تقارير وإضاءات

“أونغ سان سو تشي”.. مجرمة حرب في ثوب داعية سلام

“أونغ سان سو تشي”.. مجرمة حرب في ثوب داعية سلام

إعداد أحمد مصطفى الغر

“إننا لن تتسامح مع انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في ولاية راخين، إذا ما كانت هناك أساسًا جرائم حرب قد ارتُكِبَت، إذ لا يمكن في ظل هذه الظروف أن تكون نية الإبادة الجماعية هي الفرضية الوحيدة”، كان هذا جزءًا بسيطًا من دفاع السيدة “أونغ سان سو تشي”، الزعيمة الفعلية لميانمار، أمام محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة في ديسمبر 2019، كانت تدافع عن بلدها، أو بالأحرى عن جيش بلادها، الذي يواجه تهمًا بارتكاب إبادة جماعية بحق أقلية الروهينجا ذات الأغلبية المسلمة هناك، كانت السيدة “سو تشي” ـ التي وُضِعَت قيد الإقامة الجبرية عدة مرات على مدى أكثر من 20 عامًا من قبل جنرالات الجيش ـ هى نفسها التي تدافع عنهم آنذاك، والأكثر غرابة أن بعد أشهر قليلة من هذا الخطاب الدفاعي .. وجدت “سو تشي” نفسها مجددًا تحت إقامة جبرية، ومعزولة من منصبها، وتنتظر مستقبلًا قاتمًا، لا يقل قتامة عمّا تنتظره ميانمار بأكلمها بعد الإنقلاب العسكري الأخير، فمن هى أيقونة السلام الزائفة “أونغ سان سو تشي”؟

ولدت “سو تشي” في العاصمة رانغون عام 1945، كابنة لأحد زعماء الاستقلال الذي اغتيل بينما كانت لا تزال هى في الثانية من عمرها، وذلك قبيل حصول ميانمار على استقلالها من الاحتلال البريطاني عام 1948، درست “سو تشي” الفلسفة والسياسة في الهند وبريطانيا، حيث تزوجت هناك وأنشأت عائلة، كما عملت في الأمم المتحدة في نيويورك قبل أن تعود لبلادها عام 1988، لم تكن رحلة عودتها مفروشة بالورود، إذ كانت ميانمار واقعة في قبضة الجنرالات وتعيش حكمًا قاسيًا من الديكتاتورية العسكرية، فوُضِعَت “سو تشي” قيد الإقامة الجبرية بين عامي 1989 و2010، وهو ما جعلها رمزًا عالميًا للمقاومة السلمية، حينها رأى عديدون أن ما يُوصف بـ “نضالها السلمي على الصعيد الشخصي لجلب الديمقراطية” قد نجح في إيصال صوت بلادها للعالم، وفي ظل المعايير المختلطة لجائزة نوبل والزخم الذي كانت تحظى به قضية “سو تشي” في تلك الفترة، تمكنت من الحصول على جائزة نوبل للسلام عام 1991، وتوغلت رويدًا رويدًا في الحياة السياسية؛ فتولّت عددًا من الحقائب الوزارية قبل أن تقود حزب “الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية” إلى نصر ساحق في عام 2015، وذلك في أول انتخابات يتم التنافس فيها علنًا منذ 25 عامًا في ميانمار، ولأن الدستور يمنعها من أن تصبح رئيسة للبلاد، لكون ابنيها يحملان جنسية أجنبيّة، استطاعت أن تحكم البلاد بشكل فعلي من خلال منصب مستحدث هو “مستشارة الدولة”.

هناك مثل ألماني يقول “من يسند السلم للسارق ليس أقل منه شرًا”، وهذا بالضبط ما ينطبق على حال “سو تشي” التي ما أن أصبحت في منصب الحاكم الفعلي للدولة، تنصلت تماما من المبادئ التي كانت تنادي بها إبان فترات إقامتها الجبرية، كانت العيون تترقب طريقة تعاملها مع الروهينجا، كان العالم الحالم ينتظر من السيدة التي تُوّجَت يومًا بجائزة نوبل للسلام ووسام أوكسفورد للحرية وجائزة ساخاروف الحقوقية أن تخرج لتمد يدها بالسلام والحرية لأقلية الروهينغا المهمّشة والمظلومة، لكن على النقيض كانت “سو تشي” قابعة خلف جبل من الصمت، فيما تقوم قوات جيش ميانمار بشن حملة وحشية وهجمات فتاكة ضد الروهينغا، كان الجيش مسؤولًا عن عمليات قتل واسعة، والأبشع من ذلك كانت عملية الاختيار الممنهج للنساء والفتيات من أجل الاغتصاب والتشويه، بهدف إحداث هزيمة نفسية لمجتمع الروهينغا، هذا بخلاف حرق القرى والمنازل وتهجيرهم قسريًا من مناطقهم، وهو ما تسبب فعليًا في هجرة ونزوح أكثر من 700 ألف شخص إلى بنجلاديش المجاورة، ويمكن تلخيص كل ذلك في كلمتين فقط هما: “إبادة جماعية”؛ فهذه هي نفس العبارة المستخدمة في تقرير الأمم المتحدة لعام 2019 الذي وصف الظروف المؤدية إلى الهجرة الجماعية للروهينجا من إقليم راخين.

في مواجهة الانتقادات الدولية المتعاقبة لعدم إتخاذها موقف حيال ما يحدث؛ تخلّت “سو تشي” عن صمتها، لكن بدلًا من إدانة الانتهاكات التي تصل إلى حد التطهير العرقي، صدمت الجميع مجددًا بدفاعها الشخصي المستميت عن أفعال الجيش أمام المحكمة الجنائية الدولية، فانتقدت قضاة المحكمة لأنهم يقللون من نظام العدالة العسكرية في ميانمار، والتي زعمت أنه قادر على محاسبة أيّ تجاوزات إذا وُجِدَت، كما دعت القضاة لتقييم الوضع على أرض الواقع بدقة ودون عواطف. لكن السيدة التي كانت تدعو القضاة بكل جسارة لتقييم الأمور ميدانيًا، هى نفسها من كانت تمنع الصحافة ووسائل الإعلام من تغطية ما يحدث على أرض الواقع، وحدها فقط كانت قصص الناجيين تفضح ما يفعله الجنود والرهبان البوذيون من مجازر بحق الروهينغا، حيث يطلقون النار على الرجال والنساء والأطفال، ويطعنونهم ثم يحرقونهم، ثم يدفنونهم في مقابر جماعية، وبعضهم يرش الحمض على وجوه القتلى لتشويهها كي يصعب التعرف على هوياتهم، وبالتأكيد فإن ما يُروى هو أقل بكثير مما يحدث فعليًا.

المدافعون عن “سو تشي” قالوا إنها لا تملك أي سلطة على الجيش، لكنها في المقابل لم تعبّر يومًا عن اعتراضها أو انتقادها لما يحدث، بل على العكس كانت طوال الوقت في موقف التأييد الكامل للجنرالات، سواء بالصمت أو التبرير والدفاع، وبخلاف الجيش فإنها أيضا لم ترغب بأن تكون في مواجهة الرهبان البوذيين ذوي النفوذ، بالرغم من تحريضهم الدائم على العنف ضد المسلمين هناك، ومردود ذلك هى شعبيتها الكبيرة التي لا تزال تحظى بها بين الغالبية البوذية هناك وهو ما كان يضمن لها ولحزبها البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، لكن بعيدًا عن الحسابات السياسية فإن “سو تشي” لم تتردد يومًا في وصف مسلمي الروهينغا بالإرهابيين والمتمردين، بالرغم من كونهم يشكلون نحو 4.3 % من إجمالي عدد السكان البالغ تعدادهم نحو 51.5 مليونًا، وبالتبعية فإن “سو تشي” لم يتبادر إلى ذهنها مطلقًا تحسين أوضاع ولاية راخين التي يسكنها الروهينغا، والتي تعد أيضا أكثر أقاليم ميانمار فقرًا، كما أنها لم تفكر للحظة في منح الروهينغا جنسية الأرض التي وُلدوا وعاشوا عليها لعقود، إذ يحرمهم قانون ميانمار حول الجنسية الصادر في 1982 من الحصول على الجنسية، ولهذا الأمر أصل تاريخي يمكن إرجاعه إلى عام 1962، عندما استولى انقلاب عسكري على السلطة، ولم يجد من أجل تثبيت أركانه حلًا أفضل من أن يستخدم الدين كدليل على ما إذا كان الشخص مواطنًا صالحًا وأصيلًا بالدول أم لاة، فاستغل الجنرالات الديانة البوذية الوضعية لتبرير القومية وتصنيف المواطنين، وفي عام 1974 تم تجريد الروهينغا من جنسيتهم وصنفتهم الدولة كأجانب.

 من المفيد في قصة “سو تشي” أن قرابين الطاعة التي قدمتها طيلة الأعوام الماضية لم تمنع حدوث ما كانت تخشاه، ولم تشفع لها عند الجنرالات الذين قادوا إنقلابًا جديدًا خلال الأيام القليلة الماضية، بحجة حدوث تزوير للانتخابات التشريعيّة الأخيرة التي جرت في نوفمبر الماضي، ليعيدوا البلاد مجددًا إلى ظل الديكتاتورية العسكرية التي عاشت فيها نحو 50 عامًا منذ استقلالها في عام 1948، وتُوضَع “أونغ سان سو تشي” في الإقامة الجبرية من جديد، لكنها هذه المرة فاقدة للتعاطف والتأييد الدولي، لا سيّما وأنه تم تجريدها من معظم الأوسمة والجوائز والتكريمات الشرفية التي نالتها بسبب مواقفها المخزية من قضية الروهينغا خلال السنوات الماضية. يمكن لـ “سو تشي” الآن أن تتعلم درسًا مهمًا، وهو ألا تثق أبدًا في جنرالات حكومتها مهما كانوا “لطفاء”، وذلك على حد وصفها لهم في أغسطس 2018، وعلى العالم الحالم أيضا أن يتعلم درسًا أكثر أهمية، وهو ألا يجعل من الأشخاص أيقونات، فقط عليه أن يتريث قليلًا، فقد يكون الذئب متخفيًا في ثوب الحمل، وهذا ما كانت عليه “سو تشي” بالفعل، التي كانت حتى وقتٍ قريب داعية سلام، قبل أن تظهر حقيقتها كمجرمة حرب.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى