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآنِ} أي: من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسَّر، وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة الإسراء: {ولا تجهر بِصلاتك} [الإسراء: 110] أي: بقراءتك.

وقال القرطبي: قوله: { فَتَابَ عَليكُم} قيل: (أي: فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، فالمعنى: رجع لكم من تثقيلٍ إلى تخفيف، ومن عسرٍ إلى يسرٍ). (تفسير القرطبي (19/ 53).

وفي الآيات السابقة دلالة واضحة على منهج الوسطيَّة في قيام الليل.

ملاحظة استفاد المقال مادته من كتاب: “ الوسطية في القرآن الكريم”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق: عبد العزيز غنيم، وحمد أحمد عاشور، ومحمد إبراهيم البناء، مطبعة الشعب القاهرة.
  • تفسير القاسمي، محمد جمال الدين القاسمي، راجعه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978م.
  • تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، الطبعة الثانية، بيروت.
  • الوسطية في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى