كتب وبحوث

المنظور الحضاري الإسلامي.. للعلامة منى أبو الفضل

المنظور الحضاري الإسلامي.. للعلامة منى أبو الفضل

عرض د. حسان عبدالله

العلامة منى أبو الفضل(1) (1945-2008م)

تعليق:

ينشغل هذا النص الحضاري – للعلامة منى أبو الفضل (1945-2008) باستعادة الوعي ناحية النموذج المعرفي الإسلامي الحضاري، ومصادره الرئيسة، وغايته في الإنسان والكون، ومقارنته -مبادئه ومفاهيمه وتصوراته- بالنموذج المعرفي الغربي القائم والمندرس، كما يبين هذا النص الحضاري مكان القرآن ومكانته في النموذج الحضاري الإسلامي؛ أي يحدد موقعه وموضوعه في التنظير والتنفيذ وفي الخبرة الحضارية الإسلامية.

إن المنظور –أو النموذج- الحضاري الإسلامي يمثل في هذا النص بديلًا أصيلًا للإنسان المعاصر الذي استهلكته الحضارة المادية بكل ما استطاعت، وحولته إلى شيء ضمن أشياء الكون المادية، وابتلعت روحه وقيمه بدافع العلم والتجربة.

النص: “المنظور الحضاري الإسلامي”(2)

أهمية البعث

المنظور الاجتماعي الحضاري الإسلامي يعد منظورًا أصيلًا يمكن من خلاله إعادة الاعتبار للحضارة الإسلامية، باعتبارها حقيقة تاريخية وواقعًا، وباعتبارها قابلة للتجدد ولاستعادة الفاعلية مع استمرار قابلية الصياغة والتحقق فيها، والمنظور الاجتماعي الحضاري خلافًا للمداخل والمناهج المتداولة في الدراسات الاجتماعية والتاريخية من شأنه إعلاء الأبعاد المعنوية القيمية، وإعلاء دور الفعل الإنساني والمسؤولية البشرية دونما إغفال لاعتبارات بنائية ووظيفية وحيوية أخرى، وذلك أن المنظور الاجتماعي الحضاري –مع أنه يستقي أصوله من استقراء الخبرة الحضارية للإنسان التاريخي مسترشدًا بواقع النموذج للواقع الإنساني منذ بزوغ تأسيس أمة النبي صلى الله عليه وسلم- لا يستغرب أن يكون منظورًا مستقى من الخبرة الحضارية الإسلامية، منظورًا يتسم بالعالمية قدر ما يكون منظورًا يتفق ودراسة الواقع العربي المعاصر بوجه خاص.

في التكوين الاجتماعي للمنظور

إن الأمة في الإسلام قد استوعبت –عمليًا وثقافيًا عقيدة وفكرة وروحًا- شعوبًا وقبائل شتى لم تقتصر على جنس أو عنصر أو تاريخ أو لغة أو منطقة جغرافية دون غيرها، وإن كان العرب قد شكلوا قاعدة ونواة لهذه الخبرة المتنوعة الجامعة، فإن طبيعة وواقع دعوة الحق باعتبارها دعوة خاتمة للبشرية كافة حالت دون الاقتران المانع أو التقوقع الملازم لجماعة دون غيرها.

الباحث والمنظور الحضاري

بذلك يظل المنظور الإسلامي الحضاري يوجه الباحث لفعاليات واقع تاريخي مغاير أو متغير قد تغيب عن مقتربات أخرى تتسم بالإفراط والتفريط، وتغلب عليها الصبغة المادية والارتباط بالظاهر أي تمعن في الأخذ بالأبعاد الدقيقة في تعاملها مع عالم الحركة والتركيب في متابعة الظواهر الاجتماعية والإنسانية.

وفي مقدمة هذه الفعاليات المغيبة، تأتي رغبة الأمم الحية في الحفاظ على التراث وتجديد البناء في مواجهة قوى الفساد والبغي التي تقوم على التسلط والاستبداد والطغيان، ولو كان ذلك على حساب آخرين؛ أفرادًا أو جماعات، أو في مواجهة قوى التكامل والتآكل والضمور الذاتية التي تستنزف طاقة الأمة والقدرات الفاعلة التي تنتهي بها إلى الهلاك.

إن المنظور الحضاري يوجه النظر إلى شروط النهضة بالقدر الذي يتعامل كذلك مع عوامل الإهلاك والفناء، وكلا الحالتين؛ حالة النهضة والاقتدار من جانب، وحالة الضعف والاستنفاذ من جانب آخر، هي من الحالات التي تلازم الجماعات والأمم عبر الزمان، وتلك الحالات التي تستوقف نظر الباحث في الواقع العربي بشكل خاص، حيث يتجسد مأزق الوجود والبعث الحضاري للأمة.

المنظور الحضاري.. إطارًا فكريًا للدرس المعرفي

كما يأتي المنظور الحضاري الإسلامي الذي هو في الواقع منظور تجدد حضاري ليحتل موقعه كإطار ينتظم العديد من الدراسات الممكنة للواقع العربي والإسلامي والواقع التاريخي المعاصر، التي تتخذ من جملة من الظواهر والأعراض نقاط ارتكاز لإعادة القراءة المشخصة لهذا الواقع.

ومن ثم، فإن “المنظور الحضاري الإسلامي” كمنظور تجدد حضاري من شأنه أن يصوغ فكرًا جديدًا مبدعًا، يتسم بالحيوية والإنشاء، ويتسم بقابلية لتحقيق قدر من التنوع والانفتاح على منافذ متعددة ومتجددة عند تكوين الواقع الحضاري، بالإضافة إلى طبيعة هذا المنظور من حيث كونه يتجاوز إطارًا للرؤى التشخيصية إلى “رؤية حضارية إصلاحية تكوينية”.

ومن ثم تتحول الدراسات التي تتبنى هذا المنظور إلى أن تكون نواة لمشروعات حضارية تتسم بقدرة على تحقيق زيادة فهم للواقع، وقدرة على ترشيد هذا الواقع، فهي تعرضه وتحلله وتفهمه وتقوم بعد ذلك بترشيده انطلاقًا من ذلك الفهم من خلال تقديم البدائل والحلول التي تتفق وطبائع التكوين الحضاري عامة، والمعنى بالكيان الاجتماعي الحضاري موضع الدراسة خاصة.

مستقبل المنظور الحضاري الإسلامي

إن النظر إلى عالم ما بعد الحداثة يجعلنا نوقن بأن ثنائية جديدة ستقوم في هذا العالم ما بين القيم المادية النفعية ومفاهيم الوصولية والمصلحة والاستغلال تلك التي تمثلها الخلفية الوضعية للحضارة الغربية التي تنطلق من “لاهوت الأرض”، ومن انعكاسات الفكرة العلمانية اللادينية في النظر إلى الحياة والكون والإنسان ذلك من ناحية، وبين تلك القيم المطلقة الإنسانية والأخلاقية والجمالية القائمة على الإيمان بالله وتكريم الإنسان وإعمار الكون.

تلك القيم المستندة إلى “التوحيد” و”الاستخلاف” لهذا الإنسان على الأرض وعلى “التسخير”؛ تسخير الكون بقوانينه ونواميسه التي تدعو إلى الإيمان بقيم التوحيد والتزكية والعمران، وما يتفرع من تبنٍّ للهدى والحق والعدل والمساواة بين الناس وإلى الشورى والتكافل داخل المجتمع، وذلك انطلاقًا من دعوة التوحيد وشهادة الحق على العالمين، تلك رسالة يحملها الكتاب الكوني الوحيد؛ ألا وهو القرآن.

منظورات مقارنة

إن المعادلة الفكرية والعقائدية التي يحملها القرآن تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التي تظهر في الفكر الغربي بكل فلسفاته، فهي ليست “المعادلة السياسية”، كما في الفكر الليبرالي التي تضع الحريات السياسية في صورة النظام الديمقراطي كقيمة أسمى للمجتمع، ثم تشتق منه فكره الاقتصادي في صورة الاقتصاد الرأسمالي الحر.

كما أنها ليست “المعادلة الاقتصادية” التي قدمها الفكر الاشتراكي والماركسي المنهار، التي تضع الصراع الطبقي باعتباره المحرك الأول للعملية الاجتماعية والتاريخية، وبالتالي تضع صراع طبقات المجتمع مع بعضها بعضاً، وقضاء البروليتاريا” على البرجوازية كقيمة أسمى للمجتمع في صورة “دكتاتورية البروليتاريا” أو النظام الشمولي السلطوي، فتحرك المجتمع بذلك الاتجاه لتحقيق حتميات تاريخية ثبت أنها هراء.

المعادلة القرآنية الحضارية

إن المعادلة الفكرية التي يقدمها القرآن تبني تصورًا شاملًا ومترابطًا للفرد والمجتمع والأمة والدولة، التي تنبثق من داخلها وتقوم بصياغة علاقاتها الاجتماعية باعتبارها دعامة أولية في بنائها العام، ثم تستخرج من داخل النموذج القرآني قواعد “التكافل” كقاعدة اقتصادية تقوم عليها قواعد العمل والعمران لبناء قاعدة اقتصادية إيمانية تقوم عليها عمليات “الإنماء العمراني”، ونستخرج من داخل النموذج قواعد “الشورى” لتقوم عليها كافة جوانب “الحريات” والحقوق والواجبات، ولتكون إطارًا للنظام السياسي الذي يكفل المشاركة، ويضمن “الحريات ويصون حقوق الإنسان” داخل المجتمع والأمة والدولة.

إذن، فالمعنى المعرفي والدلالي لعملية بناء الأمم (كما في البعد الحضاري القرآني) هو ذلك البناء الذي يقوم على تكافل عناصر المجتمع الإنساني باعتبارهم أسرة كبرى ممتدة، تعيش في بيت مشترك هو الأرض، تستظل بقيم مشتركة هي “التوحيد والتزكية والعمران”، وتتحرك وفق قواعد مشتركة منبثقة عنها، ومنها “قواعد التفكير المشترك”.

النموذج الحضاري البديل والعالمية

إننا عندما ننظر في ضوء هذا البديل القرآني إلى واقع العالم المعاصر ومستقبله، فإننا لا نشك في أن إنقاذ العالم يتوقف على تحقيق “العالمية الإسلامية المرتقبة” لتكون بديلًا كونيًا للإنسان قبل أن يسلمنا التخريف العلمي والرواسب الدينية الغربية إلى نهاية التاريخ، بل نهاية العالم من خلال المناداة بانتصار القيم الليبرالية المطلقة والفكر الوضعي.

إن نهاية التاريخ لن تكون بالوصول إلى “الإنسان الصناعي الرشيد” أو إلى “المجتمع التكنولوجي الآلي” وفق مختلف تقريرات “الفكر المادي الوضعي” في هذا المجال، بل ستكون وفق قيم القرآن، ووفق سُنة الله في الكون، وسُنة الله في الخلق، ووفق مضمون “التدافع الحضاري” الذي قرره القرآن، ووفق سنن التداول بين الشعوب والأقوام أتقاهم نفسًا وأصلحهم عملًا؛ (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، فهي لن تكون “نهاية التاريخ”، ولكنها “البداية”؛ بداية عودة الإنسان الذي استهلكته الحضارة العلمانية المادية الغربية إلى الحقيقة الإيمانية الأسمى والمعنى المعرفي الأصيل لحياته ووجوده.

خطوات على الطريق

إن استعادة فعالية المنظور الاجتماعي الحضاري يتطلب عدة خطوات، أهمها:

1- أن يسترد العرب والمسلمون وعيهم الحضاري العمراني بالقرآن الكريم، وأن يوقنوا بأنه كتاب خلافة وعمران وتزكية، أنزل لبناء العمران، لا ليقرأ على الأموات، فهو برنامج لبناء حياة.

2- أن يدرك العرب والمسلمون أن انفصالهم عن القرآن لن يزيدهم إلا خسارًا، وأنهم بحاجة ماسة لمعرفة كيفية قراءته وحمله وتقديمه إلى البشرية باعتباره الكتاب الكوني المعادل للوجود وحركته، القادر على استيعاب مشكلات العصر وتجاوزها.

 

___________________________________________

(1) منى محمد عبد المنعم أبو الفضل، مولودة في القاهرة (1945)، وتوفيت فيها أيضًا (2008)، تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة عام 1966، وحصلت على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لندن عام 1975، وعملت أستاذًا زائرًا بالمعهد العالمي للفكر الإســلامي بواشـنطن من عام 1986-1995، وأسـتاذاً زائراً في جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بواشنطن التي شاركت في وضع برامجها التأسيسية من عام 1995-2008، والتحقت بهيئة التدريس بجامعة القاهرة منذ عام 1976، كما شــاركت في العديد من المؤتمرات العربية والدولية خصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا وكانت عضوًا في الجمعيات العلمية المتخصصة في مجالات العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية.

(2) لم نتدخل في النص إلا بإضافة العناوين الفرعية لبعض الفقرات بغرض بيان مسارات النص، ومرجع النص هو: منى أبو الفضل/طه جابر العلواني: مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى