كتابات

السياسي والدعوي في أعقاب الثورات المضادة

بقلم أنور قاسم الخضري

كل مرحلة تاريخية تحمل معها تغيراتها وظروفها الخاصة بها، ما يعني ظهور تحديات جديدة ومتطلبات جديدة وأدوار جديدة. وما قد يصلح لمرحلة ما قد لا يصلح لغيرها بالضرورة. والاعتبار في ذلك كله للتقدير الصحيح للواقع واتخاذ الموقف المناسب له حسب القدرة والإمكان، استنادا لرؤية شرعية تضمن بقاء هذا الموقف في دائرة المباح وفسحة الرخصة. وشمولية المشروع الإسلامي لا تنفي ضرورة التخصص الوظيفي، ولا تستلزم قيام جماعة واحدة أو حزب واحد بكل تكاليف المشروع دون بقية الأمة. فكما وجد مؤسسات عمل إغاثي، ومؤسسات ثقافية وفكرية، ومؤسسات حقوقية، وبنوك وشركات وفقا للمنظور الإسلامي للاقتصاد، كل ذلك من رحم الحركات الإسلامية، فمن الطبيعي أن توجد كيانات سياسية متخصصة بالسياسة دون أن يعني ذلك تخلي طرف عن الآخر.

مفهوم الفصل بين السياسي والدعوي:

بعيدا عن المنطلق العلماني في الفصل بين الدين والسياسة، والدين والدولة، باعتبار أن الدين علاقة بين العبد وربه، واختيار فردي ليس مرتبطا بالمجموع، فإنَّ الذي يجري في الأحزاب والحركات الإسلامية هو فصل على سبيل التمييز والتخصص، مع بقاء الارتباط والهوية والمرجعية.

وإدخال المفهومين في بعض خطأ ومغالطة لا تليق بالقائلين بوجهات النظر المختلفة، الموافقة والرافضة، الراضية والساخطة. وهنا يمكن الاستشهاد بتصريح رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي لـوكالة الأناضول، حيث قال: “نحن لا نتحدث عن علاقة فلسفية (بين الشقين السياسي والدعوي داخل حركة النهضة)؛ لأننا نعتقد أن الإسلام دين شامل، وأن المسلم يمارس كل نشاطه في ظل عقيدته؛ فلا فصل في عقل المسلم وقلبه بين الدنيا والآخرة”، وأضاف: “نحن نُؤْثِر استخدام كلمة التمايز والتخصص بدل كلمة الفصل (بين الشقين السياسي والدعوي) التي تعود بنا إلى فلسفات أخرى، وإلى مراجع أخرى تتعلق بمسائل فلسفية حول العلاقة بين الدين والسياسة؛ فنحن نتحدث عن تمايز وتخصص”. وقال: “نحن نتحدث عن مرجعية إسلامية، ونحن لا نريد سياسة منعزلة عن القيم الدينية، بل نريد سياسة ببواعث وقيم إسلامية ومقاصد شرعية”[1].

فإذا الفصل المقصود به هو إيجاد كيانين لهما ذات الهوية والمرجعية لكنهما يختلفان في مجال النشاط والأدوار والوظائف؛ بحيث ينشغل كل من الكيانين بوظيفته بشكل مهني واحتراف، ومن منطلق التفرغ والتأهل.

وسواء كان الفصل في داخل الجماعة أو الحركة، أو بتنسيق بين الجماعات والحركات الإسلامية والأحزاب السياسية، فإن صور الفصل تتعدد وتختلف من بلد لآخر، وحسب الظروف والمعطيات الدستورية والقانونية والاجتماعية.

دواعي الفصل وأسبابه:

تتعذر الجماعات والحركات الإسلامية في فصلها بين السياسي والدعوي على عدة مبررات تنحو عادة إلى الظروف المحيطة، والتهديدات الخارجية، والضغوط السياسية والأمنية. ونادرا ما يكون التأسيس لهذا الفصل على رؤى ودراسات تقيم مستوى الأداء لهذه الجماعة أو تلك الحركة خلال مسيرتها التي مزجت فيها بين الدعوي والسياسي. لذلك تظل الوجوه هي ذاتها قبل وبعد!

وبعيدا عن هذه المبررات التي قد تجد أرضية من الواقع إلا أنَّ تحديد مجال وأدوار ووظائف: الحزب السياسي والجماعة الدعوية، وتمييز اختصاص كل منهما، ومدى صلاحياته، بات أمرا ضروريا، مع تشعب المناشط واتساع الاهتمامات.

فالحزب يتخصص في الإصلاح انطلاقا من الدولة. والجماعة تتخصص في الإصلاح انطلاقا من المجتمع, فمجال كل منهما وجمهوره مختلف عن الآخر.

الحزب يمثل جزءا من قوى سياسية تتوازع الأدوار في سبيل الإصلاح السياسي، ويبني تحالفاته بعيدا عن أي تبعات على الدعوة. والجماعة تمثل جزءا من قوى المجتمع التي تطالب بالإسلام كمرجعية وهوية دون انحياز لطرف سياسي على آخر، وإنما للأطراف التي ستعمل لهذه الغاية؛ ومهمتها تنشئة جيل صالح ومجتمع واع يتفاعل مع قضاياها إيجابا.

والحزب يستقطب كل من يوافقه أهدافه العامة مهما اختلفت الرؤى الفكرية والمذهبية. والجماعة تعتني بالمنهج الدعوي والبناء التربوي والقيم الأخلاقية، ومدى ارتباط الفرد العضو بها، وتجاوبها معها.

والحزب مطالب بأن يكون مؤهلا للعمل السياسي، وصاحب مشروع عملي ناجح ومقنع، وهذا يجعله لا يركن على قواعد مسلمة له بالمطلق. والجماعة مطالبة بأن تكون سندا للأحزاب وفقا لمنطق الكفاءة والأمانة والإنجاز.

والحزب يستهدف خدمة جميع فئات المجتمع دون تحيز، ويحقق التنمية والرفاهية للمجتمع كأساس للاستقرار والأمن والنهضة. والجماعة تعزز روح الانتماء للإسلام، ودعوة الآخرين إليه بحكمة وموعظة حسنة، وتتجاوز في تواصلها مواقف السياسيين وصراعاتهم.

الأحزاب تتعرض للنقد والتشكيك والاتهام في ضوء ما تتحمله من مسئوليات، وما تقدمه من وعود، وما تحققه من مكاسب ومصالح، ومن ثم فهي قد تتعرض للإسقاط والذم. أما الجماعة فهي بحاجة لأن تظهر أكثر قدوة ونقاء وبعدا عن الشبه والمكاسب الدنيوية، كونها تحمل توجيها يدعو للزهد والورع والقناعة. فالجماعات الدعوية بمثابة (كوابح) للأحزاب السياسية والسياسيين كي لا يغرقوا في مصالحهم وخصوصياتهم. وكي يكون قولها مسموعا ووعظها مقبولا يفترض بها أن تكون محايدة ونقية عن أي تهمة.

آثار الفصل بين السياسي والدعوي:

في أي قضية تطرح تتعدد الآراء وفقا لطبيعة المنظور الذي ينطلق منه كل طرف. فهناك من يرى جانب الإيجابيات ويغلبها، وهناك من يرى جانب السلبيات ويغلبها، وهناك من يتوقف، والوسط هو النظر للإيجابيات والسلبيات والموازنة بينها.

وفيما عدا الحالات التطبيقية هنا أو هناك فإن الحديث عن الفصل بين السياسي والدعوي يظل تنظيرا عائما، أما عندما يتعلق الأمر بحالة ما، وفق معطيات مجتمع ما، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وأمنيا وتعليميا، فإنه يكتسب أهميته ويكون أكثر موضوعية. فالآثار مرتبطة سننيا بإعمال الفكرة في الواقع، ودون ذلك تظل فكرة مجردة.

المؤكد هو أن الفصل لا يعني بالضرورة تحول الحزب عن هويته الإسلامية ومرجعيته الشرعية، وربما كان تكتيكا يلائم ظرفا آنيا، ومرتبط بضغوط وتهديدات أكثر منه قناعة داخلية وخيار. وهنا قد تبرز إشكالات عدة كغياب التنسيق، وتنازع المواقف، وضبابية الرؤية، واختلاط الخطاب، وحدوث التنافس، والانشقاقات الداخلية.

الفصل الحقيقي هو فك للارتباط بين أمرين، ما يعطي لكل طرف منهما استقلاله في النظر والحركة والقرار. فالحزب السياسي لا مصلحة له في أن يفرض وصايته على المجال الديني، والمجال الديني لا مصلحة له في أن يظل مرتبطا بالسياسة وتقلباتها.

ويقوم الفصل الحقيقي على التمييز وإعطاء الأمور خصائصها التي توضح مدى اختلافها فيما بينها، بحيث تتوجه التخصصات للعمل في ميدانها دون اعتداء على الآخر، وإنما بالتكامل. وهذا بدوره قد يجنب الحركات الإسلامية الاستئصال لغرض سياسي، ويسحب أي ذريعة بيد القوى السلطوية المستبدة لمواجهة الدعوة.

ومن شأن هذا الفصل تحييد الدين عن التوظيف سياسيا، في معترك يشهد فجورا في الخصومة، وسقوطا في الأخلاق، واستهدافا للدين بحساب الأخطاء الحزبية عليه. وكذلك تجنيب الدعوي الخضوع بشكل مباشر لتقلبات العمل السياسي أو إكراهاته أو حاجاته، وإبقاء المنابر الدعوية والمعاهد العلمية خادمة للأمة جميعا ومتحدة مع المجتمع؛ فعلى الحركات والجماعات الإسلامية ألا تطرح نفسها بديلا عن الآخرين لمجرد الاختلاف، وحملها رسالة الدعوة، خاصة في ضوء مجتمع مسلم تتعدد فيه التجمعات الإسلامية.

من ناحية أخرى يعطي الفصل للفريقين السياسي والدعوي إمكانية للتركيز والاحتراف والإتقان؛ ويجنب كل طرف السقوط فيما قد يقع فيه الآخر من اجتهادات وأخطاء أخذها من منطق اعتبارات مجاله.

مع ملاحظة أن عدم ارتباط الحركة (الدعوية) بالحزب (السياسي) في القرارات والمواقف والتوجيه لا يمنع من التقائهما أو تقاطعهما في قضايا مشتركة وأهداف متفقة، وإمكانية التعاون والتشاور والتنسيق بينهما.

ختاما..

لا يوجد حل مثالي، وقالب مثالي، لكن يوجد خيارات متفاضلة، وميدان يثبت صوابية الخيار أو خطأه. ويبقى أن الاجتهاد البشري مطالب بالتجديد والمراجعة كقيمتين تحافظان على التقدم بالاتجاه الصحيح.

[1]  وكالة الأناضول، في: 19/5/2016م.

*المصدر : مركز تأصيل

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى