كتاباتكتابات مختارة

أصناف الناس في سورة البقرة

أصناف الناس في سورة البقرة

بقلم عمر محمود

منذ أن تشرع في قراءة مطلع سورة البقرة حتى تجدها تصنّف الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنون والكافرون والمنافقون، وكذلك حال كل منّا وهو يسير في درب هذه الحياة، فالناس في علاقتهم معك ثلاثة: منهم من يكون معك ومنهم من يكون ضدك ومنهم من يميل بين الاثنين ويلعب على الحبلين.

وهذا الصنف الثالث أي المنافقون هو أخطرهم لأنهم مخادعون، يظهرون خلاف ما يبطنون، قد امتلأت نفوسهم وقلوبهم مرضا وحقدا، ويظنون أنفسهم صالحين مصلحين وغيرهم فاسدون مفسدون، أولئك الذين يخدعك ظاهرهم ويلعنك باطنهم، ويظهرون لك من طرف اللسان حلاوة وقلوبهم تشتعل عليك نارا:” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ “.

ولعلك وأنت تطوف في أرجاء السورة، ستقابل أصنافاً شتى من الناس، تعرض لك الآيات صفاتهم ودواخل نفوسهم، ومنطق تفكيرهم لترسم لك المنهج الواضح والصحيح في التعامل معهم.

ستجد ناساً في السورة لا يحترمون كلمتهم، ينقضون العهد وينقضون الميثاق، مرّة بعد مرّة، حتى لا تعود تصدّق لهم كلمة أو تأخذ منهم وعدا:” الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ “.

وستجد ناساً…. سيناصبونك العداء من أول الطريق، يكرهون أن تنال خيرا، أو تتقلّد منصبا، و تحقّق نجاحاً، ويرون أنفسهم أحقّ بكل هذا منك، كما اعترض بنوا اسرائيل على أحقيّة ملك طالوت:” وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ منْه “.

ولو بحثت عن الأسباب وراء هذه السلوكيات فلن تجد مبرّراً لها إلا كما قال تعالى:” حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ”.

ومثل هؤلاء مقاييسهم ماديّة:” قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ”.

ولا يقيمون وزنا للمواهب والقدرات كالعلم والحكمة:” قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ “.

وفي نهاية المطاف فهي قسمة الله العادلة بين الناس، ومن اطمأن لقضاء الله ورضي بقسمته أراح واستراح:” وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ “.

بينما تجد آخرين مقاييسهم معنوية، يحترمون القيم والأخلاق، ويجعلونها معيارا للحكم على الناس:” قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”.

إن قوة إيمان مع قلة عتاد تغلب قوة كفر مع كثرة عتاد، لأن سلطان المبادىء عاجلا أو آجلا لا بدّ وأن ينتصر على سلطان المادة.

ستجد ناساً… يزوّرون الحقائق، ويشهدون الزور من أجل مصالحهم، ويلبسون الحق بالباطل من أجل أهوائهم:” وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ”
ومثل هؤلاء يرضون بأي حياة وإن كانت مهينة:” وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ” أي حياة، المهم أن يعيشوا لشهواتهم ومصالحهم بأي طريقة وبأي ثمن.

بل وربما ابتدعوا الحيل لأجل تحقيق مآربهم الخسيسة كما فعل اليهود الذين حرّم الله عليهم الصيد يوم السبت فاحتالوا لذلك كي يخالفوا أمر الله:” وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ “.

ستجد ناساً…. ملأ نفوسهم الكبر، وملأ عقولهم السفه، لا ينتفعون بالحجج والآيات مهما كانت واضحة بيّنة، فهم دائما في جدل وشقاق، فها هم بنو إسرائيل يأتيهم موسى بالآيات تلو الآيات، ثم يعبدون العجل، ويسألون نبيهم أن يريهم الله جهرا:” وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ”.

ومثل هؤلاء لا يحسنون إلا الجدل كما هي قصتهم مع ذبح البقرة، وإذا كان وقت العمل لا ينجزون إلا قليلا وهم كارهون:” فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ”.

هم يهتمون بالمظاهر والشكليّات، ولا يدركون عواقب الأمور ولا يتقنون إلا فنّ النقد:” سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا”.

ولن يستجيبوا لك أو يقتنعوا برأيك ولو جئتهم بكل دليل:” وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ “.

بينما تجد آخرين، تطمئن قلوبهم وتسكن روحهم بما يظهر لهم من الآيات والبراهين، فيزدادون ايمانا بأفكارهم ويقينا بمواقفهم:” وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي”.

وبعد أن يطمئن قلبه ويقتنع عقله، يقوم داعيا إلى الحق الذي اعتقده، بالحجة والبرهان، كما في محاجّة ابراهيم مع النمرود:” قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”.

وستجد ناسا….. نفوسهم خبيثة، يعيشون مع الخبائث و لا يحبون الطيبات، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هوخير، لا ترقى نفوسهم إلى المعالى من الأمور، كما أنكر موسى على بني اسرائيل حين اشتهوا العدس والبصل، وقد نزّل الله عليهم المنّ والسلوى ” قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ”.

ستجد ناسا…. يتعصّبون لجنسهم وعرقهم، ويرون أنفسهم فوق الناس، فهم من طينة غير طينة البشر، وهم بمكان عند الله لم يبلغه أحد:” وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا”
ولا يمكن أن يكون بينهم وبين من خالفهم مودة:” وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ”.

بل ويجعلون الجنة لهم لا يشاركهم فيها أحد:” وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى”.

ستجد ناسا….. يعيشون في الظل، ولا يستطيوا أن يتصدّروا الصفوف، لا يعرفون إلا أن يعيشوا أتباعا وخدما لأسيادهم، يبيعون مبادءهم وقيمهم بل ودينهم من أجل دنيا غيرهم،:” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ” وعند الشدة في المواقف يتبرأ الأسياد من أتباعهم ويركلونهم بأقدامهم لأنهم رضوا بأن يعيشوا تحتها:” إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ”.

ستجد ناسا…. يقدّسون الموروث من الآباء والأجداد ولو كان باطلا، ويصرّون عليه وإن كان خطأ، ويرفضون كل جديد يخالف قديمهم:” وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ “.

ستجد ناسا….. يعبدون المال، ويقيمون معاملاتهم على الربا، ويأكلون أموال الناس بالباطل، لا يبالون بجمع المال من حرام، المهم أن تمتلأ أرصدتهم، وتنتفخ جيوبهم، لا ينفكّ عنهم سُعار المال حتى كأنهم مسّـتهم الشياطين، لا يقنعون ولا يشبعون:” الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ”.

بينما تجد آخرين يقنعون بما آتاهم الله من فضله ولو كان قليلا، وبل ويغالبون شحّ نفوسهم فينفقون منه على من احتاج من عباد الله، وهم يوقنون أن الله سيخلفهم في أموالهم خيراً وبركة ” مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ “.

وبعد أن تتجلّى كل هذه الأصناف في محطات الحياة، لا بد للمسلم أن يقدّم النموذج الأمثل في التعامل مع الأخرين ” وقولوا للناس حسنا “.

ولأنّ الناس يختلفون في طباعهم وأخلاقهم، شملت سورة البقرة على مجموعة كبيرة من الأحكام والتشريعات التي تحكم علاقاتهم وتضبطها، فجاء فيها أحكام العبادات كالصيام والحج، وأحكام المال كالربا والدّيْن، وأحكام المراة والأسرة كالحيض والطلاق والعِـدّة والوصيّة، وأحكامٌ تتعلق بالقتال والقصاص، وأحكامٌ تتعلق ببعض المحرمات كالخمر والميسر وغيرها لتضع منهاجا كاملا حكيما يصلح لقيادة المجتمع إلى حياة طيبة كريمة لا سيّما إذا علمنا أن سورة البقرة نزلت في السنتين الأوليين من قيام الدولة الاسلامية في المدينة.
ويأتي ختام سورة البقرة، لتطلب من المسلم أن يكون موقفه في تلقّى الأوامر والأحكام هو السمع والطاعة:” وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”.

وأن يلتزم بها على قدر الجهد والطاقة:” لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ”.

ثم يتزوّد بالعُـدّة التي يحتاجها في هذه الحياة من الايمان بالله بأركانه الكاملة:” آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ”.

وأخيرا… اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء كي يعينه على ملمّات الحياة، فيسأله أن يوفقه إلى طاعته، ويغفر زلته، ويدخله في عفوه ورحمته، وينصره على عدوّه، وهو ما ختمت به سورة البقرة:” رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ”.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى