كتاباتكتابات مختارة

التجديد الديني: بين الرئيس والإمام

التجديد الديني: بين الرئيس والإمام

بقلم يامن نوح

كان الاحتفال بذكرى المولد النبوي مناسبة مثالية لتحدث هذه المبارزة الكلامية بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، السيسي ليتحدث عن التطرف الديني – الذي هو الملف الأهم حاليًا على طاولة الحكومات العربية – وليلمح فقط إلى إمكانية قبول التجديد الديني ومراجعة بعض المسلمات، خاصة فيما يتعلق بمفهوم «السنة النبوية» وموقعها من المرجعية الدينية، وأحمد الطيب في المقابل ليزايد دينيًا ويتمادى في محاولته لشغل وظيفة «بابا» الإسلام السني، قاطرًا معه مؤسسة الأزهر لمزيد من الانغماس والتورط، كجزء من المشكلة، بدلًا من أن يكون أفقًا للحل راهن عليه الكثيرون – يبدو أن الرئيس كان من ضمنهم – وها هو يريد أن يثبت لهم أنهم كانوا مخطئين في رهانهم.

هذه المبارزة ليست الأولى من نوعها، ويتذكر المتابعون للشأن المصري عبارة «تعبتني يا فضيلة الإمام» التي وجهها السيسي لشيخ الأزهر العام الماضي أثناء حديثه عن فكرة تعديل قانوني لا يعترف بالطلاق الشفوي – المعترف به وفق المذاهب الفقهية – لتقليل نسبة الطلاق الفعلي، وهو ما كان واضحًا أن شيخ الأزهر يعارضه، وقد أصدرت هيئة كبار العلماء في الأزهر بعدها بعدة أيام بيانًا يؤكد هذا الموقف، ويقر الطلاق الشفوي، ويحيل مسألة ارتفاع نسبة الطلاق إلى مشكلات اجتماعية أخرى لا علاقة لها بما تحدث عنه السيسي.

قطعًا هناك عدة أسئلة من حقنا أن نسألها للطرفين:

أولًا: من حقنا أن نسأل الرئيس السيسي: هل يمكن أن تتم عملية التجديد الديني – التي لا يمكن الخلاف حول ضرورتها في هذه المرحلة – بهذا الشكل الاختزالي؟ أي باقتراح من فوق منصة الرئاسة يعكس حدود فهم الرئيس وأفكاره الدينية، ويتحدد بحدودها؟

هل الموضوع بهذه البساطة التي يتصورها الرئيس أو يتعامل بها مع المسألة؟ والسؤال الأهم: هل كان يتوقع سيادته من الأزهر أن يكون عونًا له على قضية التجديد الديني بهكذا بساطة، بحيث يطلب من مؤسسة لها هذا التقليد الديني الراسخ أن تترجم «خواطره» حول التجديد فتتجدد؟ هكذا؟

هل يتصور الرئيس ذو الخلفية العسكرية أن مسألة بهذا التعقيد الاجتماعي، يمكن إدارتها بنفس الطريقة التي يدير بها ملف الطرق، عندما يكلف الهيئة الهندسية بأن تنجز جسرًا أو بناية تحتاج إلى أربعة أعوام في عام واحد (وهو مشهد تكرر كثيرًا)؟ هل يحق لنا بناءً على هذا التصرف من جانب الرئيس أن نتساءل: هل يضع الرئيس للمجتمع وزنًا بالفعل؟ هل يدرك حقًا التعقيد الاجتماعي ويفهم آليات إدارة عملية تغيير اجتماعي حقيقي؟ أم لعله يعرف كل ذلك، لكنه يؤجل هذه المواجهة لوقت لاحق؟

ثانيًا: من حقنا على الجانب الآخر أن نسأل شيخ الأزهر الكريم، باسم من يتخذ هذا الموقف الذي يحاول فيه أن يثير حسًّا مذهبيًا لا يمكن الخلاف حول خطورة إثارته؟ والسؤال الأهم: ضد من يثير هذا الحس؟ هل يمكن اعتبار هذا الموقف جزءًا من لعبة سياسية يحاول بها شيخ الأزهر تحصين ذاته وتكريس صورته الذهنية أمام العالم الإسلامي كـ«مرجع أعلى» للمسلمين السنة؟ أم يتحرك باسم مؤسسة الأزهر في محاولة لأن يمدد وضعيتها وحضورها إلى خارج إطار الدولة المصرية، ليتمرد بذلك على «وضعية التأميم» التي تحكم الأزهر تقريبًا منذ الفترة الناصرية، وربما منذ محمد علي بشكل ما؟

أم لعله يتحدث هنا باسم الإسلام السني ذاته، لينضم بذلك إلى خندق الاستقطاب المذهبي السني – الشيعي الذي يرفع درجة حرارة المنطقة منذ سنوات؟ أم تراه يتحدث باسم الإسلام بالجملة، بحيث يمكننا أن نتحدث عن صدام لا مناص منه بين «الدين» و«الدولة»؟

تبدو الأسئلة الأخيرة وكأنها تشرد بعيدًا عن حجم المسألة المطروحة أمامنا وحدودها، فوجود السيسي كطرف ثانٍ في المبارزة يستبعد الاحتمالات الإقليمية والدولية، ويبقي المسألة داخل إطار النزاع على النفوذ بين الرئيس الذي تسيطر عليه هواجس «الزعيم المجدد» وبين شيخ الأزهر الذي تسيطر عليه هواجس «الإمام الأكبر»!

وهذا النزاع أضيق بكثير من أن نتوقع منه تجديدًا حقيقيًا، فقد أتعبَنا فضيلة الإمام بالفعل، كونه يخندق نفسه والأزهر في صف الممانعة لأي مناقشة جادة لمسألة التجديد الديني – وهي مسألة أكبر بكثير من تجديد الخطاب الديني – ويصر على التأكيد أن يمر النقاش دائمًا عبر الأنبوب الضيق للعقلية التراثية التي يتصور الأزهر نفسه حارسًا مقدسًا لها!

وقد أتعبَنا سيادة الرئيس كذلك، كونه يقصي من المسألة حوارًا مجتمعيًا ضروريًا لمعالجة مثل هذه القضايا، ربما يشارك فيه الأزهر بالتأكيد، لكنه يتطلب كذلك مجهود كثير من المفكرين والباحثين في مجال العلوم الإنسانية كالتاريخ والاجتماع واللغة وغيرها، وكذلك كثير من المؤسسات الفاعلة في مجال المجتمع المدني، والتي تمثل مصالح الفئات المعنية بقضايا التشريع، وكل هؤلاء يحتاج الرئيس إلى مشورتهم والاستفادة من خبراتهم قبل أن يقفز سريعًا إلى مبادرات شخصية اختزالية.

فما يجب أن ينكسر في الحقيقة هو احتكار «العقل الفقهي» – الذي هو عقل سياسي بمعنى ما – لإدارة التفكير في التاريخ الديني والنص الديني، وهذا هو ما يمكن أن يعده المثقفون المهتمون بمسألة التجديد الديني انتصارًا حقيقيًا، وليس انتقال السلطة والنفوذ من مؤسسة كالأزهر ترعى الجمود وتستثمر فيه، إلى الدولة، التي تحتاج هي الأخرى إلى تحديث لا يقل عمقًا وجذرية عن التجديد المطلوب للفكر الديني.

(المصدر: موقع “إضاءات”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى