تقارير المنتدىتقارير وإضاءات

أمانة العالِم بين الأداء والتفريط

أمانة العالِم بين الأداء والتفريط

 

(خاص بالمنتدى)

 

العالم مؤتمن على الرسالة، حامل لمسؤولية التبليغ، وارث للأنبياء في علمهم ودعوتهم، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبيّن الدّين للجاهلين والمتجاوزين، فيبرئ ذمّته، ويؤدّي حقّ العلم الذي يحمله، فيتمثّل الإسلام في واقعه علما وعملا، عبادة وجهادا، دينا ودولة، عقيدة وشريعة، وهذا دأب الأتقياء الصالحين منهم، ممّن لم يقفوا عند حروف الوحي ويضيعون حدوده، ولم يحفلوا بما يُطلق عليهم من ألقاب، بل حملوا همّ الأمة بأداء حقّها من التبليغ بلا خوف ولا وجل، جامعين بين العلم والعمل والفهم والوعي والبذل.

وفي مقابل هذه الفئة العاملة بما تعلم، الممارسة لواجبها في التبليغ والتوجيه في كلّ الاتجاهات، برزت طائفة من أهل العلم لم يكد علمها يخرج من أبواب المساجد، حيث نسى هؤلاء المهمة الكبرى المنوطة بهم، واتّجهوا بالكلّية إلى حلق العلم والتدريس، منعزلين عن واقع الناس، ومنزوين بعيدا عن الأحداث.

وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء فعلى العلماء أن يكونوا في مصاف شهداء كلمة الحق، أما تحقيق مناط أحاديث الصبر والطاعة والنقولات عن السلف في غير واقعها فهو خطر عظيم على الشريعة، وهو تلبيس للباطل بلبوس الحق يفيد المستبد ولا يفيد غيره، ويطيل أمد الجور ولا يزيله، وينقص من قدر مكانتهم ولا يرفعهم»، فالناس في مواقفهم إنما يتبعون العلماء، ويلقون على كواهلهم مسئولية كبيرة في تمييز الحقّ عن الباطل، والتوجيه إلى طريق الاستقامة دون محاباة للحاكم على حساب المحكوم، فالكلّ سواسية أمام حدود الله تعالى.

من المعلومات من ديننا الحنيف بالضرورة أنه لا دين إلاّ بجماعة، ولا جماعة إلاّ بإمامة، ولا إمامة إلاّ بالسّمع والطاعة، وهذا إطلاق عام يحتاج دائما إلى التوضيح، والتقييد، فالإمامة في أصلها عقد مشروط بين الحاكم والرّعية، يقوم على اختيار من تراه مناسباً لتولّي الحكم وفق الشروط الشرعية المعلومة، من إسلام، وبلوغ، وسلامة عقلية وجسدية، وعلم، وما إلى ذلك ممّا فصّلته كتب السياسة الشرعية، بالطرق المناسبة للمكان والزمان، عهدا، وبيعة، وانتخاباً، على أن يخضع للرّقابة والمحاسبة والتوجيه، ولأجل ذلك شهد التاريخ الإسلامي مواقف عديدة بين العلماء والحكام إنكارا للزيغ، وتغليظا في القول من باب أداء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصونا لمصالح الأمة من التضييع، يقول الشيخ الشهيد عبد العزيز البدري -رحمه الله-: «لأنّ العلماء -وهذا شأنهم في كلّ زمان- يريدون من الحكّام أن يكونوا مطبّقين لأحكام الشرع، محسنين في تنفيذ أحكام الإسلام، فلا ظلم يقع، ولا إساءة تحدث، فإذا أحدث حاكم إساءة، أو ارتكب مظلمة، سواء أكانت عن سوء قصد، أو عن نية حسنة، فإنّ من واجب العلماء أن ينكروا عليهم ذلك، وأن يحاسبوهم عليه، حفظا لبيضة الإسلام، ورعاية لشؤون المسلمين».

وقال الله تعالى تشنيعا لأكل الدنيا بالدين: ﴿ٱشتَرَواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنا قَلِيلا فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُم سَآءَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ﴾، وهي وإن كانت في حقّ المشركين الذين خافوا أن يفوّت عليهم الإسلام مغانم كانت تملأ بطونهم، فحافظوا عليها، وضيّعوا فرصة النجاة بالدين، إلاّ أنها تعكس أحوال الطامعين في العطاء من الساكتين على الحقّ، بداية من علماء بني إسرائيل، ووصولا إلى علماء الإسلام الخانعين، لأنّهم بطمعهم، وتزلّفهم للحكام الظالمين إنما يصدّون عن سبيل الله بتعطيل حدوده سكوتا على صنيع الحكام، وتمرير ما ينافيه مجاملة لهم، وأولئك كذلك ساء ما يعملون.

يقول سيد قطب -رحمه الله-:« كذلك علم الله سبحانه أنّ بعض المستحفظين على كتاب الله، المستشهدين، قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا، وهم يجدون أصحاب السلطان، وأصحاب المال، وأصحاب الشهوات، لا يريدون حكم الله، فيملّقون شهوات هؤلاء جميعا، طمعا في عرض الحياة الدنيا، كما يقع من رجال الدين المحترفين في كلّ زمان، وفي كلّ قبيل، وكما كان ذلك واقعا في علماء بني إسرائيل، فناداهم الله (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا)، وذلك لقاء السكوت، أو لقاء التحريف، أو لقاء الفتاوى المدخولة، وكلّ ثمن هو في حقيقته قليل، ولو كان ملك الحياة الدنيا، فكيف وهو لا يزيد عن أن يكون رواتب ووظائف وألقابا ومصالح صغيرة، يباع بها الدين، وتُشترى بها جهنم عن يقين».

وفي تفكيك دقيق لحالة تسويغ الظلم والاستبداد بنصوص مجتزأة من سياقاتها، وعقيدة مفرغة من مقاصدها، يقول الدكتور محمد العبد الكريم في كتابه (تفكيك الاستبداد: دراسة مقاصدية في فقه التحرّر من التغلب): «فلو أنّ رجلا اعتدى على حقّ عام من حقوق الناس فاستأثر به لنفسه، وامتلكه بالقوة الجبرية له ولخاصته، زاعما أنه يريد الحق والعدل، أو يريد ملكا وسلطة، فهو في نظر كلّ المشرّعين قد ارتكب جرما وإثما عظيما، إلاّ أنّ المشرّعين، وخشية من وقوع فتنة ومفسدة كبرى، وخروج الناس عليه بالسلاح لاسترجاع الحق بالقوة، قاموا بتقنين العلاقة مع المعتدي ومن معه، حفاظا على الأرواح، وصونا للدماء التي ستراق في ساحات التحرير، فمنعوا من استرجاع الحق بالقوة، وقالو: ما أُخذ بالقوة لا يعود بالقوة، والمعتدي صاحب شوكة وقوة، ثمّ طلبوا النصوص الشرعية والآثار عن السلف، والقواعد والمصالح والمفاسد لتأييد مبدئهم، فصرفوا بعض الآثار للدلالة على عدم ما يمنع من استيلاء المعتدي على حق عام والتصرف فيه كحق له.. فاستشهدوا ببعض الآثار وصرف دلالتها، لتدل على استئثار أبي بكر وعمر بحق عام دون مشورة الأمة، بل كانت بمشورة خاصة قاصرة، فهي شبيهة بالاستيلاء على الحكم.

وتصرفوا في بعضها للدلالة على عدم جواز مقاومة المعتدي بالسلم أو بالعنف لما في ذلك من الفتنة والمفسدة الأشدّ، ثمّ حصلوا على نتيجة مهمة فقنّنوا بها حقّ المعتدي الكامل في بقاء الحق له، وفي ذريته من بعده، حتى يرث الأرض ومن عليها، أو يأتي غالب آخر فيتغلّب، فينتقل من معارض خارجي مبتدع ضال إلى صاحب حق.

ولا يجوز التعامل معه كمعتدٍ، فالواقع يحفظ حقه في السلطة، ويمنحه تذكرة دخول مجانية لعضوية أهل السنة، والانتساب إلى السلف، وتصبح القوة هي التي تنتج الحق لا العكس.. ولإحكام الباب، ولكيلا يقال بأنهم تركوه من دون نصحه، قاموا بتحديد وسائل الممانعة وحصرها بالنصائح السرّية، أو فيما معناها، وقننوا عدم جواز مقاومته بالنقد العلني، أو بالوسائل السلمية المختلفة، وجعلوها من الخروج باللسان، ولا يمنع أن يكون له أحكام الخروج المسلّح عند بعضهم، فيجوز قتل المتظاهرين أو الداعين له، واعتبر بعضهم أنّ من خالف أو عارض فهو مبتدع ضال خارجي منتهج منهج أهل الخوارج يجب أن تحقق فيه كلّ مناطات نصوص الخوارج.

ثمّ قنّنوا بعد ذلك تجريم المطالبة بالحق، فاعتبروا المطالبة بالحقوق بغير الوسائل الصامتة فتنة، ومنازعة الحكم لأهله، وخروج على حق المعتدي في استئثاره بالحق العام تجب معاقبة من يحاول إثارة شبهة حوله، ثمّ أدرجوا جميع ما سبق تحت منهج الحق والعدل، واسموه منهج السلف، وطريقة أهل السنة والجماعة».

وللأسف الشديد ظهر في عصرنا هذا -كما في كل عصر- طائفة من العلماء  تشرعن قرارات الحاكم وتلمع صورته وتدافع عن خطوات خاطئة، حتى تقلص دور علماء البلاط ليتلخص في مجرد منصات لشرعنة الفساد والجرائم بطرق مختلفة ومخادعة للمجتمع.

ومن هؤلاء مجموعة ممن ينتسب لأهل العلم في بلاد الحرمين، منهم عائض القرني، الذي حاول السير في هذا الركب، فقد أعرب القرني عن ندمه على تبنيه الأفكار القديمة، وأبدى إعجابه وانبهاره بولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للسعودية لمحمد بن سلمان.

وقال مادحاً ومتملقا إياه: “إذا كان في العلم مجدد ففي الحكم مجدد هو محمد بن سلمان.”

كما أعلن القرني عن دعمه لابن سلمان في إجراءاته الداخلية والخارجية، مستخدمًا كل قدراته في التشهير وكيل الافتراءات ضد تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، ففي الوقت الذي شهدت فيه العلاقات التركية السعودية توترا، واصل القرني نشر المقاطع المسجلة التي تتضمن محتويات تشهير ضد الرئيس أردوغان، ما يعتبر مؤشرًا هامًا على استغلال رجال الدين في السعودية كأدوات سياسية.

غير أن اللافت هو أن نفس الشخص (القرني) كان، حتى بضع سنوات خلت، يطنب في كيل المديح للرئيس أردوغان.

وكان عائض القرني قد اعتذر في وقت سابق، عن مواقفه الفكرية السابقة، معتبرا أن الصحوة الإسلامية صاحبها تشدد وتضييق، ومؤكدا في الوقت ذاته أنه مع الإسلام المنفتح المعتدل الذي ينادى به ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

وفي مقابلة تلفزيونية قدم القرني اعتذاره للمجتمع السعودي عن الصحوة -التي شهدت انتشارا واسعا خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في السعودية وخارجها- وما صاحبها من أخطاء قال إنها خالفت فيها الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام والدين الوسطي المعتدل وضيقت على الناس.

إن من محاسن علماء الإسلام المخلصين وحماته الصادقين أنهم جهروا بالنُّصح واحتملوا الأذى، ولم يُحابوا أحدًا أو يداهنوه؛ إذا كانت المحاباة والمداهنة تنافي ما أمروا به من قول الحقّ والصَّدع بأمر الله، حتى عند غلبة الهوى وتسلط الوُلاة وقسوة المتجبّرين، فأين عائض القرني وأمثاله من هؤلاء؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى