كتب وبحوث

أصول حُكم الشُّعوب المسلمة ومقاييس تطبيق العدالة 9 من 9

أصول حُكم الشُّعوب المسلمة ومقاييس تطبيق العدالة 9 من 9

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

تجربة السَّادات في رأي الحداثي فؤاد عجمي

دافع الرَّئيس الرَّاحل محمَّد أنور السَّادات في خطابه الأخير عن أعضاء مجلس قيادة الثَّورة، وعلى رأسهم جمال عبد النَّاصر، نافيًا عنهم تهمة التَّعاون مع أمريكا في تنفيذ انقلاب عسكري، جاء بعملاء للغرب لفرض الهيمنة على الشُّعوب المسلمة، برغم ما تعرَّض له السَّادات نفسه من اتِّهامات من أنصار جمال عبد النَّاصر، وصلت إلى حدِّ اتِّهام ابنة الأخير السَّادات بقتل أبيها بالسُّم، ما دفع ابنة السَّادات لمقاضاتها، وإثبات عجزها عن إدانة السَّادات. ومن بين أشهر ما كُتب في إدانة السَّادات وتشويه تاريخه والحطِّ من قدره، بل والإساءة إلى أصول أمِّه السُّودانيَّة وادَّعاء تدخُّل زوجته في شؤون الحُكم وطلبها من الأمريكان إعلان نفسها حاكمة للبلاد فور اغتياله، كتاب خريف الغضب (1983م)، للكاتب المصري محمَّد حسنين هيكل. انتقد هيكل انسلاخ السَّادات من نظام الحُكم الاشتراكي، الَّذي اتَّخذه عبد النَّاصر، واتِّباعه نظامًا رأسماليًّا استغلاليًّا، وتصالحه مع أعداء عبد النَّاصر، على رأسهم شاه إيران. ادَّعي مؤلِّف خريف الغضب كذلك حرص السَّادات وزوجته على البذخ والبهرجة، بطريقة تثير شبهة تبديدهما، وبخاصَّة زوجته، مقدَّرات الدَّولة على تجديد أثاث منزلهما، متَّهمًا زوجة الرَّئيس بجمع تحف وقطع أثاث نادرة من القصور الملكيَّة وإلحاقها بمنزلها، دون حقٍّ. لاقى خريف الغضب انتقادات واسعة من كافَّة الأطياف العربيَّة، ولعلَّ أبلغ انتقاد وُجِّه إلى هيكل ما ردَّ به عليه المفكِّر المصري الكبير، وتوفيق الحكيم، ونشرته جريدة المصري اليوم في 23 سبتمبر 2017م.

أرجع البعض تعمُّد هيكل تشويه صورة الرَّئيس السَّادات إلى الصدام الَّذي اشتعل بينهما عام 1972م، بسبب انتقادات هيكل لسياسة الحُكم في عهد السَّادات، وهو الَّذي عُرف بتمجيده الرَّئيس جمال عبد النَّاصر إلى درجة تصل إلى التقديس. أعفى السَّادات هيكل من منصبه، رئيسًا لمجلس إدارة صحيفة الأهرام ورئيسًا لتحريرها، عام 1974م، كما أمر باعتقاله ضمن اعتقالات سبتمبر من عام 1981م، ضمن شخصيَّات سياسيَّة وفكريَّة مصريَّة بارزة، وجميعهم أفرج عنهم مبارك عقب اغتيال السَّادات؛ وقبل أن يمضي على الاغتيال عامان، خرج هيكل بكتابه آنف الذِّكر، بكلِّ ما يحمله من إساءات للسَّادات وحُكمه وأفراد أسرته. إذا كان لهيكل مبرره في انتقاد السَّادات بطريقة تجاوزت حدود اللياقة، فما هو مبرر فؤاد عجمي في هجومه الشديد على السَّادات وإقلاله من شأنه، في كتاب المأزق العربي، الصَّادر عام 1981م، نفس عام وفاة الرَّئيس الأسبق؟ أعاد عجمي إصدار الكاتب عام 1982م، بعد حادث الاغتيال لإضافة تفاصيل جديدة تتعلَّق بالسياق ذاته.

من هو فؤاد عجمي؟

في مقدِّمة ترجمته لكتاب أزمة الإسلام: الحرب الأقدس والإرهاب المدنَّس (2003م) لأشهر مستشرقي القرن العشرين، الأمريكي بريطاني الأصل برنارد لويس، الصَّادرة عام 2013م، يشير حازم مالك مُحسن فؤاد عجمي بأنَّه أمريكي، لبناني المولد، وفارسي الأصل، نادى باحتلال العراق، متَّخذًا من نُصرة الشِّيعة ذريعةً له، ومساندًا بلاده-أمريكا-في انتهاكاتها ضدَّ المدنيين العراقيين، بما فيها ما حدث في سجن أبو غريب. درس عجمي العلوم السِّياسيَّة في أمريكا، وعمل مديرًا لبرنامج دراسات الشَّرق الأوسط في جامعة جونز هوبكنز، في ولاية ميريلاند، وتوفِّي عام 2014 بعد صراع مع سرطان البروستاتا. وقد نشر عنه موقع صحيفة هآرتس الإسرائيليَّة نعيًا بعنوان “فؤاد عجمي: أكاديمي شجاع أظهر الودَّ تجاه إسرائيل”. يمتدح المقال المنشور في 24 يونيو 2014م، موقف عجمي من مطالبة الفلسطينيين أحاديَّة الجانب في 2011م، الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، بالتصويت من أجل إقامة دولة، معتبرًا، ضمن آخرين، أنَّ عرب فلسطين أساؤوا فهْم التصويت المُجرى عام 1947م، بتقسيم فلسطين، وموضحًا أنَّ ذلك القرار سبقه بعقد كامل تنفيذ المشروع الصُّهيوني على الأرض. ويثني المقال على اعتراف عجمي بأنَّ كل عناصر تأسيس الدُّول كانت الصُّهيونية العمَّاليَّة، لتقل الصُّهيونية الاشتراكيَّة، وفَّرتها. والصُّهيونية العمَّاليَّة هي الجناح الأيسر للصهيونيَّة، الَّذي روَّج فكرة أنَّ تأسيس إسرائيل لن يتم إلَّا من خلال تكوين مجتمعات تعاونيَّة، تُعرف بـ ‘‘كيبوتس’’، والسَّيطرة على مؤسسات المجتمع المدني اليهودي، الـ ‘‘يشوب’’، ولعلَّ أشهر السِّياسيين من أبناء هذه الحركة ديفيد بن غوريون وجولدا مائير.

اعتقد عجمي، الَّذي يصفه مقال موقع صحيفة هآرتس بـ ‘‘الأكاديمي الأمريكي العربي’’، أنَّ القوَّة العسكريَّة الصُّهيونية المتوفِّرة حينها كانت كافيَّة لهزيمة العرب، علاوة على المؤسسات السِّياسيَّة القائمة والزُّعماء المحنَّكين. وقد كتب مارتن كريمر، أستاذ تاريخ الشَّرق الأوسط الحديث في شاليم الإسرائيليَّة في القدس، مقالًا في يناير 2015م، يستعرض فيه رأي فؤاد عجمي في دولة إسرائيل، الَّتي عبَّر عن إعجابه الشديد بها بعد اطِّلاعه على طبيعة الحياة فيها من خلال زيارات متكرِّرة، كان أوَّلها عام 1980م. بلغ إعجاب عجمي بإسرائيل حدَّ الاعتقاد بأنَّه صار ‘‘صهيونيًّا متحمِّسًا’’ اعتنق فِكر حزب الليكود، أي الصُّهيونية التصحيحيَّة، الَّتي دعت إلى استخدام العُنف ضدَّ العرب بشتَّى أشكاله، وتنفيذ مخططات إسرائيل بأيِّ ثمن.

أراد كريمر تصحيح ذلك المفهوم عن عجمي، نافيًا عنه اتِّباع الصُّهيونية التصحيحيَّة، وموضحًا أنَّه فقط اعترف بقدرة إسرائيل الفائقة على البقاء، وتنفيذ مخططاتها في المنطقة باحترافيَّة تؤهِّلها للبقاء بقوله “الدَّولة الَّتي شقَّت طريقها إلى العالم في 1948م وُجدت لتبقى”. كان عجمي واقعيًّا لدرجة دفعته إلى انتقاد إنكار العرب غير المستند إلى الواقع الوجود الإسرائيل، معتبرًا ذلك مكمن العجز العربي. اتَّهم عجمي النُّخب العربيَّة، وبخاصَّة المفكِّرين، بالفشل فيما اعتبره أكثر مسؤوليَّاتهم حساسيَّة، وهي إدراك مقدار قوَّة الصُّهيونية، ولاحقًا إسرائيل، والسعي إلى تحقيق توافُق فوري مع هذه الحقيقة؛ بل إنَّهم فعلوا خلاف ذلك، بإيهام اللاجئين الفلسطينيين والعامَّة في الشَّارع العربي بإمكانيَّة التَّراجع عن التَّاريخ.

مأزق السَّادات الحقيقي وسبب فشل تجربته في رأي عجمي

يشترك عجمي في هجومه على السَّادات مع هيكل في التُّركيز على خروج الرَّئيس المغدور من عباءة النَّاصريَّة، وتطبيقه نظامًا رأسماليًّا استبدله بالنِّظام الاشتراكي النَّاصري. يتناول عجمي الفكر السِّياسي في العالم العربي منذ أواخر سنوات الدَّولة العثمانيَّة، وحتَّى مطلع الثَّمانينات، الفترة الَّتي شهدت التَّحوُّل الجذري في الشَّرق الأوسط، بإعلان جمهوريَّة إسلاميَّة في إيران، تزامنًا مع صعود البعثي صدَّام حسين إلى سُدَّة الحُكم في العراق، وانحراف أنور السَّادات عن مسار الدِّيموقراطيَّة الغربيَّة بسعيه إلى تطبيق الخلافة. ويرى عجمي أنَّ السياسات الَّتي طبَّقها زعماء العرب منذ سقوط دولة الخلافة العثمانيَّة وتفكُّك العالم الإسلامي، هي السَّبب في سحق الشُّعوب في حروب مضنيَّة لم تهدأ إلى يومنا هذا.

يتطرَّق عجمي إلى طبيعة الخطاب النَّاصري، القائم على الحشد الجماهيري ضدَّ الغرب، والمنادي بالوَحدة العربيَّة تحت شعار ‘‘العروبة’’، والزَّاعم بأنَّ الجيل الَّذي كان يُعدُّ حينها هو الَّذي سيحرر فلسطين. غير أنَّ الشعارات الرَّنَّانة انكشفت حقيقتها بعد هزيمة العرب المفجعة في حرب الأيَّام الستَّة، أو حرب يونيو/حزيران 1967م، الهزيمة الَّتي أجربت النِّظام المصري في عهد السَّادات على التَّخلِّي عن نبرة العداء تجاه الغرب، وقبول وساطة أمريكا لحلِّ أزمة احتلال سيناء. ويتساءل الكاتب عن سرِّ فشل النِّظام النَّاصري في تحقيق النَّهضة المدنيَّة الَّتي كان المصريُّون يحلمون بها منذ زمن محمَّد علي، وسبقتهم إليها بلدان كانت ناميَّة، مثل الصِّين والهند. ويعتبر عجمي أنَّ تاريخ مصر ما بعد ثورة 23 يوليو شكَّله رجلان غامضان، أثارت توجُّهاتهما السِّياسيَّة تكهُّنات المراقبين، وربَّما لم تنكشف عنهما إلى اليوم حقائق كثيرة، وهما عبد النَّاصر والسَّادات. بينما يمثِّل عبد النَّاصر شخصيَّة مأساويَّة لبطل أسطوري لم يحقق حُلم نشر الاشتراكيَّة، يجسِّد السَّادات لغزًا حيَّر الملايين من العرب، ممن أدهشهم قرار العبور في أكتوبر 1973م، بقدر ما صدمهم قراره بزيارة إسرائيل في نوفمبر 1977م. يفترض عجمي أنَّ السَّادات آرقه الإعجاب الجماهيري بخطاب عبد النَّاصر المدوِّي عن العروبة وسحق أعداء الأمَّة العربيَّة شرقًا وغربًا، الَّذي أظهرت عورته هزيمة حرب الأيَّام الستَّة في يونيو 1967م، فصار زعيم العروبة ‘‘جثَّة حيَّة’’، يقاوم الأيادي العابثة بإرث ثورة يوليو.

يُعزي عجمي سبب فشل التَّجربة النَّاصريَّة إلى دولة مراكز القوى، الَّتي كانت بمثابة دولة داخل الدَّولة، شكَّلت ‘‘عقبة في طريق الإنجازات النَّاصريَّة العظيمة’’. أحنت الهزيمة رأس عبد النَّاصر أمام الملك فيصل، العاهل السَّعودي، في طلب الدَّعم الاقتصادي، بعد أن كان يعلن جهرًا ضرورة الإطاحة بالأنظمة الملكيَّة في العالم العربي، ويدعم ثورات تونس والعراق واليمن وليبيا ضدَّ الملكيَّة، وكان من المفترض حينها أن يأتي الدَّور على دول الخليج، الغنيَّة بالنَّفط. واجه عبد النَّاصر، في رأي عجمي، ضغوطًا داخليَّة، تمثَّلت في المظاهرات الطلَّابيَّة المطالبة باستعادة الكرامة وتحرير الأرض، وخارجيَّة، ظهرت في مناصرة إسرائيل على حساب العرب، وكان من الصَّعب عليه الموازنة بين تلك الضُّغوط؛ وهكذا رحل، تاركًا لخليفته تحديات كبيرة، أبرزها، التخلُّص من أسطورة زعيم العروبة، وهو الرَّجل الَّذي عاش في ظلِّه على مدار سنين. إصرارًا منه على تقزيم السَّادات، يفترض عجمي أنَّ السَّادات كلن يسعى باستمرار إلى محو صورة عبد النَّاصر من الأذهان، وكأنَّما كان يشعر بضآلته النسبيَّة أمام عملقة عبد النَّاصر، وهكذا قال هيكل في كتابه آنف الذِّكر (1983م). امتدَّ الانحراف عن مسار عبد النَّاصر إلى إبراز القوميَّة المصريَّة على حساب مفهوم العروبة. يتناول عجمي مسألة قطيعة الدُّول العربيَّة للسَّادات، وطرد مصر من جامعة الدُّول العربيَّة في مارس 1979م، في قمَّة عُقدت في بغداد، بعد أيام على إقرار معاهدة السَّلام بين مصر وإسرائيل، بمباركة أمريكا وعلى أرضها، وبتشجيع شاه إيران، قبيل خلعه. يعترف عجمي بأنَّ مصر السَّادات أدركت حقيقة عدم جدوى الحرب مع إسرائيل، وأنَّ التعايُش السلمي معها كان الحلَّ الأمثل.

آثر السَّادات اتِّباع نهج الخديوي إسماعيل، في الاندماج الثَّقافي مع الغرب، وتطبيق مفاهيم الحداثة الَّتي قامت عليها النَّهضة الأوروبيَّة الحديثة، مما دفع حفيد محمَّد علي، صاحب الموقف الحازم في مواجهة التدخُّل الغربي في شؤون مصر، إلى الاستدانة من البنوك الأوروبيَّة، فاتحًا السَّبيل أمام الاحتلال البريطاني عام 1882م. ويجد عجمي أنَّ من أهم أسباب سعي السَّادات إلى تطبيق مفاهيم الحداثة شراكته السِّياسيَّة لأمريكا، بعد قطيعة العرب؛ حيث فقدت مصر هويَّتها العربيَّة، وصارت تابعًا للغرب. يرى عجمي أنَّ السَّادات قد خضع لتحوُّل جذري، من فلَّاح ينتمي إلى قريَّة فقيرة في إحدى محافظات الوجه البحري-ميت أبو الكوم-إلى حليف لأمريكا وحاصل على جائزة نوبل للسَّلام. غير أنَّ السَّادات كان ‘‘كبش الفداء’’ للاضطرابات السِّياسيَّة الَّتي عصفت بالمنطقة في تلك الفترة، بعد قطيعة العرب وازدياد الضغط الشَّعبي النَّاقم على السَّلام مع إسرائيل، برغم من حققه ممَّا يعتبره عجمي إنجازات، منها المعونة الأمريكيَّة، وتنازُل إسرائيل عن سيناء، وإنهاء شعار القوميَّة العربيَّة. وقع السَّادات فريسة لأفكار أصوليَّة ساوت بينه وبين فرعون موسى، ووصفته بالمخالف لشرع الله.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى