تقارير وإضاءات

إبراهيم السكران.. وإعادة ضبط البوصلة

إعداد عبد الصمد الإشبيلي

أنا لا ألوم الغربي أن يقيّم المسائل طبقًا لما تقرأه عينه الزرقاء؛ لكني ألوم العربي أن يقيم المسائل بعين مزرقة! [1]

للوهلة الأولى يصعبُ تصديقُ أنَّ صاحب هذه العبارة، التي تتضمن كمًّا كبيرًا من الاعتزازِ بالهويَّةِ ونبذ التّبعية، شخصٌ كان قُبيل سنواتٍ مناوئًا للخطاب الشرعي ومُتبنّيا لأطروحات ليبرالية داعيةٍ لتقليدِ الغربِ! إنّها عبارة للباحث إبراهيم عمر السكران، الذي عُرِف مؤخرا بكتاباته التي تصبّ في منحى نقد التغريب، التي اشتهر من بينها كتاب مآلات الخطاب المدني، الذي مثّل نقطةَ التحول في المسيرة الفكرية للسكران، وكذلك كتاب سلطة الثقافة الغالبة.

تضمّنتْ هذه الكتبُ وغيرُها انتقاداته اللّاذعة لأصحاب القراءات المعاصرة والتأويلات الحديثة لنصوص الوحي في ضوءِ مُقرَّراتِ الحداثةِ الغربيّة، ومعالجات يمكن الاعتماد عليها لحل مشاكل التأثر بالثقافة الوافدة. فمن هو إبراهيم السكران؟ وما هي إضافاته للمكتبة الإسلامية؟ وما الذي ميَّزَ كُتبهُ عن كُتُب غيرِه؟

بداية الحكاية

إبراهيم السكران من مواليد سنة 1976م، حصل على درجة الماجستير في السياسة الشّرعيّة من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود، ثمّ حصل درجة الماجستير في القانون التجاري الدّوليّ من جامعة إسكس بمدينة كولشيستر بإنجلترا.

هذا ما في يخصّ رحلته الأكاديمية؛ أما بخصوص رحلته الفكرية فقد بدأ التحول في أفكاره من عام 2007، وتحديدًا مع ورقة “مآلات الخطاب المدني”؛ التي أعلن فيها التبرّؤ من كل أطروحاته الليبرالية، وتبني المنهج السنيّ السلفيّ ذي المرجعية الأصولية؛ وهو ما أثار عليه بعض “رفاق الدرب” السابقين.

وهو ما أعلنهُ السكران لاحقًا بوضوح إذ يقول: “وأنا أبرأ إلى الله من كل حرف خططته قبل ورقة مآلات الخطاب المدني، وأحذّر كل شاب مسلم أن يغتر بمثل هذه المقالات التي كنت فيها ضحية الخطاب المدني المعاصر الذي يغالي في الحضارة والتسامح مع المخالف، وأنصح إخواني الذين لا زالوا مخدوعين بمثل هذه المفاهيم أن يعودوا للقرآن ويسبروا الطريق واضحًا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57-58[“. [2]

من هُنا بدأتْ مسيرةُ واحدٍ من أبرزِ الباحثين الشرعيين اهتمامًا بظاهرةِ التغريبِ وما تمخّض عنها من توجهاتٍ سعتْ إلى تحريف القرآن ونبذ التراث ومهاجمة الهوية الإسلامية تحت سِتار التجديد؛ وقد آن أوانُ استعراضِ أبرزِ أُطروحاتهِ وأهمّ السّماتِ التي ميّزت خطابهُ.

إطلالةٌ على النِّتاجِ السّكرانيّ

إبراهيم السكران.. وإعادة ضبط البوصلة 1

لإبراهيم السكران مجموعة من الكتب وعدد كبير من المقالات وشيء يسير من المرئيات المتفرقة على اليوتيوب، وقد اشتهر من كتبه: مآلاتُ الخطاب المدني وسلطة الثقافة الغالبةِ، فيما يخص انتقاد الخضوع للمزاج المعاصر والمُقرّراتِ الثّقافيّةِ الغربيّة، وكذلك كتاب التأويل الحداثي للتراث والذي أبان فيه السكران عن علوّ كعبه في العلوم الإنسانية وسِعة اطّلاعهِ على تراث المستشرقين والحداثيين العرب، وكذا عن قدرته المُلفتةِ للنّظرِ على التحليل والمناقشة.

وله كذلك كتابانِ في تدبّر القرآن: رقائقُ القرآن، والطريق إلى القرآن، يضمّان بين دفّتيهِما مادةً وعظيّة إيمانية مهمّة، صِيغتْ بأسلوب قويّ ولغةٍ سلسلةٍ جمعت بين السّهولة والقدرة على تحريك القلوب. ثم أخيرًا كتابان موجّهانِ لطلبة العلم، ألا وهما: مسلكيات والماجريات، أعطى فيهما السكرانُ للقرّاء -ولطلبة العلم خصوصًا- مجموعةً من التوجيهات والنصائح المُتعلّقةِ بالتّزكيةِ ومناهج الطّلبِ وكيفيّة التّعامل مع المؤثّرات الخارجيّةِ التي أحدثتْها الطّفرةِ المعلوماتيّة؛ كزخمِ الوقائع السياسيّةِ المتلاحقةِ ومواقع التّواصلِ الاجتماعيّ.

أبرزُ السّمات والمعالمِ في كتاباتهِ

فيما يلِي بعضُ أهمّ مميّزات كُتبِ إبراهيم السّكران وسماتها؛ وأودّ التّنبيه على أن ما سيُذكر لاحقًا مبنيٌّ على استقراءٍ شخصيٍّ محضٍ، وبالتالي لا أزعم استيفاءَ كل السمات والمعالم، ولا أدّعي امتناعِ حصول شيءٍ من الخطأ، لكن هي محاولة اجتهاديّةٌ فحسبُ.

أولًا: أخطاء شائعةٌ صحّحها السكران

إبراهيم السكران.. وإعادة ضبط البوصلة 3

تناول إبراهيم السكران، في معرض سرده للنماذج التفسيرية لظاهرة الغلو في المدنية، بعض هذه النماذج بالنّقد والتصويب، ومن بين أبرز هذه النماذج:

وصف ظاهرة الغلو المدني بالعقلانية

خطّأ السكران هذا النموذج التفسيري بأن وضّح التخبط المعرفيّ الذي تعاني منه النخبة الثقافية لظاهرة الغلو المدني؛ حيث يقول: “هذه الظاهرة ليس لديها نظريةٌ فعليّةٌ في مصادرِ المعرفة بحيثُ تقدّم ما دل عليهِ العقل وتردّ ما عارضهُ، بل هي تارة مع العقل، وتارة مع النّص، وتارة مع الذوق الشخصي، وتارة مع المألوف، وتارة ضدّ هذه كلّها.” [3]؛ ثُم يضيفُ في لهجة لاذعةٍ أشدّ وضوحًا: “وأعتقد أن تكوين منظومة عقلانية متماسكة أكبرُ بكثيرٍ من قدرات هذه الظاهرة وكتّابها أساسًا.” [4]

التنوير امتدادٌ لِفرقة المعتزلة

مجددًا ينتقد السكرانُ فكرةً شائعة عند كثير من المعالجين للخطاب التّنويريّ؛ وهي القول بأن هذا الخطاب عبارة عن امتداد تاريخيّ وفكريّ لفرقة المعتزلة، حيث يقول بعد أن استعرض هذا التفسير: “والواقع أن هذا التفسير قد أبعد النجعة كثيرًا، فمدرسة المعتزلة هي مدرسةٌ دينيةٌ متزمّتةٌ أخرجت الفسّاق من الإسلام، وشرعت المنابذة المسلّحة لأئمة الجور، وناضلت الفلسفة الإغريقيّة بِنفسِ أدواتها، ووصفهم كثيرٌ من المحقّقينَ في علم الفرق بأنهم أصحاب إراداتٍ، أي: أصحاب نُسكٍ وعبادةٍ، وكان لديهم نِتاجٌ عقلانيّ مُنظّمٌ (…) فالمعتزلةُ مدرسةُ غُلوٍّ لا مدرسةُ تساهلٍ.” [5]

حركة التّنوير ناتجة عن الانبهار بالغرب

هذهِ في رأيِي واحدةٌ من أهم الاستدراكات السّكرانية على الخطابِ الدعويّ، إن لم تكن أهمّها، لأنها تبيّن قدرتهُ التحليليّة الفذّة، فهو يرى أن الانبهار بالحضارة الغربيّة والنزوع نحو تقليدِها ليسَ إِلّا نتيجَة لأساسٍ أكثر عُمقًا، ولندع لهُ الكلمة حتى يوضِّح هذا الأساس: “النواة الخفيّة التي انطلقت منها كلّ هذه التحوّلات الجذريّة والحادّة في المواقفِ والرُّؤى هي المغالاةُ في قيمة المدنية والحضارة، بتعريفها الماديّ.” [6]؛ وينطلق من هذه الفكرةِ ليصوغ لنا قاعدة عامّةً:[7]

أخبرني ما هي الدّرجة التي تحتلّها قيمةُ الحضارةِ والمدنيّة في سلّم القيم عندك؛ أُخبرْك أين تقعُ على خريطة الجبهات الفكريّة المعاصرة.

ثانيًا: حضورُ المسلك الوعظيّ

إبراهيم السكران.. وإعادة ضبط البوصلة 5

المُتابعُ لموادّ السكران يرى أن خطابه عبارة عن قطار يسير على سِكّة ذات خطين متوازيين: المسلكُ الفكريّ العلميّ، والمسلكُ الوعظيُّ الإيمانيّ، وفيما يلي بيانٌ لبعضِ تجليّاتِ حضور المسلك الثّاني:

مركزية القرآن في السّجال الفكريّ المعاصر [8]

يحتلّ القرآن مكانة مركزية عند إبراهيم السكران، وذلك واضحٌ في كتاباته سواءٌ بشكل ضمنيّ أو مُعلن، فيقول مثلًا: “لو نجحنا في تعبئة الشّباب المسلم للإقبال على القرآن، وتدبّر القرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوتْ أمام الشابّ المسلم -الباحث عن الحقّ- كل التحريفات الفكريّة المعاصرة ريثما يختم أول ختمة تدبّر.” [9]

ويقول أيضا: “قراءةٌ واحدةٌ صادقةٌ لكتابِ الله، تصنع في العقل المسلم ما لا تصنعه المطوّلات الفكريّة بلُغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي، قراءة واحدةٌ صادقةٌ لكتابِ الله، كفيلةٌ بقلبِ كل حيل الخطاب الفكريّ المعاصر رأسًا على عقبٍ.” [10]

ويقول في عبارة أكثر قُوةً من كل سابقاتها:[11]

أعطوني ختمةً واحدة بتجرّد، أعطيكم مُسلمًا حنيفًا سُنّيّا سلفيّا، ودعوا عنكم خُرافة الكُتب الفكريّة الموسّعة!

والحقيقةُ أن مثيلات هذه الاقتباسات كثيرةٌ جدًّا، ويكفي الاطلاع على فصل (تطويل الطّريق) في رسالتهِ الطريق إلى القرآن لمعرفة مكانة القرآن في الخطاب الفكريّ بالنّسبة لهُ.

أغلب الانحرافات الفكرية ناتجة عن خبوّ الإيمان

حسبَ إبراهيم السكران؛ فإن تحريف الشّريعة لا يُمكن بحال أن يقوم بهِ مسلمٌ ما زالت جذوة الإيمان مُشتعلة في قلبه، بل المنبع الرّئيسيّ لكل الانحرافات الفكريّة المعاصرةِ هو ضُعف الإيمان، وعدم استحضار لقاء الله، فيقول موضّحًا ذلك: “من أعظم أسباب تحريفِ الشّريعةِ، خُبوّ الإيمان بلقاءِ الله جلَّ وعلَا.” [12]

وقد تكرّر تأكيدهُ على هذه الفكرة في مواضع متفرّقةٍ من كتُبه، وفي محاضرة لهُ على اليوتيوب بعنوان: سلطة طرح الأسئلة.

ثالثًا: الاعتزاز الشديد بالهوية

إبراهيم السكران.. وإعادة ضبط البوصلة 7

للسكران فيما يخصُّ اعتزاز المسلم بهويّتهِ؛ عباراتٌ تقطرُ منها معانِي الاستعلاء الإيماني، نذكرُ منها على سبيل المثال قولهُ: “فإذا امتلأ قلب الشاب المسلم بمعاني “تعظيم الآخرة ووسيلية الدنيا” أصبحت القرون المفضلة في وعيه أرقى المجتمعات وأشرفها بما بلغته من تنوير العلوم الإلهية ومنازل العبودية ثم الاجتهاد في تحصيل وسائلها الدنيوية مع عدم الركون إليها، وأصبح المجتمع الغربي في نظره حالة من الانحطاط والظلامية بسبب ما سُلِبه من تنوير العلوم الإلهية والإعراض عن الله، والاستغراق في تدبير المعاش الحاضر وعلم ظاهر الحياة والدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون.” [13]

كما أنّ العديد من المواضع في كتاباته تبيّن ثباته على مبادئه أمام سطوةِ الثقافة الغالبة، خصوصًا ضد غطرسة المستشرقين الغربيين [14]، أو تنبيهه على اتجاه بعض الفلاسفة الغربيين للتقعّر وتعمّد الغموض، وتنبيه القارئ العربي على ضرورة ثقته بنفسه أمام “سلطة الغموض” هذه [15].

رابعًا: إعادةُ ترتيب الأولويات على أساسٍ قرآنيّ

كما سبقت الإشارة، فإن السكران يعتبر أن القرآن يجب أن يكون محورًا تدور في فلكهِ مناهجُ تحديد الأولويات والاستراتيجيّات النّهضوية، وتبعًا لهذا ينبّه على خطورةِ الحيادِ عن المنهج القرآنيّ والانسياقِ أمام المزاج المعاصر المعظِّم للمدنية، وبالتّالي إغفال معالجةِ القرآن لِثنائية “الدنيا والآخرة. ” [16]

خاتمة

كانتْ هذه قراءةً في نِتاج الباحث الأسير إبراهيم السكران -فرّج الله كربهُ- ومرورًا سريعًا على رحلته الفكريّة وإضافاته للمكتبة الإسلاميّة وأبرز مميزاتِ منهجه التّحليليّ، في محاولةٍ لتعريف المجتمع المسلمِ بهذه الشخصيّة التي دَفعتْ حرّيّتها ثمنًا للدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، والتي أعادت ضبط البوصلة الفكرية للخطاب الدّعويّ المعاصر.

(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى