كتب وبحوث

المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية 14

المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية 14

إعداد أكرم حجازي

ثانيا:  تاريخية ولاية الفقيه

    لا تختلف عقلية الخميني العقدية عن عقلية أسلافه من مشايخ « الإمامية»، ولا عن حكام الشيعة والدولة « الصفوية»، إلا في المزيد من الشطط والكفر والشرك. وليس غريبا عنه، كأستاذ فلسفة أصلا، أن يجد في عتاة الإلحاد والزندقة، كالحلاج وابن عربي ضالته، إلى جانب العقائد الوثنية القادمة من الهند، وكذا « النصرانية» وحتى « اليهودية» كما يقول كمال الحيدري. ولعله لا يختلف اثنان على أن عقيدته في « الولاية» كانت أبرز ما أحدثه في « الإمامية» منذ ظهرت بواكيرها الأولى مع عبد الله ابن سبأ. ومع أن أبرز علماء « الإمامية» خالفوه فيها، ودفعوا ثمنا باهظا في معارضته، سواء في حياتهم أو في حريتهم حتى التعفن في السجون أو الممات، إلا أنها غدت في وقت قصير جدا هي المهيمنة على الطائفة، ليس في إيران فحسب، بل حيثما تواجد الشيعة في العالم. وإذا كان إسماعيل شاه الصفوي قد فرض « الاثنى عشرية» مذهبا رسميا للدولة لأول مرة في التاريخ، واستعان بـ « ولاية الفقيه»، إلا أن الخميني فرضها رسميا على الدولة والمذهب حيثما تواجد، وليس في إيران فحسب.

     وفي كتابه عن « الحكومة الإسلامية – ص11،12»، يتحدث عن « ولاية الفقيه» قائلا: « إن العقلاء بفطرتهم يعتبرون في الحاكم كونه عاقلا أمينا عالما برموز السياسة والتدبير قادرا على التنفيذ والإجراء، … وعلى هذا فالأمة الإسلامية حسب اعتقادها بالإسلام وقوانينه العادلة الجامعة تتمنى أن يكون الحاكم عليها والمهيمن على شؤونها رجلا عاقلا عادلا عالما برموز السياسة قادرا على التنفيذ، معتقدا بالإسلام وعالما بضوابطه ومقرراته، بل أعلم فيها من غيره، ولا نريد بولاية الفقيه إلا هذا. وهذا العنوان كان ينطبق عندنا في عصر ظهور الأئمة (عليهم السلام) على أئمتنا (عليهم السلام) عترة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبواب علمه وفي عصر الغيبة ينطبق على من تفقه في الكتاب والسنة وعرف أحكامها. وبهذا البيان يظهر لك أن ولاية الفقيه الجامع للشرائط التي أشرنا إليها أمر يتمناه ويطمح إليه كل من اعتقد بالإسلام وجامعيته حسب عقله وفطرته. وليس معنى ولاية الفقيه تصديه لجميع الأمور بنفسه، بل هو يفوض كل أمر إلى أهله من الأشخاص أو المؤسسات مع رعاية القوة والتخصص والأمانة فيهم ويكون مشرفا عليهم هاديا لهم، مراقبا لهم بعيونه وأياديه ومسؤولا عن أعمالهم لو تساهلوا أو قصروا، ويشاور في كل شعبة من الحوادث والأمور الواقعة المهمة، الخواص المضطلعين فيها، حيث إن الأمر لا يرتبط بشخص خاص حتى يكون الاشتباه فيه قابلا للإغماض عنه، بل يرتبط بشؤون الإسلام والمسلمين جميعا وقد قال الله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، (الشورى: 38)، وإذا كان عقل الكل وخاتم الرسل خوطب بقوله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر، ( آل عمران: 159)، فتكليف غيره واضح وإن تفوق ونبغ».

    وفي قراءة الشيخ مصباح يزدي للولاية المطلقة في كلام الخميني[1]، ينقل عنه القول:

   « وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فانه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي ) صلى الله عليه وآله(  منها، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا. ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول ) صلى الله عليه وآله( ، وأمير المؤمنين )عليه السلام) على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة»، (الحكومة الإسلامية ص 49).

      ويقول أيضا في ( شؤون وصلاحيات « الولي الفقيه» من كتاب البيع ج2، ص466): « فيكون لهم في الجهات المربوطة بالحكومة كل ما كان لرسول الله والائمة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين ولا يلزم من ذلك أن تكون رتبتهم كرتبة الأنبياء أو الأئمة (عليهم السلام) فان الفضائل المعنوية أمر لا يشاركهم (عليه السلام) فيه غيرهم».

    وفي نفس الكتاب (ص 467) يقول الإمام: « فللفقيه العادل جميع ما للرسول والأئمة (عليهم السلام) مما يرجع إلى الحكومة والسياسة ولا يعقل الفرق، لأن الوالي. أي شخص كان. هو مجري أحكام الشريعة والمقيم للحدود الإلهية والآخذ للخراج وسائر الماليات والمتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين».

ويقول في موضع آخر: « وعلى ذلك يكون الفقيه في عصر الغيبة ولياً للأمر ولجميع ما كان الإمام (عليه السلام) ولياً له، ( ص 496). ويقول كذلك في موضع آخر: « ثم إن المستحصل من جميع ما ذكرناه أن للفقيه جميع ما للإمام (عليه السلام) إلا إذا قام الدليل على أن الثابت له (عليه السلام) ليس من جهة ولايته وسلطنته بل لجهات شخصية».

     بدأت قصة صعود الخميني وأفكاره في مطلع ستينات القرن العشرين. فقد اعتقل في أعقاب ما عرف سنة 1963 بـ « الثورة البيضاء»، التي أعلن الشاه بموجبها حزمة مما سمي بالإصلاحات، ذات النزعة التغريبية الفجة، والتي تسببت باحتجاجات شعبية دموية. وجاء الاعتقال على خلفية جملة قيل أن الخميني وصف الشاه بها بأنه: « رجل بائس سيئ». ثم أفرج عنه ووضع تحت الإقامة الجبرية لمدة ثمانية شهور، ثم اعتقل أواخر العام 1964، قبل أن يتم نفيه خارج إيران، ليعود، بعد 14 عاما قضاها في المنفى، قائدا للثورة الشعبية التي أطاحت بالشاه سنة 1979.

        ما بين الإعلان عن « الثورة البيضاء» وسقوط الشاه، شهدت إيران مرحلة استبداد على شاكلة مصطفى

 كمال أتاتورك في تركيا. لذا فقد ظهرت ردود فعل قوية من علماء ومفكرين إيرانيين من بينهم الخميني الذي كان ينشط باتجاه بديل إسلامي للتغريب الشاهنشاي. وبدأت الفكرة بالقول أن: « الإسلام يتطلب حكومة إسلامية يتزعمها ولي فقيه، أي كبار فقهاء القانون الإسلامي، في سلسلة محاضرات في أوائل سنة1970، صدرت فيما بعد في كتاب، بين الخميني أن المذهب الشيعي يتطلب الانصياع لقوانين الشريعة وحدها، وفي سبيل ذلك، لا يكفي أن يقود الفقهاء جماعة المسلمين، بل عليهم أن يقودوا الحكومة أيضاً». أما الكتاب فقد « انتشر على نطاق واسع في الأوساط الدينية، خاصة بين طلاب الخميني والملالي، وصغار رجال الأعمال، وراح هذا الفريق يطور ما سيصبح شبكة قوية وفعالة من المعارضة داخل إيران، مستخدمة خطب المساجد، وتهريب شرائط تسجيلات صوتية للخميني وطرق أخرى».

   يقول الموسوي أن غياب البديل، بفعل الاعتقالات والقمع الشاهنشاهي، وليس الكفاءة، كان السبب الذي دفع المعارضة الإيرانية لاختيار الخميني كواجهة يمكن تقديمها للمجتمع الإيراني. ولم يكن أحد ليتصور أن يغدو هذا الاختيار هو الكارثة المنتظرة بعينها[2]. لكن إذا كان الشاه بهلوي خرج عن « الخط العقدي» لـ « الإمامية»، بانتهاجه فلسفة التغريب، إلا أنه لم يخرج عن « الخط الزمني» لفارس. أما الخميني فلم يخرج عن أي من الخطين، فيما استحدثه من « ولاية الفقيه». ولا ينفي هذا أن « ولاية الفقيه» لا تزال مسألة خلافية بين تيارين في « الإمامية»، أحدهما، وهو المهيمن، يؤيدها بشدة ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة، والثاني يعارضها، ويعتبرها الأداة الاستبدادية التي تحكم الإيرانيين بقوة السلطة وأدواتها وليس بدعواها الفقهية أو العقدية.

   تقول المادة الخامسة من الدستور الإيراني: « في زمن غيبة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير وذلك وفقًأ للمادة 107». أما الفقرة الأولى من المادة 115 فتشترط: « أن يكون رئيس الجمهورية إيراني الأصل ويحمل الجنسية الإيرانية»! وهذا يعني استبعاد كافة القوميات من منصب الرئاسة دستوريا. ومع ذلك فالسؤال: لماذا حضرت جنسية الرئيس وغابت جنسية « الولي الفقيه»؟ الأمر ببساطة: لأن الذين وضعوا الدستور وقعوا في مآزق شتى، وتناقضات فاضحة، مثلما هو الحال في عقائدهم ورواياتهم.

  • فالخميني يمكن أن يكون هنديا أو بريطانيا أو من أية قومية أخرى، إلا أنه بالتأكيد لم يكن فارسيا أبدا. والتنصيص على الجنسية الإيرانية لـ « الولي الفقيه» سيؤدي إلى إخراجه من « الولاية» برمتها. لكن تجنب التنصيص على الجنسية لن يكون الحل السحري في تجنب الحرج، بقدر ما سيؤدي إلى فضائح أخرى لا تتوقف عن الانكشاف. فباعتبار « الولي الفقيه»، إماما لعموم المسلمين، وطاعته واجبة، فهذا يؤشر على أن الدستور، من المفتلرض، أنه لا يمانع بأن يحمل أية جنسية أخرى، كأن يكون مثلا مسلما ماليزيا أو إندونيسيا أو أفريقيا أو أوروبيا أو أمريكيا. لكن؛ هل سيصمد مثل هذا الاعتبار أمام المادة 12 التي تقول بأن: « الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الإثنا عشر، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير»؟ بالتأكيد لن يصمد حتى لحظة واحدة! فعن أي مسلمين أو إمام يجري الحديث إذا كان النص الدستوري مذهبي وحتى طائفي وعنصري؟ وما هي هوية الثورة التي يطالب الدستور و« الولي الفقيه» بتصديرها؟
  • وبما أن الخميني بزعمهم ينتسب إلى سلالة الإمام موسى الكاظم، فهو بالتالي عربي! ومن المفارقات العجيبة فإن التنصيص على الجنسية الإيرانية، بالمحصلة مثل عدمه، سيخرجه أيضا من « الولاية». والأسوأ من ذلك أنه سيقصي منها كل فقيه يحمل لقب « السيد». وبدلا من أن يكون الانتماء لآل البيت نعمة يمتطون بموجبها ظهور العامة والخاصة والدهماء، فسيغدو لعنة تطارد من يجاهر بها. ولحل هذه المعضلة يلجأ القوم إلى قاعدتهم الذهبية التي تقول: « قبلنا الإسلام ولم نقبل العربية»! وهي تعني أن آل البيت مسلمون وكفى، وبالتالي فليس ثمة حاجة لمجرد الحديث عن أصولهم العربية، وهو منطق ثقافي عميق يتحصن في قعر فارس العنصرية، والحاقدة على الإسلام .. منطق يقضي بأن تحضر الفارسية على الدوام، فيما تغيب العروبة حتى عن « آل البيت». وبهذه الثقافة تمتزج أسطورة الحق الإلهي في « الولاية»، سواء في ظل الإسلام، عبر أطروحة « آل البيت»، أو في ظل كورش ويزدجر وسلالات الأباطرة الفرس!!!

    لذا لم تكن « ولاية الفقيه» بدعة خمينية صرفة كما جرى الترويج لها. وما فعله الخميني من وضعها موضع التنفيذ هو استعادة صفوية لها بامتياز. وبالتالي فهي عدوان صريح على الإسلام والمسلمين، لا يناظره في الضراوة حتى الدولة العبيدية. أما أصل الفكرة فتعود بدايةً إلى الشيخ محمد بن مكي الجزيني (743 – 786هـ)، صاحب كتاب « اللمعة الدمشقية»، حيث وردت لأول مرة عبارة « نائب الإمام». فقد تلقى هذا دعوة من علي مؤيد، آخر ملوك الدولة السربدارية في خراسان بدءً من سنة ٧٦٦هـ. إلا أن الجزيني عجز عن السفر، واكتفى بإرسال كتابه كدليل يسترشد به فقهاء الشيعة. أما الفكرة فظلت طي الكتاب لأكثر من 200 عام[3].

     يبدو أن الشاه إسماعيل، لما رام فرض التشيع على فارس والناس، فضلا عن التوسع في الجوار، تعرض لعقبة مذهبية في الإثنا عشرية، تحول بينه وبين الجهاد قبل خروج المهدي. ولعله وجد بداية أمره في التصوف ضالته الأولى في التغلب على المشكلة. وفي السياق ينقل بن صالح المحمود عن بعض المصادر الشيعية، رواية تقول بأن: « الشاه إسماعيل كان مع أتباعه الصوفية في الصيد في منطقة تبريز، إذ مرّ بنهر فعبره لوحده، ودخل كهفاً ثم خرج متقلداً بسيف، وأخبر رفقاءه: أنه شاهد في الكهف المهدي، صاحب الزمان، وأنه قال له: لقد حان وقت الخروج، وأمسك ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض .. وشدّ حزامه بيده ووضع خنجراً في حزامه وقال له: اذهب فقد رخصتك»[4]. وبالتأكيد لم يكن هذا كافيا، لاسيما وأن فارس بالكاد كان يوجد فيها كتاب عن التشيع، فضلا عن قلة العلماء والشيعة. وهو ما دفعه للاستعانة بعلماء جبل عامل في لبنان. وهكذا بدت الطريق ممهدة لصاحب لقب « مخترع الشيعة»، الشيخ نور الدين علي بن عبد العالي الكركي، كي يتلقى دعوة من الشاه إسماعيل، للقدوم إلى إيران سنة 916هـ. وقد ابتدع في البداية فكرة « نيابة عامة للفقهاء»، تُعنى بشؤون المذهب واحتياجات الأتباع، لكنه فيما بعد جعلها نيابة سلطة، يتولاها الفقيه بوصفه « نائب الإمام الغائب» بالوكالة[5]. لذا وبعد وفاة إسماعيل غدا الكركي نائبا عاما للإمام المهدي، وصاحب صلاحيات مطلقة، اقتصادية وسياسية ودينية في الدولة الشيعية الجديدة، إلى درجة أن الشاه طهماسب كان يعتبر نفسه نائبا له أيضا[6].

   وبحسب المصادر الفارسية المعاصرة حول أصول مفهوم « ولاية الفقيه» فالتركيز يقع على الشيخ الكاشاني، آية الله أحمد النراقي، الذي توفي سنة 1245هـ. وتقول الشمراني أن:« الشيخ النراقي له الفضل في صياغة الفكرة وتفصيلها، وإنْ نُسبت صياغة العنوان إلى الشيخ ابن مكي الجزينى»، إذ أنه عمل على: « تعزيز دور الفقيه، ودعا إلى تبوئه مركز السلطة بطرحه نظرية ولاية الفقيه، بصيغة تعد خرقا للإجماع الشيعي في مسألة الولاية، في أول الأمر، وقد أثبت النراقي للفقيه كل ما هو للنبي والإمام، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما، وكان يدعو إلى الولاية المطلقة»[7].


[1] « ولاية الفقيه المطلقة في كلام الإمام الخميني»، موقع « الشيخ مصباح يزدي»، على الشبكة:  http://cutt.us/ukYUO

[2] د. موسى الحسيني، « الثورة البائسة»، مرجع سابق، ص15.

[3] زهرة جمهور علي الشمراني،« التشيع الفارسي وموقفه من المخالفين»، رسالة « ماجستير»، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، المملكة العربية السعودية، 2012، ص 233، 234.

[4] عبد العزيز بن صالح المحمود، « عودة الصفويين، مرجع سابق»، نقلا عن:  « تاريخ الشاه إسماعيل»، ص88، طبع مركز تحقيقات فارس، إيران- وباكستان، إسلام آباد، عالم آراء صفوي، ص64.

[5] محمد البنداري، « التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي»، دار عمار، ص62. الكتاب صدر باسم مستعار. وهو للدكتور العراقي بشار عواد معروف. هذا ما كشف عنه في حوار معه على موقع « الجلفة» الجزائري، 10/7/2013. على الشبكة: http://cutt.us/V3ff8

[6] زهرة جمهور علي الشمراني،« التشيع الفارسي وموقفه من المخالفين»، مرجع سابق، ص234.

[7] نفس المرجع، ص234.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى