كتاباتكتابات مختارة

المسجد الأقصى المبارك العقيدة والهوية

المسجد الأقصى المبارك العقيدة والهوية

بقلم د. تيسير التميمي

تعتبر مدينة القدس المباركة جزءاً من عقيدة الامة المسلمة ، فمسجدها الأقصى المبارك محور معجزة الإسراء والمعراج ، إليه انتهى الإسراء ومنه بدأ المعراج إلى السماوات العُلا ، قال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء1 ، وفيه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً بالأنبياء والرسل جميعاً ، قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء {… ولقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي ، فإذا رَجُلٌ ضَرْبٌ (وسط) جعد (من جعودة الشعر) كأنه من رجال شَنُوءَة (قبيلة مشهورة) وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة، فأممتهم } رواه مسلم ، فتحها الفاروق عمر رضي الله عنه دون أن تراق فيها أية قطرة دم ، وروى الصحابة رضي الله عنهم والتابعون والمجاهدون الأخيار رحمهم الله تعالى ثراها بدمائهم الزكية ، وحررها الناصر صلاح الدين الأيوبي من غزاة الفرنجة بعد تسعين سنة تقريباً من احتلالهم الغاشم لها.

 وبين يديْ ذكرى النكبة الكبرى للشعب الفلسطيني فهناك معركة جديدة لأمتنا المستضعفة اليوم، الأمة التي تداعت عليها الأمم الأخرى لوهنها وحبها الدنيا وزينتها ومناصبها وكراسيها ، ولكراهيتها الموت وخوفها من مواجهة العدو وجبنها عن دفع عدوانه واحتلاله واغتصابه الأرض والحقوق ، إنها معركة مدينة القدس وهويتها العربية والإسلامية.

معركة جديدة للأمة ولكنها ليست الأولى في زماننا هذا ، فمنذ أكثر من خمسة عقود مضت وقعت البقية الباقية من أراضي فلسطين في براثن الاحتلال الإسرائيلي الغاشم عام 67 بما فيها مدينة القدس المباركة ، فتعاظمت مأساة الفلسطينيين وتضاعفت معاناتهم ، فأجبروا ثانية على النزوح من ديارهم مهجرين لاجئين ، فقبل أن يستيقظوا من آثار النكبة الاولى في عام 48 حلت بهم نكبة جديدة أشد مرارة وقسوة من الأولى ، لأنها كانت شاهداً على عجز الأمة ونظامها السياسي عن تحرير فلسطين السليبة الذي وعدت به شعوبها.

حدث هذا قبل أكثر من خمسين عاماً مليئة بالعذاب والقهر والقتل والإذلال ، ذاق فيها أبناء شعبنا الفلسطيني ويلات الاحتلال والسجون والحصار، لكنهم واصلوا المقاومة والصمود ، وسطر فيها الأبطال بدمائهم سجل الخلود ، ثم صدرت قرارات أممية تدين جرائم سلطات الاحتلال الإسرائيلي ، وقرارات دولية مثلها مُلْزِمَةٌ لها ، لكنها كانت دوماً لا تكترث ولا تأبه لشيء ، فقادتها الإرهابيون لا يُسألون عما يفعلون ، فلا ميثاقَ يُلْزِمُها ولا قرارَ يردعها ولا عقوبة تمنعها ، ولو وقف الكون كله في وجهها ، فيكفيها أن الإدارة الأمريكية ومن ينضوي تحت لوائها تساندها وتؤازرها وتدعمها إلى أبعد الحدود بكل صور الدعم : السياسي والعسكري والاقتصادي.

وعلى الرُّغم من اللاَّءات التي صدرت ، والشعارات التي رُفِعَتْ ، والمنظمات التي ولدت ، إلاَّ أن القدس لم تتحرر وأرض فلسطين لم تتطهر . وعلى الرُّغم من النَّعَمَات التي سُمِعَتْ، والمعاهدات التي عقدت ، والعلاقات التي طُبِّعَتْ ، إلاَّ أن القدس قد تضيع ، وفلسطين قد تضيع إن لم يتحرك العرب والمسلمون على وجه السرعة والجدية لإنقاذها ، فلا زالت إسرائيل تمعن في إجراءاتها التعسفية ضد شعبنا ، وفي تنفيذ خطواتها التآمرية لتهويد المدينة المقدسة ولتقويض المسجد الأقصى المبارك ، ولا زالت تمعن في ارتكاب جرائم الحرب ضد الإنسانية دون وازع أو رادع . ولا زالت تمعن في تفريغ الأرض من أهلها لإحلال المغتصبين مكانهم.

إجراءات احتلالية تتلوها إجراءات ، لكن خطوة واحدة لم تتقدم إلى الأمام على طريق إنهاء احتلال القدس وفلسطين أو نيل الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية ، لا بل ازدادت العقبات وتعقدت الأمور وبدا أمل إقامة الدولة بعيداً جداً ، تصاعدت الممارسات الإرهابية الاحتلالية ، وتضاعفت الاغتيالات والاعتقالات للمدنيين العُزَّل، وصودرت أراضي المواطنين وهدمت بيوتهم ومساجدهم وأخرجوا من ديارهم.

يجري ذلك كله على مرأى ومسمع المجتمع الدولي وهو ساكت صامت جامد ، أصم أبكم لا يقدر على شيء أبداً ولا يأتي بخير أبداً . حتى الأمة أصبحت متفرجة لا تحرك ساكناً ، مع العلم أن لها دوراً فعّالاً مؤثّراً لو قامت به لغيرت وجه الأحداث ولقلبت المعادلة لصالحها وصالح حقها ، لكن شيئاً من ذلك لم يكن.

فالشعب الفلسطيني وحده في الميدان وفي معركة الدفاع عن كرامة الأمة ، وهذا فعلاً ما أثبته الواقع المرير ، لكن الله سبحانه وتعالى أكد انتصار أصحاب الحق على الاحتلال الغاشم وعودة المسجد الأقصى المبارك إلى أهله فقال { … فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } الإسراء7.

لذلك فإنني أدعو أبناء شعبنا الصابر المصابر الذي أثبت أنه وحده صاحب معركة القدس التي قام بها منذ عام 2017 وحتى اليوم نيابة عن الأمة ، وحقق فيها ما عجزت الأمة كلها عن تحقيقه من انتصارات حقيقية أذهلت العدو وهزمته وأسقطت أسطورته ، أدعوه مجدداً إلى المحافظة على عوامل النصر وفي مقدمتها الوحدة ، وأدعوه إلى المواظبة على شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك للمرابطة والحضور الدائم فيه ، بهدف صد كل المؤامرات التي تحدق به وتهدف إلى الاستفراد به وتنفيذ المخططات التآمرية ضده بعيداً عن أعين الأمة والعالم ، فهذا واجب ديني ووطني يؤكد تمسكنا بحقنا في مدينتنا ومقدساتنا ورفضنا لاحتلالها وإجراءات تهويدها ، وأطلب من كل من يستطيع منهم زيارتها والصلاة في مساجدها وكنائسها، لتأكيد هويتها وتعزيز علاقتهم بها وبمقدساتها وتكثير سواد أهلها ومؤازرتهم ودعم صمودهم لمواجهة ماولات تهويدها وإلغاء هويتها العربية والإسلامية وتفريغها من أهلها العرب الأصليين.

 وإنني أؤكد مجدداً أن مدينة القدس عربية إسلامية وهي عاصمة الشعب الفلسطينية الأبدية السياسية والوطنية ، وهي العاصمة الروحية للأمة كلها ، وأن المسجد الأقصى المبارك بجميع ساحاته وأساساته وبناياته وأسواره وأبوابه وقبابه وفضائه وكل جزء فيه مسجد إسلامي خالص لاحق فيه لغيرهم من قريب أو بعيد ، وأوجه من أرض الإسراء والمعراج نداء إلى منظمة التعاون الإسلامي باستثمار هذا النصر المقدسي والتحرك الفوري للقيام بواجبها في إنقاذ مدينة القدس وحماية المسجد الأقصى المبارك من الخطر الذي يتهدده ، واتخاذ المواقف والقرارات العملية الجادة للدفاع عنه.

 وأدعو لجنة القدس برئاسة العاهل المغربي التي لم تنعقد منذ سنوات إلى القيام بدورها الذي أنشئت من أجله ، فحسب بيانها التأسيسي هي المسؤولة عن تفعيل كل القرارات الصادرة لمصلحة القدس والتصدي لكل الإجراءات والقرارات التي تمس بمكانتها وبمقدساتها ، وهي التي تستطيع تفعيل دور منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية وكل المؤسسات الإقليمية والدولية للتصدي للمؤامرات التي تحاك ضد المدينة المقدسة.

     وأقول للمجتمع الدولي ومنظماته وهيئاته والرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي ودوله الداعمة لسلطات الاحتلال الإسرائيلية: كفاكم انحيازاً إلى جانب الجلاد ضد الضحية، فمن حق الشعب الفلسطيني أن يدافع عن نفسه وعن أرضه وعن مقدساته ، ولا يقبل منكم تبرير جرائم الاحتلال بالحق في الدفاع عن النفس وهو المغتصب المعتدي.

  وختاماً أؤكد أن الأمة لن تسكت على ذلك ، فقد بدأت تتململ وستصحو شيئاً فشيئاً من سباتها ؛ وإن كان بين أبنائها من يتماهى مع الإدارة الأمريكية ومع الاحتلال ، فالقدس جزء من عقيدتها ، ولن تفرط فيها لأنها تؤمن إيماناً يقينياً بأن التفريط فيها تفريط بكل مقدساتها حتى لو كانت المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.

 وأحذر الشعب الفلسطيني الأمين على مدينة القدس والقضية الفلسطينية الذي سطر عبر العقود الطويلة الماضية وفي الأيام الماضية في رمضان وما تلاه من أيام بأحرف من نور وبدماء الشهداء صفحات المجد والخلود دفاعاً عن قضيته الفلسطينية العادلة وبالقلب منها مدينة القدس ، أحذره أن يَفْتُرَ في الدفاع عنها وعن افتدائها بكل غالٍ ونفيس كما فعل الأخيار والشرفاء من أبناء الأمة ، وأحذرهم أن يكون تحركهم آنياً أو مجرد رد فعل لأي إجراء او قرار من أيٍّ كان ، فهو الذي يملك صناعة الحدث وتحريك الأمة بل العالم أجمع لأنه صاحب أعدل قضية في العالم ، وهو الذي يعاني من أطول احتلال في هذا الكون.

     وأطالب الأمة كلها بمساندة الشعب الفلسطيني في هذه المعركة بالفعل مساندة مادية وسياسية فهو يدافع عن كرامتها وشرفها وعقيدتها ، وأطالبها بالتسامي عن كل خلافاتها ، وبحشد كل القوى والطاقات لتحرير أرض فلسطين السليبة ، وبإبقائها القضية المركزية لها ، فلا تكفي في هذه المعركة المسيرات والشعارات أو الإعلان عن الغضب لمواجهة أخبث مؤامرة دولية ضد القضية الفلسطينية ومدينة القدس المباركة ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران 200.

وإننا موقنون بأن مدينة القدس المباركة التي تعرضت للغزو والاحتلال مرات عديدة كانت تحرر في كل مرة وترفع فيها رايات النصر والعزة والتمكين وتطوى صفحات غزاتها ومغتصبيها ، وموقنون بأن نهاية هذا الاحتلال الغاشم ستكون كنهاية سابقيه ، فسيأتي اليوم الذي تتحرر فيه فلسطين والقدس ، وسيغسل المحررون من أبناء شعبها وأمتها أرضها وشوارعها وكل سُبُلَها بماء الورد وسيطهرونها من رجس الاحتلال ، فالاستعمار كما قيل [مجرد جملة معترضة في حياة الشعوب‏ ، فإرادة الحياة والتحرير لديها حاضرة دائماً؛ وهي التي تحدد ساعة استدعاء هذه الإرادة بالثورة والمقاومة لنيل الحرية والكرامة].

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى