كتب وبحوث

النّظام العالمي الجديد بين مخطَّط الماسونيَّة والبعث الإسلامي 7 من 10

النّظام العالمي الجديد بين مخطَّط الماسونيَّة والبعث الإسلامي 7 من 10

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

تجربة جماعة الإخوان المسلمين في ترشيح نظام إسلامي موحَّد

يذكّر هنري كسنجر بإقدام حسن البنَّا، مؤسّس جماعة الإخوان المسلمين، عام 1947م، في ظلّ نظام الحُكم الملكي لمصر وفي وجود الاحتلال البريطاني (1882-1954م)، على اقتراح نظام جديد للحُكم بديل عن النّظام العلماني المعمول به حينها. كان البنَّا حينها ممنوعًا من المشاركة في الحياة السّياسيَّة في مصر، فأراد من خلال رسالته إلى ملك مصر، فاروق الأوَّل (1936-1952م) تقديم نصيحته، أملًا في إخراج البلاد من تحت وطأة الهيمنة الغربيَّة، ووضْع حدّ لانتشار الانحطاط الأخلاقي في مجتمع ما بعد سقوط دولة الخلافة. كما يرد في كتاب قراءات برنستون في الفكر الإسلامي: نصوص وسياقات من البنَّا إلى بن لادن (2009م)، انتقد البنَّا نظام وستفاليا واعتبره باليًا، مندّدًا بالدَّور الواهي لعصبة الأمم، وهي المنظَّمة الدُّوليَّة الَّتي شكَّلت نواة منظَّمة الأمم المتَّحدة، ومعلنًا عن توفُّر الفرصة لتأسيس نظام عالمي إسلامي في ظلّ انحدار نظام وستفاليا العتيق، على أن يبدأ تأسيس ذلك النّظام من خلال وحدة الأقطار العربيَّة الَّذي يستتبع بدوره وحدة الأقطار الإسلاميَّة. مستندًا إلى قول الله تعالى “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” (سورة الأنفال: الآية 39)، اقترح البنَّا تفعيل عقيدة الجهاد الإسلامي، وفتْح البلدان غير المسلمة لتكوين “إمبراطوريَّة إسلاميَّة على النَّمط الَّذي سبق للأجداد الورعين أن أقاموا صرحه”، على أن يكون القتال “متدرّجًا وسلميًّا”، نقلًا عن كسنجر (ص123). ويجد المفكّر السّياسي الأمريكي تناقضًا بين النَّزعة الثَّوريَّة المطالِبة بالجهاد المسلَّح لتأسيس نظام عالمي جديد، وبين ادّعاء البنَّا الاعتماد على المودَّة والتَّسامح الدّيني في نشْر رسالة الإسلام. على كلّ حال، لم يُمهل القدَر البنَّا فسحةً من الوقت لإقناع العالم بمفهومه للنّظام العالمي المستند إلى الإسلام؛ فقد اغتيل بعد رسالته إلى عاهل مصر بعامين، في 12 فبراير 1949م.

لم تكن تلك الرّسالة المقترَح الوحيد لجماعة الإخوان المسلمين بشأن تأسيس نظام عالمي استنادًا إلى صحيح الإسلام؛ فقد قدَّم سيّد قُطب (1906-1966م)، الباحث الدّيني وأشهر منظّري الجماعة، خلال فترة سجنه بتهمة التَّخطيط لاغتيال الرَّئيس المصري الأسبق جمال عبدالنَّاصر (1956-1970م)، كتابه معالم في الطَّريق (1964م). يقدّم ذلك الكتاب، الَّذي يصفه كسنجر ذلك بأنَّه “إعلان حرب على النّظام العالمي القائم، ما لبث أن غدا نصًّا تأسيسيًّا للحركة الإسلامويَّة الحديثة”، الإسلام بوصفه نظامًا عالميًّا يستأثر بإمكانيَّة توفير الحريَّة لكافَّة الانتماءات البشريَّة؛ ومن ثمَّ، يجب تعميم مبادئ الإسلام لتصل إلى العالم بأسْره، وإكمال ما بدأه المسلمون الأوائل في القرنين السَّابع والثَّامن للميلاد بنشر الإسلام في كافَّة الأقطار الَّتي غزوها. يتمرَّد قطب على المجتمعات الإقليميَّة في زمنه، الَّتي رآها غير إسلاميَّة وبالتَّالي غير شرعيَّة، مناديًا بتحميل مسؤوليَّة التَّغيير إلى “طليعة رافضة لجملة الحكومات والمجتمعات السَّائدة في الإقليم”، حتَّى الوصول إلى النّظام العالمي المرجو (ص124). ويشارك كسنجر كثير من المحلّلين المعاصرين الرَّأي القائل بأنَّ الطَّليعة الثَّوريَّة الرَّائدة لحركة التَّغيير، الَّتي أرادها سيّد قطب، بدأت تتشكَّل، ولعلَّ في تنظيم القاعدة، المتَّهم بتدبير هجمات 11 سبتمبر 2001م، خير نموذج لتلك الطَّليعة المتطرّفة النَّازعة إلى استخدام العنف في تنفيذ مخطَّط تعميم تطبيق الإسلام على العالم واستعادة دولة الخلافة. وكما يرى السّياسي اليهودي، تتعدَّد تجليَّات تشكُّل طليعة التَّغيير الَّتي نادى بها سيّد قطب في العالم الإسلامي، ومن أبرز نماذجها، إلى جانب القاعدة، تنظيم الدَّولة الإسلاميَّة في الشَّام والعراق (داعش)، وحركة حماس، وحزب الله اللبناني الشّيعي، وحزب التَّحرير السُّنّي، وإن كان قد تأسَّس عام 1953م، أي قبل دعوة قطب بعقد كامل، بهدف إعادة تأسيس دولة الخلافة.

الرَّبيع العربي وإعادة تشكيل النّظام العالمي

يعترف هنري كسنجر بأنَّ الانتفاضات الشَّعبيَّة الرَّافضة لاستمرار الأنظمة الحاكمة الاستبداديَّة في عدد من البلدان العربيَّة، والَّتي اندلعت أواخر عام 2010م وباتت تُسمَّى ثورات الرَّبيع العربي، أحيت لدى المواطِن العربي الأمل في إعادة تأسيس الأنظمة الحاكمة بما يرضي طموحات الشُّعوب المقهورة، ولكن “للحظات عابرة”، على حدّ وصْفه (ص126). اعتُبرت انتفاضتا تونس ومصر ثورتين إقليميَّتين قوامهما حركات شابَّة تقوم على مبادئ الدّيموقراطيَّة الليبراليَّة؛ ممَّا دفع الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة حينها إلى تأييدها. غير أنَّ تحقيق الدّيموقراطيَّة ليس بالأمر السَّهل، ويحتاج إلى كفاح شاقّ؛ كما أنَّ الانتخابات البرلمانيَّة والرّئاسيَّة في مصر أثبتت أنَّ التَّيَّار الإسلامي هو الأعلى قبولًا لدى الجماهير؛ وكان ذلك من مبرّرات فشل تجربة حُكم جماعة الإخوان المسلمين، الَّتي اعتُبرت امتدادًا للحُكم المطلق، مع استبدال السُّلطة العسكريَّة للنّظام البائد بسُلطة دينيَّة، ودون تكريس للتَّعدُّديَّة السّياسيَّة. ويدَّعي السّياسي اليهودي المحنَّك أنَّ المتطلّعين إلى إحلال الدّيموقراطيَّة في العالم الإسلامي من السّياسيين الأمريكيين قد أصيبوا بخيبة أمل في إيجاد “قادة يسلّمون بأهميَّة الدّيموقراطيَّة بوصفها شيئًا آخر غير وسيلة لتحقيق سيطرتهم” (ص126). ضاعت ثورة الشَّباب المتطلّعين إلى تحسين أحوالهم المعيشيَّة، معبّرين عن ذلك بشعار الثَّورة “عيش، حريَّة، عدالة اجتماعيَّة”، بسبب تصارُع النّظام العسكري مع حركات الإسلام السّياسي على اغتنام إرث النّظام البائد. يعبّر كسنجر عن ذلك بقوله (ص127):

نداءات متظاهري الرَّبيع العربي الأصليين الدَّاعية إلى حياة سياسيَّة واقتصاديَّة منفتحة أُغرقت في مستنقع الصّراع العنيف بين النَّزعة الاستبداديَّة المدعومة بالجيش من ناحية والإيديولوجيا الإسلامويَّة المتسلّطة من النَّاحية المقابلة.

في رأي السّياسي اليهودي، وصل محمَّد مرسي، رئيس حزب الحريَّة والعدالة، الَّذي كان الذّراع السّياسي لجماعة الإخوان المسلمين، إلى سُدَّة الحُكم في مصر بدعم من جماعات أصوليَّة متطرّفة، أرادت تحقيق مآربها الخاصَّة بتأسيس نظام شمولي، دون مراعاة لحقوق الأقليَّات غير المسلمة والتَّيَّارات السّياسيَّة غير الإسلامويَّة، لا سيّما الليبراليَّة العلمانيَّة الطَّامحة إلى تأسيس نظام ديموقراطي. من هنا، كان مبرَّرًا للجيش أن يتدخَّل لإنقاذ البلاد من جماعة الإخوان، الَّتي آثرت “التَّركيز على مأسسة سلطتها؛ وقوبلت خطوة الإطاحة بأوَّل رئيس مصر منتخَب بالتَّرحيب من “البيئة الدّيموقراطيَّة العلمانيَّة، الَّتي باتت الآن مهمَّشة” (ص127). ولأنَّ الغرب بنظامي الدّيموقراطي لا يؤيّد إلَّا المؤسَّسات الدّيموقراطيَّة والممسكة بزمام الحُكم عبر انتخابات نزيهة، كان من الطَّبيعي أن يؤيَّد أيَّ خطوة تقمع الاستبداد والسُّلطة المطلقة.

ومع عودة النّظام العسكري إلى الحُكم في مصر وعدم اكتمال ثورة الشَّعوب العربيَّة الأخرى بإعادة إنتاج الأنظمة البائدة بشخصيَّات نافذة تنتمي إليها كانت في الظّلّ في السَّابق، واجهة انتفاضة الشَّعب السُّوري مصيرًا آخر، وتغوُّل النّظام القمعي وتفاقُم استبداده وتفنُّنه في استخدام وسائل البطش بالمعارضين، استغلالًا للانقسامات الطَّائفيَّة لأفراد الشَّعب. تحوَّلت الانتفاضة الشَّعبيَّة في سوريا إلى حرب أهليَّة، ولم تنجح مطالبة الرَّئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما (يناير 2009-يناير 2017م) للرَّئيس السُّوري، بشَّار الأسد (يوليو 2000م-إلى الآن) بالرَّحيل في ترجيح كفَّة المعارضين لبقائه. أخذت الانتفاضة السُّوريَّة شكلًا طائفيًّا خالصًا، بأن سعى الأكراد إلى الاستقلال في شريط حدودي مع تركيا، وأعيد تشكيل البنية السُّكَّانيَّة للعديد من المحافظات السُّورية بإزاحة أهل السُّنَّة واستبدالهم بشيعة، بل وبمنح شيعة متسللين من العراق الجنسيَّة السُّوريَّة. فرض النّظام العلوي، الَّذي حرص في سبعينات القرن الماضي على الحصول على اعتراف ملالي الشّيعة في إيران بشرعيَّته، وتوطَّدت علاقته أكثر بالملالي بعد تأسيس الجمهوريَّة الإسلاميَّة عام 1979م، سيطرته على غالبيَّة أراضي سوريا بمساعدة ميليشيات شيعيَّة، إيرانيَّة ولبنانيَّة، ومرتزقة من شتَّى بقاع الأرض، ولما يبقَ للجيش السُّوري الحرّ المعارض للنّظام سوى مساحة محدودة شمال غربيّ البلاد، بالقرب من الحدود مع تركيا.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى