كتاباتكتابات مختارة

في المراجعات الفكرية : “المركز والهامش” في العمل الإسلامي

في المراجعات الفكرية : “المركز والهامش” في العمل الإسلامي

بقلم أ. د. مسعود صحراوي

قدم المفكران: أبو الحسن الندوي، عليه رحمة الله، في كتابه (التفسير السياسي للدين) و”وحيد الدين خان” في كتابه (خطأ في التفسير)… أطروحة فيها تشخيصٌ ونقدٌ لبعض جوانب مشروع الحركات السياسية الإسلامية الحديثة، خصوصا الأطروحة التي قدمها الراحلان أبو الأعلى المودودي وسيد قطب، عليهما رحمة الله في التفسير الإجمالي الكلي للدين الإسلامي والتي تبنتها جل الحركات الإسلامية المعاصرة ولا سيما في مشروعها السياسي وما يتعلق به من مفاهيم مثل مفهوم “الحاكمية” وما يرتبط به…

تتلخص أطروحةُ الكتابَيْن الأساسية وتشخيصُهما -على ما بينهما من فروق إجرائية- في أن جل الحركات الإسلامية ذات الأشكال التنظيمية الحديثة قامت برامجها -كما بينته جل نصوصها ومنشوراتها ومراجعها وأدبياتها-… قامت على “رد فعل سياسي” لا “رد فعل حضاري”، أي على سقوط “الإمبراطورية الإسلامية العثمانية” وانتهاء آخر كيان سياسي مؤسسي يجمع المسلمين، ولم تقم نواة برامجها على سقوط “الحضارة الإسلامية”…! فتعاملت مع الإسلام تعاملا جزئيا وقرأته قراءة سياسية محضة، وغلبت هذا البعد على غيره من الأبعاد الأخرى… فأخطأت في التفسير الكلي للدين وفهم فلسفته العامة، لأنها-في رأي هذيْن المفكريْن- غلَّبت البعد السياسي للإسلام على الأبعاد الأخرى (العقائد والعبادات والأبعاد الإنسانية والاجتماعية والحضارية العامة) مما قدم صورة غير وافية وغير دقيقة عن الدين الإسلامي- وقد حصرتْه في مبدأ “الحاكمية” بالمفهوم السياسي وجعلته هو الأصل والباقي توابع وهوامش؛ فتبدل المركز الفكري للدين وتبدلت تبعا له هوامشه وتوابعه…

ويرى الشيخ أبو الحسن الندْوي[1] أن عمل المودودي للإسلام له مساران:

1–المسار الأول: دفاعه عن القضايا الإسلامية والمفاهيم والأحكام الشرعية…وإحياء العزة بالإسلام في نفوس الطبقة المثقفة الهندية…والأستاذ الندْوي يُكبر هذا المسار في الشيخ المودودي ويُجِلّه.

2–المسار الثاني: أن المودودي لما رأى إقصاء الشريعة عن الحكم في الحياة المعاصرة أدركته الغيرة والحمية لدين الله…لكنه اندفع قليلا- بحسب الندْوي- فجعل غاية القرآن وأساسه “السلطة والحكم”، وأَكْثرَ من هذا في كتاباته…فـ”السلطة والحكم” أساس وغيره تبع… أو كما نقول بمصطلحات “المركز والهامش”، فمركزية الإسلام هي “السلطة والحكم”، والباقي (من عقائد وعبادات وأخلاق وغيرها…) هوامش تابعة لها… وفي رأي الشيخ الندْوي أن هذا التفسير السياسي للدين، الذي قدمه الأستاذ المودودي لجماعته في شبه القارة الهندية، أفضى إلى أربع مآلات سلبية (منها: 1- إدانة التاريخ الإسلامي، 2- تضخم السياسة في الخطاب الدعوي على حساب بقية أبواب الدين، 3-الزهد في مقاومة الشركيات التي حاربها الأنبياء… الخ).

ونفس الفكرة تقريبا يشاركه فيها المفكر وحيد الدين خان في كتاب “خطأ في التفسير”، -وكانت النتيجة في نظره- هي بروز “فكرة النظام” في تفسير الدين بروزا عظيما، وأصبحت الهوية الحقيقية للدين -عبادة الله ومراقبته- في غاية الضعف والإهمال[2]، وانحطت الحيثيات الداخلية الأساسية للدين وطغت عليه حيثياته الخارجية، وكان من نتائجها السلبية أيضا أنها خلقت مؤمنين ناقصين وأصبحت العلاقة بين العبد وربه في خريطة هذا التفسير علاقة سياسية[3]. وهذه الأطروحة -أو القراءة الكرية- لا تطابق في رأيه- نص القرآن الكريم ولا تفسير السلف للدين. وخلاصة هذه الخريطة الفكرية-في تقدير وحيد الدين خان لتجربة المودودي- هي أن الدين هو “النظام” الكامل للحياة الإنسانية وأن الكفاح لإقامة هذا النظام على الأرض هو الواجب الملقى على عاتق المؤمنين… وهذا خطأ إيديولوجي في التفسير، وكتاب الله لا يحتوي على أي “فقرة” [كذا !]تدل علة هذا الهدف دلالة قاطعة[4]، أما حقيقة الدين الأساسية فهي إيجاد علاقة الخوف والمحبة والولاية والتوكل على الله عز وجل، والمظهر اللازم لهذه العلاقة هو “العبادة”[5].

*******

هذا ملخص رأييْ المفكريْن- الندْوي ووحيد الدين – في كتابيهما، وهذا تشخيصُهما لفهم المودودي -وفهم سيد قطب وهو الذي تأثر بفكره في المنطقة العربية- للفلسفة العامة للدين الإسلامي ولتجربتهما في العمل الإسلامي المعاصر قصد النهوض بالأمة من وهدتها التاريخية وما تشهده من نكوص حضاري غير مسبوق،  والبؤرة المركزية تتمثل في “الحكم والسلطة” وغير ذلك فروعٌ وهوامش.ـ فتمت رؤية جزء من الدين والتركيز عليه وتضخيمه على أساس أنه هو صلب الدين وجوهره، أو هو الدين كله.

ولعل مما يجدر ذكره في هذا السياق أن أطروحة هذيْن المفكرين الإسلاميّيْن الهنديين تتقاطع مع فهم علماء ومفكرين آخرين، في العالم العربي، للأبعاد الحضارية للعمل الإسلامي الحديث والمعاصر، وهو ضرورة العمل أولا على الجبهة التربوية العلمية الثقافية وخوض معركة الوعي العام، والاعتزاز بالتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ومواجهة التيارات الشيوعية واللادينية المسيئة لدين الأمة وثقافتها الأصيلة، ومنها بالطبع مسألة “الحكم والتدبير السياسي” لشؤون العامة على أساس الإسلام، ولكنه ليس أولوية الأولويات…وضرورة تقديم الكليات والحقائق على غيرها (مثل العقائد والعبادات والأخلاق والتسلح بالوعي والعلم…)؛ ونذكر بعجالة بعض الذين يتقاطع معهم من علماء الإسلام ومفكريه المعاصرين؛ فمنهم المفكر مالك بن نبي في جل ما كتب[6]… وتتقاطع رؤيتهما أيضا مع عمل بعض المصلحين منهم الإمام ابن باديس في فلسفته العامة ومشروعه الإصلاحي، وغيره من زعماء الإصلاح… كما يلتقيان مع مفكر آخر من مفكري الحركة الإسلامية وهو الدكتور فريد الأنصاري – وهو من قادة الحركة الإسلامية الحديثة في المغرب الأقصى -في كتابه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية”[7]. ومع مفكرين آخرين مثل: جودت سعيد وخالص جلبي وغيرهم… على تفاوت بين هؤلاء في الأسس الإبستيمية والطرائق الإجرائية…إذن فهما ليسا وحدهما في قراءتهما للعمل الإسلامي وأولوياته في لحظتنا التاريخية الراهنة.

على أي حال هذه إحدى القراءات المعاصرة للفلسفة العامة للإسلام وتفسيره الكلي الإجمالي، وهي قراءة جديرةٌ بالدرس والبحث وتقليب وجهات النظر فقد تكون صحيحة كلها أو قد تكون فيها على الأقل جوانب صحيحة، وقد يكون تشخيص الرجلين لفكر المودودي وسيد قطب غير صحيح أو غير دقيق! ونحن لا نريد تزكية إحدى الأطروحتين وتفضيلها على الأخرى، ولكن نشير إلى الفكرة قصد نقاشها وفحصها ودراستها، وندع أهل الفكر والاختصاصات العلمية ذات الصلة يقدمون فيها ما يرون، وضرورة تأصيل مسألة “المركز والهامش” على أساس صحيح… ولا مصدرَ معرفي كالقرآن العظيم، ولا معصومَ بعد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


[1] – يُراجَع كتاب “التفسير السياسي للدين” للشيخ أبي الحسن الندْوي.

[2] – خطأ في التفسير، ط 1992، ص 128.

[3] -نفس المرجع، ص 129.

[4]  -نفس المرجع، ص 129.

[5] – -نفس المرجع، ص 131.

[6] – ولاسيما كتاب: شروط النهضة، ثم إنتاجه الفكري الآخر.

[7] – منشورات رسالة الغفران،  2010

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى