كتاباتكتابات مختارة

إشكالية هُويّة المؤّلف والمخطوطات المنحولة في التاريخ الإسلامي

إشكالية هُويّة المؤّلف والمخطوطات المنحولة في التاريخ الإسلامي

  • بقلم: ويليام ساسون شاهانوفيتش
  • ترجمة: أحمد طاهر
  • تحرير: محمد قناوي

لماذا يجب علينا أن نعبأ بقضية تحديد هوية المؤلف؟ الجواب على هذا السؤال ليس بديهيًّا، وربما قد صرح رولاند بارت “بموت المؤلف” منذ أكثر من نصف قرن، لكنه -أيّ المؤلف- ما زال حيًا في كلٍ من النظريات النقدية، والأبحاث التاريخية على أنه شخصية لها وجود واقعي، وعلامة ثقافية بارزة. وهذا ما عرّفه ميشيل فوكو بـ “وظيفة المؤلف” والذي يعني من خلاله أن المؤلف “المرتبط اسمه بالوظيفة” يمكن أن يكون لديه أهمية أكبر تتجاوز كونه شخصية تاريخية أو الحد من تأثيره بما نسميه اليوم بالملكية الفكرية (Foucault, Aesthetics, Method, and Epistemology, 205–222)

 في الوقت الذي قطعت  فيه إشكالية المؤلف شوطًا منهجيًا كبيرًا في مجالاتٍ مثل: الدراسات الكلاسيكية، واليهودية، والمسيحية المبكرة، والدراسات النظرية الأدبية= كان لايزال التاريخ الفكري الإسلامي يفتقر إلى تقييم منهجي لمصطلح المؤلف (مثل كاتب أو مؤلف)، وعلاوة على ذلك، لا يوجد أيّ بحث حول موضوع “التزوير”، أو بمعنى آخر المخطوطات المنحولة، وهي وصمة العار التي تقابل التصور القويم للمؤلف الأمين.

وعلى وجه التحديد، ما زال الكلاسيكيون يذكروننا بأن هوميروس- بوصفه “كاتبًا” تاريخيًا- قد يكون محض خيال، إلا أنهم في الوقت ذاته أشاروا إلى إشكالية التأليف، وذلك بأن قالوا: أنّ مؤلفًا مغمورًا قد صاغ التحفة الأدبية المسماة بالإلياذة والأوديسة، ومع ذلك نجد اسم هوميروس لا يزال له وزن يحدُّ من دلالة النص!

وبالمثل يشير مؤرخو المسيحية مرارًا وتكرارًا إلى العديد من عمليات التزوير (الأسفار من 10 إلى 13) الموجودة في العهد الجديد، كما يشيرون إلى أن تأثير ذلك كان ضئيلا على المجتمعات الدينية التي تتلقاها بوصفها أعمالًا ملهمة. وتعلق كارين كينج قائلة: “على الرغم من أنهم أيضًا لم يكونوا عابئين بقضية التزوير والإسناد الكاذب، إلا أن مخاوفهم كانت تتعلق بالسيطرة والهيبة والشخصية بدلًا من الاعتبارات الاقتصادية والقانونية الحديثة…” ( من هو المؤلف؟ ، كينج ،17)

وعلى النقيض من ذلك، لم يتطرق سوى عدد قليل من المؤرخين الإسلاميين إلى المخطوطات المكذوبة أو “المنحولة” وهو وصف معياري يجب أن يُستَعملَ بحذر؛ وهذا أمر غريب إذا نظرنا  إلى امتدادات الأرشيف النصي للتاريخ الفكري الإسلامي، ومع ذلك أصبحت ثلاث من لغاته الرئيسة المكتوبة -العربية والفارسية والتركية العثمانية- بمثابة اللغة التأليفية والكتابية امتدادًا من المحيط الأطلسي إلى آسيا الوسطى.

 حتى في أيام الاستشراق الأولى تجاهل الباحثون الألمان المتخصصون في دراسة اللغة السؤال عن المؤلف بالكلية، ولم يناقش حتى إجناس جولدتسهير أو ثيودور نولدكه- وهما من الأسماء الرائدة في الفترات الأولى للدراسات الإسلامية- مدى أصالة وموثوقية النصوص المزورة؛ فالأدب الكنسي وحده هو ما كان يوضع في الاعتبار.

في الآونة الأخيرة فقط اهتم بعض الباحثين بذلك الحقل المُهمَل، خاصة فيما يتعلق بالمخطوطات المنحولة، على سبيل المثال، ناقش روبرت توتولي المراجع التي تناقش الحياة الآخرة التي عادةً ما توصف بالخطأ على أنها “أهوال القيامة (Tottoli, “Muslim Eschatological Literature,” 452-477). كما قام مايكل بريجيل بتحليل المواد المنقولة عن أهل الكتاب، والمعروفة باسم “الإسرائيليات”.

و يعيد بريجيل النظر على وجه الخصوص في “وظيفة” أسماء العديد من الناقلين الأوائل المشهود لهم ولسيرهم الذاتية على أنهم يهود اعتنقوا الإسلام (Pregill, “Isrā’īlliyāt, Myth, and Pseudepigraphy,” 220).

وفي سياق ديني، فإن الهوية التأليفية لهذه الأسماء لها وزن ثقيل يتجاوز مفهوم الحقيقة الدينية. وقد سمّى جبريل سعيد رينولدز الاتهامات الإسلامية لليهود والنصارى بأنهم قاموا “بتحريف” كتبهم المقدسة؛ لذا فإن النبي محمد وكتبة القرآن يظهرون ضمنيًا في هذه الحقبة التاريخية باعتبارهم أكثر المؤلفين والمحررين ثقةً.

ومن شأن مؤرخي الإسلام أن يثروا فهمنا حول الإنتاج العلمي والثقافي إذا ما أرادوا التحقيق في أنماط التأليف وتحولاته عبر النوع والتعبير اللغوي والسياق الثقافي.

إن أرشيف التاريخ الفكري الإسلامي لديه الكثير ليقدمه لنا والذي لم يمسسه أحد تمامًا. فالمواد المشكوك في نسبتها، وحتى المزورة بالكامل= وفيرة، خاصةً في أوائل الفترة الحديثة، وعلى سبيل المثال توجد في مكتبة السليمانية للمخطوطات بإسطنبول نسختان (Mss. Ayasofya 2246 and 2247) من “المناظرات” ضد الفرقة الثالوثية معنونين بـ “الرد الجميل”، واللذان ينسبان إلى أبي حامد الغزالي (توفي 1111 ميلاديًا) المتكلم المشهور، ومؤلف كتاب “تهافت الفلاسفة” والذي يُعتقد أنه قضى على الفلسفة الإسلامية.

حتى فطاحل مستشرقي الإسلام مثل لويس ماسينيون، وآرثر أربري أخذوا بنسبة هذه المؤلفات في ظاهرها [دون تمحيص] وروّجوا للنص باعتباره جزءًا من حسن نية الغزالي تجاه المسيحية، وإحدى روائعه الأدبية.

(Massignon, “Le Christ dans les evangiles selon al-Ghazālı̄,” 523-536; Arberry, Aspects of Islamic Civilization, 300-307)

لكن فحص المخطوطة سرعان ما يلقي بظلال الشك على موثوقية نسبتها إلى الغزالي، وإذا لم نتمكن من التأكد بشكل قاطع من هوية المؤلف، فما هو الصدى الذي أحدثه اسم الغزالي لقراء هذا النص؟ فمن الأسلم لنا إلى الآن التسليم بأن وقع اسمه كعالم دين له جاذبية تشبه إلى حد كبير جاذبية بول طرسوس، والتي تعزز الأهمية الدينية والوزن التاريخي للنص.

وعلى نفس المنوال، كان هناك نشاط تزويري هائل يضم المؤلفين الذين نُحِلت عليهم أعمال ليست لهم، ومن ذلك الإسنادات المنحولة لأشهر الأئمة الصوفيين في الإسلام: ابن العربي (توفي 1240 ميلاديًا).[1] وكان من أكثر الأعمال التي تم تداولها على نطاق واسع والتعليق عليها من قبل أولئك المؤلفين المجهولين هو الشجرة النعمانية، (انظر شكل1).

شكل (1)

لا يتنبأ هذا العمل الماورائي والمتعلق بالآخرة بنهاية العالم فحسب، بل يقدم السلاطين العثمانيين على أنهم حراس [خَزَنة] القيامة. وبغض النظر عن هوية المؤلف الحقيقي، فإن دافع التأليف كان نوعًا ما واقعيًا، فقد حازت النبوءة على انتباه قطاع واسع من القراء، ومصداقية أكبر بدعم اسم ابن العربي لها. وهكذا يمكن للمرء أن يتحدث- كما فعلت لورا نصرالله – عن الغزالي وابن العربي بأنهما قد عاشا حياة “تأليفية بعدية”[أي بعد موتهما]. وأن شبح اسميهما ما زال يخيم على قاعات استقبال القراء (نصرالله، حبا لبولس، 93)

مثال آخر على حياة التأليف البعدية والإسناد الخاطئ يتمثل في ذلك العمل التنبوئي الذي يحمل عناوين مغايرة وهو “الجفر الجامع” أو “مفتاح الجفر الجامع” أو الدرُّ المنظم” ( مثالًا على ذلك، انظر كشف الظنون، كاتب جلبي، 605)، وبقدر ما يبدو عنوان الكتاب مشتَتًا فإن تأليفه أيضًا لا يثبت على شيء، وحاول توفيق فهد أن يجعل الوضع مستقرًا من خلال إسناد الجفر الجامع إلى ابن طلحة (توفي 1254 ميلاديًا) وهو ممارس صوفي مغمور، واقترح “المفتاح” أو “الدر المنظم” كعناوين تتشابه مع كتابات الصوفي الكبير عبدالرحمن البسطامي ( توفي 1454 ميلاديًا) (Fahd, La divination arabe, 228-229).

ومع ذلك، فإن هذا الاختلاف البسيط لا يظهر في المخطوطات؛ فالعناوين هي من صنع الناسخين اللاحقين، وبالتالي فهي عُرضة للتغيير، فأحد نسخ الجفر الجامع (Süleymaniye Ms. Bağdatlı Vehbi 915) يُنسَب إلى علي بن أبي طالب ابن عم النبي محمد، وصهره ورابع الخلفاء الراشدين (انظر شكل2).

شكل (2)

إن أقدم نسخة لكتاب مفتاح الجفر الجامع لا تحمل أي دليل على وجود البسطامي كناسخ أو معلق عليها، وربما بسبب شهرة البسطامي في الآونة الأخيرة حُذف اسم ابن طلحة من أصول هذه الأعمال التي تشي بنسبتها إلى التصوف الباطني؛ فكيف في هذه الحالة يُفضّلُ مؤلف أو معلق ما على مؤلف المصدر الأساسي؟

مثالٌ أخير على أهمية تحديد هوية التأليف، وهو مثال الأعمال التي لم تُوجَد في الأساس، كما يجري الحال في اليهودية أو المسيحية، حيث اكتسبت النصوص الملفقة – سواء كانت حقيقية أو مُتخيّلة، مُعترف بها أم لا- هالةً من الشرعية الكبيرة عندما تُنسَب إلى شخصية قديمة و موقرة. فمثلًا يٌنسَب سفر دانيال إلى البطل الأسطوري دانيال، و سفر أخنوخ إلى البطريرك القديم اخنوخ (إدريس في الإسلام)، كما يوجد هناك الكثير من الأدب الباطني يدور حول علي بن أبي طالب، ومع تطورها، اخترع السنة والشيعة مجموعة من الكتب غير الموجودة مثل: كتاب الجفر الصغير،  وكتاب علي، ونحلوها إلى علي آخر الخلفاء الراشدين وهكذا أضاف اسم المؤلف معنًى إلى النصوص، وحوّلَ الأفكار نفسها على الرغم من أنها قد تكون مبهمة أو مُتخيّلَة.

وبالتالي تُعد إشكالية التأليف مجال بحث واعد لعلماء التاريخ الفكري الإسلامي، وربما يكون أمرًا أكثر إثارة للاهتمام من التقليد النصّي الراسخ؛ فإن المؤلفين المجهولين، والكُتَّاب المبدعين في الأرشيف يَهَبُوْنَنَا الفرصة لإعادة التفكير في نهجنا تجاه صفحات العنوان، ويقيننا الطائش بشأن حياة الكُتاب ونصوصهم وتداولها يعمينا عن الصورة الكبيرة، فلا يجب أن نترك التزوير يحمل لنا أخبارًا سيئة دائمًا.


الأشكال:
شكل 1: Süleymaniye Ms. Beyazıd 4609, fol. 4a يشير ابن العربي في الحاشية هنا إلى ضريحه بضمير الغائب، كما انه يستخدم لقب “محيي الدين” المبيّن هنا باللون الأحمر تُستخدم هذه الصيغة بشكل أكثر شيوعًا في الإمبراطورية العثمانية للإشارة إلى شفيعه (وليه) وخلافًا لذلك أشار الصوفي الكبير في مخطوطاته الأصلية إلى نفسه فقط باسم أبو عبدالله.

شكل 2: Süleymaniye Ms. Hafid Efendi 204, fol. 5a يُعرف العنوان الوارد باللون الأحمر العمل على أنه الجفر الكبير وينسب النص إلى علي بن أبي طالب، ولكن في السطر الأول -المظلل هنا باللون الأحمر- يتم تقديم عنوان الجفر الجامع الشائع إسناده إلى ابن طلحة. لا تتفق هذه المخطوطة مع الافتتاحية الطبيعية لعمل ابن طلحة ولكنها تحتوي بالفعل على أقسام ورسوم متشابهة.


  • ساسون شاهانوفيتش حاصل على درجة الدكتوراه، ومرشح لمنصب في قسم تاريخ الفكر الإسلامي في قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى بجامعة هارفارد، حيث يكتب أطروحته، كما يعمل ساسون حاليًا على تطوير مشروع يعيد النظر في الروابط بين الرؤيا الإسلامية واليهودية والمسيحية لنهاية العالم في أوائل العصر الحديث.

[1] المقصود هو أبو بكر بن عربي الطائي (ت638هـ) صاحب الفصوص والملقب بـ “الشيخ الأكبر”، وقد جرت العادة على التمييز بينه وبين القاضي أبو بكر بن العربي المالكي (ت 543هـ) بالتنكير والتعريف، ولكن عددا ممن ترجموا له -الشيخ الأكبر- ذكروه بالتعريف منهم الشعراني في الطبقات الكبرى(1 / 329) حيث قال “سيدي محي الدين ابن العربي -رضي الله عنه- بالتعريف كما رأيته بخطه…” وأيضا في “الذيل على الروضتين” ( 170 )، وفي “تاج العروس” (3/355)، والتفريق بينهما بالتعريف والتنكير عمل به كثيرون. -الإشراف.

(المصدر: موقع “أثارة”)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى