مظاهر رمضان في تاريخ الأدب العربي

مظاهر رمضان في تاريخ الأدب العربي

لم تخلُ صفحات الأدب القديمة من النماذج الأدبية الكثيرة التي ارتبطت بشهر رمضان والذي يعد صيامه فريضة على المسلم، سواء تكاسل عن أدائها، أو تغلب على الصيام بالنوم، أو عرف ثواب الشهر فصامه إيمانا واحتسابا. الشعراء أيضا لم يختلفوا عن عوام الناس في اختلاف رؤيتهم وتقديرهم لهذا الشهر، منهم من يراه ضيفا محبوبا يُستقبل بشتى مظاهر المحبة والابتهاج، ويُودّع بالحزن على انقضائه، ومنهم من لم يمتنع عن الغزل فكتب الكثير من الغزل في الأطعمة والأشربة خاصة المرتبطة منها بشهر رمضان. ولم تخلُ صفحة الشعر العربي من المديح والهجاء للشهر الكريم، فكان ابن الرومي، وهو من شعراء العصر العباسي، يرهقه الصيام ولا يقدر عليه خصوصا عندما أتى رمضان متزامنا مع شهر أغسطس/آب المعروف بطقسه الحار، فقال ابن الرومي وقتها بيتيه الشهيرين:(1)

شهـر الصيـام مبــاركٌ .. ما لم يكـن فـي شهر آب

خفت العذاب فصمته .. فوقعت في نفس العذاب

ومن هؤلاء الشعراء من أحسن الصيام والخير ولكنه لم يستطع أن يمتنع عن الغزل أو يصرف قلبه عن الحب في رمضان، فكان الوزير الأديب الصاحب بن عباد تمتلئ داره في كل ليلة من ليالي رمضان بألف ضيف يفطرون على مائدته، ورغم بذله الكبير للخير قال مداعبا حبيبته في رمضان:(2)

راسلت من أهواه أطلب زورة … فأجابني أو لست في رمضان

فأجبته والقلب يخفق صبوة … الصوم عن بر وعن إحسان

صم إن أردت تعففا وتحرجا … عن أن تكيد الناس بالهجران

أو لا فزرني والظلام مجلل … واحسبه يوما مر من شعبان

شعر في مدح “الكنافة والقطايف”

ارتبطت أيام وليالي رمضان بالشعائر الروحانية والعادات والتقاليد باختلاف أشكالها من بلد لآخر، والتي طالما كان من الجميل الحفاظ عليها وإحياؤها. وقد سجلت أمهات الكتب الكثير من مظاهر شهر رمضان وتقاليده، منها الكلمات التي يتم تبادلها فرحة بمجيء رمضان مثل: “رمضان كريم”، وهي العبارة التي كانت تقال طوال أيام الشهر الكريم، إما اعتذارا عن تقديم واجب الضيافة لزائر طارئ، وإما دعوة مقدمة لضيف للإفطار باعتبار وفرة الخير والطعام في رمضان.

وقد ارتبط رمضان في الأذهان بالخير وتلاوة القرآن منذ عهد الصحابة، ومع مرور العصور ارتبط أيضا بطقوس لا تكاد تنفصل عنه مثل “الفوانيس ومدفع الإفطار والياميش والكنافة”، وليست هذه المأكولات والطقوس الرمضانية جديدة على رمضان، بل تكاد تصبح تراثا ذا جذر ممدود في تاريخ مجتمعاتنا العربية منذ زمن قديم. ومن أشهر الحلويات الرمضانية “القطايف والكنافة”، وكان من العقائد الموروثة أن للحلوى أثرا محمودا في رد قوة الصائم إليه، وقد بلغت شهرة الكنافة والقطائف إلى أن جلال الدين السيوطي كتب فيهم كتابا جمع فيه كل ما قيل عنهما أسماه “منهل اللطائف في الكنافة والقطائف”(3).

وتروي لنا صفحات الأدب شهادة لهذا التراث لا تخلو من الفكاهة، فأبو الحسين الجزار، أحد الشعراء الصعاليك بالعصر المملوكي، قدم تجربة مختلفة كشاعر اشتهر بحبه للكنافة وألّف لها العديد من النصوص داعيا لها بالمطر والسقيا، مقلدا في ذلك الشعراء الجاهليين الذين ارتبطت حياتهم بالصحراء وكانوا يدعون لمن يحبون بالسقيا، يقول أبو الحسين:(4)

سقى الله أكتاف الكنافة بالقطر .. وجاد عليها سكرًا دائم الدر

وتبًا لأوقات المخلل إنها .. تمر بلا نفع وتحسب من عمري!

وكما تغنى قيس بليلى، وعنترة بعبلة، فإن أبو الحسين تغنى بمحبوبته الكنافة متخيلا إياها في أحد نصوصه أنها تتهمه بالخيانة مع ضرتها “القطائف”، يقول أبو الحسين:

ومالي أرى وجه الكنافة مغضبًا .. ولولا رضاها لم أرد رمضانها

ترى اتهمتني بالقطائف فاغتدت .. تصد اعتقادًا أن قلبي خانها

وقد قاطعتني ما سمعت كلامها .. لأن لساني لم يخاطب لسانها

هكذا كان الشعراء يطلقون العنان لخيالهم في أمور رمضان في بعض الأوقات بتأدب ملموس، لكن البعض الآخر كان يفتقر إلى هذا الأدب. فكان ابن الرومي، وهو أحد شعراء القرن الثالث من العصر العباسي، محبا للطعام والشراب وكارها لقدوم رمضان(5)، وقد اكتفى بإعلان تبرمه بطول الصيام في شهر رمضان وود لو مر مرور السحاب، وحينما وجد ابن الرومي ترحيبا لدى من يشاركونه عواطفه تجاه شهر رمضان هجم على الشهر بلهجة تفتقر إلى التأديب، يقول:

إذا برّكت في صوم لقومٍ .. دعوت لهم بتطويل العذاب

وما التبريك في شهر طويل .. يطاول يومه يوم السحاب

فلا أهلا يمانع كل خيرٍ .. وأهلا بالطعام وبالشراب

البخلاء والشهر الكريم

على الجانب الآخر، لم يغفل غيرهم من الشعراء دفع الناس لنوائب الخير في رمضان باعتباره شهر بر وإنفاق كان فيه النبي أجود من الريح المرسلة، فكان رؤساء الدول الإسلامية يتخذون رمضان ذريعة للتفضل على المحتاجين وتقديم الهبات لذوي القربى. وقد اجتمع أحمد بن طولون والي الدولة العباسية ومؤسس الدولة الطولونية فيما بعد بأعيان القاهرة من أجل الاحتفال بأول شهر رمضان في قصره (6)، ثم خطب فيهم قائلا: “إني لم أجمعكم حول هذه الأسمطة إلا لأعلمكم طريقة البر بالناس، ولذلك فإني آمركم من الآن أن تفتحوا بيوتكم وتمدوا موائدكم وتملأوها بأحسن ما ترغبون لأنفسكم فيتذوقها الفقير والمحروم”، ثم أمر أن يعلّق هذا القرار وأن يعاقب كل ممتنع عن تقديم واجبه نحو الفقراء، هكذا كان رمضان دائما هو شهر البذل والعطاء، ولكن ماذا عن البخلاء في رمضان؟ وكيف يتعاملون مع مبدأ الكرم في رمضان؟

لم تخلُ صفحات الأدب أيضا من قصص البخلاء الذين لا يعترفون بفضل الكرم لا في رمضان ولا في غيره من الشهور، ويشعرون بالرهبة والقلق تجاه تلك الفكرة. رسم لنا الجاحظ صورا فريدة عن هؤلاء في كتابه الشهير “البخلاء”، يقول الجاحظ على لسان أحدهم: “لا تحتقروا صغار الأمور، فإن أول كل كبير صغير، وما يشاء الله أن يعظم صغيرا عظمه وأن يكثر كثيرا كثره، وهل بيوت الأموال إلا درهم إلى درهم، وهل الذهب إلا قيراط إلى جنب قيراط؟ وهل ماء البحر إلا كذلك…”.

أعطانا الجاحظ مشاهد ساخرة لنماذج مختلفة من البخلاء الذين حكى عنهم من حكايات ماضيه أو رسم شخصياتهم في مخيلته رسما محكما جعل ما يقدمه أشبه بفن الكاريكاتير(7)، يقول الجاحظ: “حدثني صاحب لي فقال: دخلت على فلان بن فلان وإذا المائدة موضوعة بعد، وإذا القوم قد أكلوا ورفعوا أيديهم عن الطعام، فمددت يدي لآكل، فقال: أعرض عن الدجاجة التي قد نيل منها، وللفرخ المنزوع الفخذ، أما الصحيح (السليم) فلا تتعرض له، وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه وأصابه بعض المرق”.

المرأة “مسحراتي” في الأدب العربي

في مصر عام 228 هجريا كان الوالي عنبسة بن إسحق هو مصدر الإلهام لشخصية المسحراتي بصورتها الحديثة، فكان يخرج من بيته قبل الفجر آخذا طريقه من مدينة العسكر إلى جامع الفسطاط على قدميه، وفي طريقه كان ينادي على الناس مُذكّرا إياهم بالسحور، ثم في عهد الدولة الفاطمية كان الجنود يتولون مسؤولية إيقاظ الناس للسحور، ثم بعد ذلك عينوا رجلا أصبح معروفا بالمسحراتي يدق الأبواب بعصاه مناديا: “يا أهل الله قوموا تسحروا”، ثم بعد ذلك تعددت الأساليب وأصبحت شخصية المسحراتي من أجمل الطقوس التي اشتهر بها شهر رمضان، وكانت طائفة المسحرين تتفنن في تأليف الأناشيد والزجل من حث على الصيام والصدقة جنبا إلى جنب مع دعوتهم للاستيقاظ للسحور(8)، ومما قيل على لسان بعضهم:

أيها النوام قوموا للفلاح .. واذكروا الله الذي أجرى الرياح

إن جيش الليل قد ولى وراح .. وتدانى عسكر الصبح ولاح

اشربوا عجلى فقد جاء الصباح

ولم تكن مهنة المسحراتي موقوفة على الرجال فقط، بل شاركت فيها النساء أيضا (9)، يحكي لنا الأدب شهادة على ذلك في مغازلة زين الدين بن الوردي إحداهن بقوله:

عجبت في رمضان من مسحرة .. بديعة الحسن إلا أنها ابتدعت

قامت تسحرنا ليلًا فقلت لها .. كيف السحور وهذي الشمس قد طلعت

فانوس رمضان

عندما دخل الخليفة المعز لدين الله إلى مصر ليلا قادما من المغرب عن طريق الجيزة احتشد الناس والأطفال لاستقباله على الطريق من الجيزة إلى حي الجمالية (10)، وفي أيديهم الشموع والفوانيس لإضاءة الطريق للخليفة حين يمر، وكان الأطفال في ذلك العصر يعجبهم ويسعدهم أن يمسكوا بالفوانيس ليلا من أجل إضاءة الطريق أمام أهلهم ليلا عند الخروج إلى المسجد أو عند زيارة الأهل والأصدقاء خاصة في رمضان، إذ يسهر أغلب الناس حتى الفجر، وكان فانوس رمضان موضع سجال بين الشعراء يجتهدون في وصفة بصور بليغة وخيال بديع، يقول الأديب المصري علي بن ظافر المتوفى سنة 613:

اجتمعنا ليلة في رمضان فجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث في جامع عمرو بالفسطاط، وقد أُوقِد فانوس للسحور، فاقترح بعض الحاضرين على الأديب أبو الحجاج يوسف بن علي أن يضع فيه شعرا، فأنشد(11):

ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه .. ولكنه دون الكواكب لا يرى

ولم أر نجمًا قط قبل طلوعه .. إذا غاب ينهى الصائمين عن الفطر

وقال:

هذا لواء سحور يستضاء به .. ويسكر الشهب في الظلماء جرار

والصائمون جميعًا يهتدون به .. كأنه علمٌ في رأسه النار

لا تنتهي مساجلات الشعراء في وصف شهر رمضان وطقوسه، كل منهم بنظرته المختلفة والخاصة لهذا الشهر، ويبقى شهر رمضان مجالا لبسط قدرة الإنسان على ذاته وإرادته، ودافعا للابتعاد عن ضغط الهوى، كما يبقى الصوم عبادة تتضح فيها قيمة الصدق فيما يفعله الإنسان بينه وبين نفسه عندما يكون الله وحده مطلعا عليه.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى