فعاليات ومناشط علمائية

خطبة بعنوان (الاستبداد السياسي)

خطبة لفضيلة د. عقيل بن محمد المقطري ( عضو رابطة علماء المسلمين )

العناصر:

1- خيرية هذه الأمة.

2- أهمية الشورى.

3- الخروج من الفتن.

4- نقطة تحول الخلافة.

5- نتيجة سكوت العالم والأمة عن الظلم.

6- أسباب الاستبداد.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونسعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].

{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 71-72].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدع ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإن الله جل وعلا امتدح هذه الأمة امتدح منهاجها الذي سارت وتسير عليه، فقال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].

وقال سبحانه وهو يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله عز وجل لإقامة هذا الدين وبعثه الله تعالى لإرساء القواعد والدواعم الأساسية التي تسير عليها دولة الإسلام ويسير عليها الحكم الإسلامي، فأمر الله تعالى بأن يشاور أهل الرأي وأهل الحل والعقد، وهذا بالرغم من أنه مؤيد بالوحي من الله عز وجل، وما كان صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى أن يستشير أحدا، وما كان الله ليأمر بالاستشارة وهو الأعلم بشئون الخلق وما بنفعهم فهو سبحانه وتعالى الذي يوجهه فيقول له: أفعل أو لا تفعل، وبالرغم من هذا فإن الله تعالى قد قال له: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [النساء :159].

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى :38].

فذكر الله سبحانه في أواسط القضايا التعبدية إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله عز وجل وذكر ما بين ذلك التشاور والشورى وقال سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [النساء :159].

هذا كله ليرسي القواعد والدعائم الأساسية التي تكفل للناس حرياتهم وتبعد عنهم الظلم والطغيان والاستبداد، وعلى هذا كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان يشاور أصحابه في القضايا الهامة والقضايا المفصلية والقضايا التي ينبني عليها عمل في أوساط الأمة حتى لا تتشقق وحتى لا تظهر النتوءات وتظهر التحزبات والتعصبات الجاهلية للرأي والفكر والمناطقية والقومية والعرقية وغير ذلك، فتشاور صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر التي هي أول غزوة في الإسلام وكانت مفرق طرق بالنسبة للإسلام والمسلمين أراد صلى الله عليه وسلم بعد تجمع المشركين في بدر أراد بعد أن وصل أول نقطة فيها ماء أن يبقى وراءها مباشرة، فجاء الحباب بن المنذر رضي الله عنه فقال: «يا رسول الله! أهذا المنزل منزل أنزلك الله تعالى إياه أم أنها الحرب والمكر والخديعة؟ قال: بل هي الحرب والمكر والخديعة. قال: فأرى أن هذا ليس بمنزل، وأرى أننا نتقدم حتى نصل إلى أخر نقطة فيها الماء فننزع الماء إلي الأحواض فيكون الماء لنا ولا ماء لقريش، وكان جبريل عليه السلام حاضرا في هذه المساجلة فنظر جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك: إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر رضي الله عنه»، ولم يستنكف رسول الله صلى الله عليه أن يرجع إلى هذا الرأي وأن يأخذ برأي فرد من أفراد الرعية وفي غزوة أحد حينما تجمع الناس لمقاتلة المشركين.

واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة هل نبقى في المدينة فإذا دخل العدو قاتلناهم في أزقتها ورمتهم النساء بالحجارة من أعلى السقوف، أم أننا نخرج فكان رأي غالبية الذين خرجوا في بدر أن نبقى داخل المدينة وتعلمون أن الذين خرجوا كانوا عددا قليل لم يخرجوا لقصد الحرب، وإنما خرجوا في بدر من أجل أن يقطعوا الطريق على قوافل قريش، وكان أكثر الشباب في ذلك الوقت متحمسين للخروج إلى خارج المدينة لملاقاة الأعداء، ولا شك أن ملاقاة الأعداء والبروز لهم دليل على القوة ودليل على قوة الشوكة والبأس، فكان رأي الأغلبية الخروج إلى خارج المدينة فدخل صلى الله عليه وسلم إلى بيته ولبس آلة الحرب، وخرج صلى الله عليه وسلم وكأن هؤلاء الذين رأوا الخروج رأوا الكراهة على وجه رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله لعلنا أكرهناك وأنت لا تريد الخروج فإن رأيت أن نقعد قعدنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَنْبَغِى لِنَبِىٍّ إِذَا أَخَذَ لأْمَةَ الْحَرْبِ وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يُقَاتِلَ، وَقَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ إِلاَّ الْخُرُوجَ؛ فَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ إِذَا لَقِيتُمُ الْعَدُوَّ وَانْظُرُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ»(1)، قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، وخرج صلى الله عليه وسلم بأصحابه.

إن وحدة الرأي ووحدة العمل من أهم المهمات ومن أقوى المقومات في وحدة وتماسك المجتمع المسلم؛ بل أي مجتمع يتحد رأيه على أمر ما ولا تنقسم في القضايا العملية على وجه الخصوص إن ذلك مدعاة للنصر ومدعاة لقوة الشوكة ولقوة الريح ولإهابة أعداء الله عز وجل.

ولقد استمر صلى الله عليه وسلم طيلة حياته وهو يتشاور مع أصحابه تنفيذاً لأمر الله عز وجل، وإرساء لهذا المنهج الرباني الذي هو صمام أمان للأمة ألا يتفشى فيها الظلم والاستبداد واستبداد الرأي والطغيان أبداً، وسار على ذلك الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.. بل إنهم ابتكروا أمراً آخر وهو ما يسميه الساسة اليوم الرقابة الشعبية أو رقابة الأمة للسلطة حين ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان أول ما خطب في الناس أن قال: “أيها الناس! إني وليت عليكم ولست بخيركم؛ فإن رأيتم في استقامة فأعينوني وإن رأيتم مني اعوجاجا فقوموني” فطلب منهم أن يقوموه وأن لا يتغافلوا عن أي انحراف ينحرف فيه أبداً.

وهكذا أيضاً عمر رضي الله عنه فيما روي عنه أنه قال لهم نفس المقولة، حتى أن الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يفعل مثل هذا أي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويكون صمام أمان حتى لا ينحرف الحاكم وحتى لا يستبد الحاكم برأيه، ويولي على الأمة من يفسد دينها ودنياها، يقول عمر رضي الله عنه: “لا ولاية إلا ببيعة” لا تنعقد الولاية إلا ببيعة، أي: أن ترضى الأمة بهذا الإنسان الذي ولي عليها، وأن تكون آمنة على دينها وآمنة على دنياها كذلك من هذا المسئول الذي ولي في هذا المنصب أو ذاك، خاصة المناصب العامة المناصب الرفيعة التي لها تأثير على البلد وعلى الناس، فماذا تصنع بخائن أو بعميل يتولى منصب وزارة ما في دولة ما وإذا به يجر البلاد للارتهان لأعداء الله عز وجل، ولك عبرة في كثير من الدول التي ولي فيها هذا الصنف وصارت مرتهنة لأعداء الله عز وجل.

أيها الإخوة!

إن الفتن التي دارت وتدور لا بد أن يقوم لها الحكماء ولا بد أن يكون هنالك تنازل من هذا الطرف أو ذاك والمتنازل هو الذي ينال الشرف والقدح المعلى في الثناء العطر في الحياة وبعد الممات، ويدخل التاريخ من أوسع أبوابه.

بعد موت على رضي الله عنه تولى الحسن خلافة راشدة ارتضى بها الناس أجمعين، لكنه كان منازعاً من معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ولما خشي الحسن بن على رضي الله عنه من إرقة دماء المسلمين تنازل بالخلافة لمعاوية رضي الله عنه مع أنه كان خليفة المسلمين بحق وجدارة بشهادة رسول اله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد» يستحق السيادة وأن يكون له سؤدد وأن يكون له مكانة، فهو سيد من آل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم.. هو سيد يستحق الحكم، فهو أخذها بجدارة وأخذها برضى الأمة بأسرها، قال: «ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان ثناء منه صلى الله عليه وسلم لفعل الحسن أن تنازل بالخلافة إصلاحا لهذه الأمة.

وتعرفون لذة الحكم وشهوة الحكم، إنها لا تدانيها لذة ولا تدانيها شهوة، لكن النفوس الرفيعة هي التي لا تراهن ببلدها ولا تراهن بمواطنيها حتى تراق دماؤهم من أجل أن يبقى الحكم هنا أو هناك، فهذا باب من أوسع الأبواب إذا أراد الإنسان أن يدخل التاريخ أو أن يكسب حب أمته، وأن يكون له الثناء العطر في حياته وبعد مماته.. تنازل الحسن رضي الله عنه تنازلاً بكل سلاسة وبكل بساطة وحقن دماء المسلمين بهذا الأمر طبيعياً فيه الشورى وفيه التشاور، لكن أول نقطة تحول في حكم الإسلام والمسلمين بدأت بعد حكم معاوية رضي الله عنه حيث أوكل الخلافة لابنه يزيد، وأمر الناس أن يبايعوه، فكان هذا الأمر تحولاً عن منهاج النبوة، ونحن إذ نترضى عنه نقول: إن هذا من جملة الأخطاء التي ارتكبت، وهو اجتهاد منه. لكننا لا نوافق تلك الفرق الضالة التي تكيل عليه السباب وتكيل له اللعن وما شاكل ذلك. هذه نقطة خطأ يجب أن يعترف بها، وأنها خرجت عن المسار الصحيح في الحكم الإسلامي الذي كان عليه الأمر زمن النبوة والخلفاء الراشدين؛ فالإسلام إنما أمر بالشورى فحسب ولم يأمر بغيرها إطلاقا، حتى أنه قال: “من أراد أن ينازع في هذا الأمر فليرفع لنا قرنه فنحن أحق به منه ومن أبيه” وهذا طبعاً فيه إرهاب وتخويف للناس ألا يرفع أحد عقيرته أو أن يطلب الملك.

لكن بالرغم من هذا فإن الصحابة لم يخنعوا لهذا الأمر ولم يرتضوه بهذه الطريقة، فقد قام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وأسكت معاوية في خطبته وهو يخطب الناس وقال: “إني أعلم أنك تريد أن نكل أمر ابنك إلى الله عز وجل وإنا لسنا فاعلين، وإذا أردت أرجعناها عليك خدعة كما كانت أول مرة” وترك خطبته وخرج؛ بل لم يبايع يزيداً كما لم يبايعه الزبير وابن عمر وابن عباس حتى إن معاوية رضي الله عنه أراد أن يحاور ابن عمر فقال له: “لقد كان هذا الأمر قبلك، وكان هناك خلفاء أفضل منك ولهم أبناء أفضل من ابنك لم يفعلوا هذا الأمر أبد”.

وهذا نوع من أنواع الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن الاستبداد بالرأي والاستبداد بالحكم يقود إلى الظلم.. يقود إلى الطغيان.. يقود إلى الفساد المالي.. يقود إلى الفساد إداري.. يقود إلى إفقار الناس وإفقار الأمة، وتكوين الطبقة الممقوتة؛ فلم يرتض جمع من علماء الصحابة هذا الأمر أبداً؛ لأن هذه القضية فيها تولية من لا يستحق الولاية، بل لو قرأتم في التاريخ لو جدتم أن من نتاج هذا أنه كان يحكم الأمة برمتها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها طفل صغير لم يتجاوز عشر سنين! هذا كله نتيجة للتوريث، فليس عقلية الأب كعقلية الأبناء، بل في فترة من الفترات تحكم المرأة باسم الطفل الصغير الذي لا يزال يلعب في الحدائق مع الأطفال، فهذه القضية هي التي أوصلت الأمة لما سكتت عن رقابة الحاكم، وسكت العلماء أيضاً عن هذه القضية، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر.. وصلت القضية إلى ما وصلت إليه اليوم من الاستبداد والظلم والطغيان فوجدت دين هذه الأمة يغير، ووجدت بعض الدول تنهى عن دخول المساجد، ولا يسمح لأحد أن يدخل المسجد ليصلى إلا ببطاقة، ووجد في هذه الأمة من يمنع المرأة من حرياتها الشرعية فيمنعها عن أن تحتجب، وتغلق عن الأمة المدارس الشرعية.. كل ذلك من أجل خطب ود الغرب مع أن الغرب عنده معاهد كاثوليكية وجامعات كاثوليكية ولم يستطع المسلمون أن يقولوا لهم: مثل ما أغلقنا معاهدنا وجامعاتنا أغلقوا أنتم معاهدكم وجامعاتكم. هذا كله نتيجة للظلم والطغيان، ووجدت نتيجة لهذا الاستبداد السياسي، ووجد أيضا من يتآمر على الأمة ويتجسس لصالح أعداء الله عز وجل، ويحمي المحتل المغتصب ويحمي اليهود ويطوق المجاهدين في سبيل الله عز وجل الذين ينشدون الحرية ويريدون كسر قيود الظلم ويريدون لمقدساتهم ولأوطانهم أن تعود لهم.. بل وجدت من يقتل هؤلاء ومن يدمر هؤلاء ومن يفعل بهم الأفاعيل، ومن يفعل في حدوده الأسوار المنيعة من أجل ألا يأكل هؤلاء لقمة العيش، ويقتلون من يتسلل إلى بلدانهم.. كل ذلك يقدمونها خدمة مجانية من أجل أن يحافظوا على كراسيهم وشهواتهم.. كل ذلك إرضاء لأعداء الله عز وجل.

اليوم اليهود يعشون في قلق بالغ نتيجة سقوط الحكم الاستبدادي في مصر؛ لأن الكثير من البوادر تؤشر أن بعض الاتفاقيات التي عقدت مع هؤلاء لعلها تلغى إذا كان عامة الناس لا يريدونها، بل البدو يسيطرون على مصنع من المصانع التي تصدر الأسمنت إلى اليهود لعمل ذلك السور الذي أكل أرض المسلمين، والذي يريد حصار المسلمين.. استولوا عليه وأوقفوا عمله، وهم من عامة الناس.

أيها الإخوة!

إن الأمة قد رشدت وشبت عن الطوق إن الأمة قد صارت مثقفة تعرف مالها وما عليها ولن يعيش الاستبداد إلى الأبد إطلاقاً ذلك لأن الأمة قد وعت وها أنتم ترون كيف يلاحق الفاسدون والمفسدون في تونس وفي مصر وأن الناس لا يريدون إلا من يرتضون بهم خاصة في المناصب العامة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

وبعد:

أيها الإخوة!

إن من القضايا الهامة التي يجب أن يعرفها المثقف ويعرفها عامة الناس وطلاب العلم: أنه لا التقاء ولا مقارنة بين قضية الخروج المسلح وإراقة الدماء وبين مقاومة الاستبداد. هذا شيء وذاك شيء آخر؛ فالخروج إنما منع منه العلماء في فترة ما لأنه يتسبب بإراقة الدماء، وأما الخنوع للاستبداد فهذه ظاهرة مرضية في الأمة حيثما وجدت. نعم. قد تسلم الأمة لفترة من الفترات الحكم للحاكم المتسلط، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»(2).

فإذا تأمر فهذا يعني أخذ المنصب والحكم عن طريق انقلاب أو ما شاكل ذلك واغتصبه بشرط أن يعدل بشرط وأن يحكم شرع الله عز وجل لا أن ينحى الشريعة ويأتي بالقوانين الوضعية ويحكم دماء الناس إلى قوانين أوروبا وقوانين أمريكا وقوانين فرنسا وما شاكل ذلك، لا. هذا شيء آخر، المقصود هنا هو أن الحاكم إذا تسلط واستتب له الأمر وحكم شريعة الله عز وجل فله السمع والطاعة، لكن مع مقارعة ظلمه ومقارعة الفساد الذي نتج عن هذا الاستبداد السياسي، لهذا قارن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم :«تأمر عليكم عبد» وبين قول أبي بكر الصديق رضي الله: “وليت عليكم” يعني أنتم وليتموني، أما هذا فمتسلط متجبر فجاء عن طريق الدبابات والطائرات، وتسلط على هذه الأمة بالقوة والجبروت، ففرق بين مقارعة الظلم وبين قضية الخروج، وإنني في الحقيقة أرفع رأسي إكباراً للمظاهرات التي خرجت في هذا البلد على وجه الخصوص، فأثبتت للعالم أنها متحضرة غاية في الحضارة، والدستور قد كفل لها هذا التظاهر وهذا الاعتصام فإن المتظاهرين في هذا البلد لم يحرقوا المباني ولم ينهبوا الممتلكات بل هي واقفة في أماكنها، وهذا إن دل على شيء فإنما بدل على تحضر هذا البلد بإذن الله عز وجل.

وإن الغوغاء والفوضى الجميع يرفضها.. المظاهرات الدموية التي فيها سلب وقتل وما شاكل ذلك هذا أمر مرفوض.. القتل لهؤلاء الذين تظاهروا أمر مرفوض ويجب على الدولة أن تحقق في هذا الأمر وأن تحاكم المتسببين والفاعلين وتنفذ فيهم شريعة الله عز وجل.

الأسباب التي ساعدت على نمو الاستبداد:

– ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فحيث ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخاصة من العلماء يأتي الاستبداد ويأتي الطغيان {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة :78-79].

لهذا قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»(3).

وقال صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»(4).

فجعل من أرفع الجهاد في سبيل الله عز وجل يجب على الأمة أن تكون مراقبة ومحاسبة لحكامها أولا بأول وهذا حق من الحقوق ولا يجوز أن يغيب ولا يجوز أن يغتصب وحيث تراجعت الأمة عن دورها في هذا الجانب وصل الفساد إلى ما وصل إليه اليوم.

من الأسباب أيضا أيها الإخوة، وهذه قضية آمل أن تنبهوا لها:

– عقيدة المرجئة والجبرية والتصوف الغالي سبب من الأسباب التي شاركت في هذا النوع من أنواع الاستبداد؛ لأن هاتين العقيدتين لها تأثير كبير في ظهور رؤوس الاستسلام للظلم، ولهذا سميت عقيدة المرجئة بدين الملوك.

عقيدة المرجئة تعني أن الحاكم مهما فعل.. يظلم يبدل شريعة الله عز وجل يفشي الفساد في الأرض يفعل ما فعل عند هؤلاء المرجئة الحاكم إيمانه كإيمان جبريل ومكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم وأنه إنما فقط نقص في قضية كمالية فحسب. هذا الدين الفاسد وهذه العقيدة الفاسدة ساعدت في هذا الأمر ومما يؤكد ارتباط عقيدة الإرجاء الاستسلام للاستبداد السياسي أنه ظهر بعد حادثة عبد الرحمن بن الأشعث الذي خرج على الحجاج بن يوسف الثقفي الظالم في دير الجماجم عام 83هـ، لما انهزم ابن الأشعث وكان معه مجموعة من العلماء والفقهاء فقتل من قتل وفر من فر برزت هذه العقيدة وقالت للناس: ليس بالإمكان أحسن مما كان فاستكينوا لهؤلاء الظلمة ولهؤلاء الطغاة ودعوهم يصنعون بكم ما يشاؤون، ولذلك قال قتادة: إنما برز الإرجاء حينما فشلت ثورة ابن الأشعث.

عقيدة الجبر تعني استسلام في الداخل، والاستسلام حتى للأعداء في الخارج، ومعنى عقيدة الجبر: الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره زعموا، فالمستعمر إذا جاء ودخل البلاد واحتل هذا قضاء الله وقدره لا تدافعوا ولا تقاتلوا. هذه عقائد فاسدة تسللت إلى بلاد المسلمين ولا تزال تعمل إلى يومنا هذا.

أما الصوفية فالجهاد ليس مذكورا عندهم لا من قريب ولا من بعيد فهم يتعبدون حسب زعمهم في البيوت والمساجد وما شاكل ذلك، ويخرجون في حال مداهمة الأعداء للبلاد إلى الفيافي والقفار ذكرا لله عز وجل.

الثالث: من القضايا التي بررت للاستبداد التبرير والتأويل الشرعي، فهنالك من يبرر من لبلاد المسلمين بعد هؤلاء: لو أنه مات فلان كيف تكون حال البلاد؟ لو أنه حصل كذا وكذا من أين نأتي بكذا؟

يا أخي هذا فكر منهزم الأمة لا تزال حية ولا تزال تنجب ولها أبناء بارون بها، هذه الحوادث ستبرز الخيرات الكامنة والمدفونة ستبرز الناس الذين عندهم غيرة على هذه الأوطان وستخرجها إلى بر الأمان بإذن الله عز وجل؛ فالتبرير والتسويغ لمثل أمر مرفوض لأنه يساعد على الاستبداد.

إن الاستبداد دائما مربوط بترك الشورى فحيثما كانت الشورى ذهب وولى الاستبداد.

رابع هذه القضايا: دعوى عدم أهلية الأمة لمبدأ الشورى هذا ربما يكون في فترة مضت أما اليوم فالأمة قد شبت عن الطوق ولذلك تعرف الحق من الباطل وتعرف الصواب من الخطأ.

خامس هذه القضايا: دعم القوى الاستعمارية الأجنبية لهؤلاء المستبدين فكثير من هؤلاء إنما تدعمهم قوى غربية تدعمهم بريطانيا تدعمهم أمريكا وهي تريد أن يبقى هذا الظلم والاستبداد لكنها إذا وصلت إلى آخر نقطة تخلت عن هؤلاء بل حتى لا تستقبلهم كلاجئين سياسيين عندهم.

هذه القوى تساعد على الاستبداد من أجل أن تستمر في استنزاف ثروات هذه الأمة وعلى ذلك فإن الأنظمة المستبدة دائما تكبت الحريات وتتعدى على دين الناس تتعدى على أخلاق الناس تثير الإرهاب في أوساط الناس لا يستطيع الإنسان أن يتكلم بالحق ولا يستطيع الإنسان أن يتصرف بحرية ويصل بها الحال إلى السجن التعسفي والاستجواب خنق أنفاس المجتمع الحرب الشرسة على الدعوة فتح الأبواب للمذاهب الإلحادية لتعمل في البلاد الإسلامية.

هذا والحمد الله رب العالمين

____________________________________

(1) سنن البيهقي الكبرى 8/94.

(2) السنن ا لكبرى للبيهقي 10/114

(3) مسلم 1/50.

(4) صحيح وضعيف الجامع 13/360.

 

 

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى