تقارير وإضاءات

ألمانيا والعالم الإسلامي على مفترق طرق

ينبع تعقيد وتشابك العلاقة بين ألمانيا والعالم الإسلامي من تعقيدات سياسة ألمانيا الخارجية من جهة، ومن تداخل المشهد على مستوى العالم الإسلامي في الجهة المقابلة.

اللافت هنا أنه لا يمكن مقارنة حال ألمانيا بدول استعمارية ذات سياسة خارجية معالمها ثابتة على مدى فترات زمنية طويلة كبريطانيا وفرنسا؛ لأن السياسة الخارجية الألمانية تجاه العالم الإسلامي لم تسر يوما على نسق ثابت، إذ تبدو واضحة حينا، مرتبكة أحيانا أخرى. والسبب هنا طغيان عوامل التأثير الخارجي على العامل الداخلي -الذي تقوده ثنائية الصناعة والطاقة- وبالتالي على القرار السياسي.

لمحة تاريخية
أظهرت الحملات الصليبية المتعاقبة بمشاركة الكيانات الألمانية -إمبراطوريةً كانت أو ملكيةً- قوة التأثير الخارجي ممثلا في الكنيسة البابوية، وكان ترهيب البابا وترغيبه في تلك الحقبة كافييْن لإقناع المترددين من ملوك أوروبا للانضمام لحملاته الاستعمارية المغلفة بلبوس الدين.

 

“مقاربات الماضي تظهر توازن الخطاب الألماني الذي كان يخاطب الأنظمة والشعوب الإسلامية معا، بالمقارنة مع تركيزه اليوم على الأنظمة وابتعاده عن الشعوب، وهو خطاب يؤخذ عليه وضع العديد من حركات المقاومة في خانة الإرهاب، في وقت يُتهم فيه الألماني بالتعاطف مع حزب العمال الكردستاني رغم تصنيفه إرهابيا”

وذلك رغم تفاهة مبررات تهييج القوم حينها، فدعاوى الأمس بإنقاذ المقدسات ونصارى الشرق من بطش من يصفونهم بـ”الكفرة المحمديين”، لها ما يقابلها اليوم من دعاوى وأد الإرهاب لدى البعض، وإنقاذ العتبات المقدسة من التكفيريين لدى البعض الآخر.

نظرة ألمانيا تجاه الشرق العربي والغرب الأندلسي في العصور الوسطى كان منبعها إذن زواج مقدس بين الكنيسة ومؤسسة الحكم، توغل فيها كل طرف في العمق الإستراتيجي للآخر، قبل تحسن العلاقة بعد فترة من الحملة التأديبية التي شنها السلطان سليمان القانوني على ملوك ألمانيا الذين آزروا النمساويين خلال حصار العثمانيين فيينا.

خروج الكنيسة من دائرة صنع القرار السياسي وتنافس ألمانيا وجيرانها عززا ارتباط الألمان والعثمانيين لاحقا بعلاقات وثيقة وصلت لدرجة التحالف أحيانا، مما ساعد على سقوط عدو مشترك هو الإمبراطورية الروسية بين براثن الثورة البلشفية عام 1917، فقد شكلت الإمبراطوريتان العثمانية والألمانية عائقا صلبا في العمق الأوروبي حال دون وصول إمدادات الإنجليز والفرنسيين (خلال الحرب العالمية الأولى) إلى حليفهم الإمبراطور الروسي.

ودفع التنافس الاستعماري المحموم مع بريطانيا وفرنسا ألمانيا للوقوف بقوة مع فكرة الوحدة الإسلامية أيام السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وفق ما اعتبره خبير العلاقات الألمانية الإسلامية د. عبد الرؤوف سنو “تلاعبا بالورقة الإسلامية إلى حد إعلان إمبراطور ألمانيا صداقته للمسلمين في العالم، متحديا نفوذ فرنسا وبريطانيا ببلاد الشام، ليعود على الألمان بمنافع اقتصادية ضخمة”.

مقاربات الماضي تظهر توازن الخطاب الألماني الذي كان يخاطب الأنظمة والشعوب الإسلامية معا، بالمقارنة مع تركيزه اليوم على الأنظمة وابتعاده عن الشعوب، وهو خطاب يؤخذ عليه وضع العديد من حركات المقاومة في خانة الإرهاب، في وقت يُتهم فيه الألماني بالتعاطف مع حزب العمال الكردستاني رغم تصنيفه إرهابيا.

كما يؤخذ على الألمان دعمهم لدولة الكيان الصهيوني منذ تأسيسها على حساب شعب فلسطين، من باب عدم جواز حل مشاكل ألمانيا مع رعاياها من اليهود على حساب شعب آخر، وعدم جواز دعم الاحتلال الصهيوني بالمليارات وترسانات الأسلحة، واعتبار مقاومة الاحتلال في نفس الوقت إرهابا. مثل هذا الدعم يجعل ألمانيا شريكة في مأساة الإبادة والتشريد الفلسطينية من ناحية قانونية لا تسقط بالتقادم.

الموقف الألماني من الإسلام
يمثل الاستشراق محطة هامة من محطات العلاقة بين ألمانيا والعالم الإسلامي منذ العصور الوسطى، ونتيجة له تم هضم الإرث العلمي والحضاري الإسلامي الأندلسي والمشرقي الذي قامت عليه الثورة الصناعية الأوروبية، وعلى رأسها صناعة المحركات التي برع فيها الألمان منذ نهايات القرن التاسع عشر، بالاستفادة من إبداع العالم الأندلسي الجزري الذي اخترع أول محرك في التاريخ.

لذا لم يكن تصريح الرئيس الألماني السابق كريستيان وولف بأن الإسلام جزء من النسيج الذي يتكون منه المجتمع الألماني خارج السياق، ومع ذلك استقال الرجل من منصبه إثر تداعيات ضجة مستغربة؛ قصر فيها مهاجموه من وسائل الإعلام والساسة جذور ألمانيا على المسيحية واليهودية!

 

“هناك ارتباك في السياسة الألمانية عندما يتعلق الأمر بالإسلام تحديدا، مما يطرح السؤال: أين تقف ألمانيا من الإسلام؟ والمواقف لا التصريحات تقدم الجواب. سياسيا وإعلاميا تقف ألمانيا اليوم في موقف هو أقرب للعلمانية الفرنسية اليمينية المتشددة، منه للعلمانية السويدية والكندية المنفتحة المتسامحة”

المفارقة أنه بعد سنوات قليلة، ومع ضغط قطاع الصناعة لاستيعاباللاجئين السوريين كأيد عاملة على غرار العمالة المغربية الوافدة بعدالحرب العالمية الأولى، والتركية الوافدة بعد الحرب العالمية الثانية؛ تعدل الخطاب، وتسابق جل مهاجمي وولف -ومنهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل- للإدلاء بنفس ما صرح به الرجل دون ضجيج إعلامي هذه المرة.

مثل هذا الموقف يُبرز مدى ارتباك السياسة الألمانية عندما يتعلق الأمر بالإسلام تحديدا، ليُطرح السؤال: أين تقف ألمانيا من الإسلام؟ والمواقف لا التصريحات تقدم الجواب. سياسيا وإعلاميا تقف ألمانيا اليوم في موقف هو أقرب للعلمانية الفرنسية اليمينية المتشددة، منه للعلمانية السويدية والكندية المنفتحة المتسامحة. اعتراف ألمانيا بالإسلام وإدماجه في منظومة التعليم تأخر كثيرا مقارنة بدول النمسا وبلجيكا والدانمارك المجاورة.

وذلك رغم ارتفاع نسبة المسلمين في هذا البلد، وإسهاماتهم في جوانب الاقتصاد والصناعة والثقافة والسياحة، ورغم مصالح ألمانيا التجارية الضخمة في العالم الإسلامي، ورغم تشكيل السياحة العلاجية العربية موردا له وزنه في هذا البلد، ورغم ارتفاع الصوت بأهمية الاندماج الإيجابي لمختلف مكونات المجتمع.

سمحت ألمانيا في السنوات الأخيرة بتعليم اللغات العربية والتركية والبوسنية والتربية الإسلامية في المدارس الحكومية إن توفر عدد كاف من الراغبين فيها. ومع ذلك سيّست بعض الولايات هذا الملف معلقة إياه فترة المسيرات ضد الانقلاب العسكري التركي، بحجة أن مؤسسة ديانت التركية بألمانيا -المساهمة ببرامج التربية الإسلامية- مؤيدة للديمقراطية التركية.

نجاح تركيا في تقديم نموذج ديمقراطي عصري يحترم القيم الإسلامية، وصوتها المسموع عالميا، وسعيها منذ عقود للانضمام للاتحاد الأوروبي؛ يضع العلاقة الألمانية التركية في صلب علاقات ألمانيا مع العالم الإسلامي.

والملاحظ هنا هو أن تعاطي ألمانيا اليوم مع هذا الملف متباين شكلا وموضوعا مع تعاطيها معه أيام ماضيها الإمبراطوري، بينما لا تجد اختلافا كبيرا في تعاطي أتراك اليوم والأمس في ملف العلاقة مع ألمانيا.

فبعدما كانت الدولة العثمانية هي العمق الإستراتيجي لألمانيا الإمبراطورية نحو المياه الدافئة ومصادر الطاقة وأسواق الهلال الخصيب والهند والصين شرقا؛ يفضل الشريك الألماني تركيا اليوم ضعيفة مفككة، بسقف إستراتيجي لا يعدو فوهة مدفع في وجه الأطماع الروسية جنوب شرق أوروبا، أو صنبورا يُقفل دون جحافل اللاجئين غربا. ولعل تغير خريطة تحالفات ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية هو ما أفرز تغير النظرة تجاه تركيا من حليف إلى تابع، رغم شراكة الطرفين في حلف الناتو.

تحدي إعادة تعريف المصالح
مصالح ألمانيا الخارجية عمودها الاقتصاد باعتبارها القوة التصديرية رقم اثنين في العالم، وهاجسها الطاقة باعتبار الطاقة الكهربائية المتولدة من أنهارها لا تغطي ربع حاجة مصانعها وتجمعاتها، ومؤرقها الأمن على ضوء التهديد الروسي من الشرق، وورقة الديموغرافيا على ضوء الحاجة لأيد عاملة شابة ماهرة في مجتمع عجوز.

عدم تنوع مصادر الغاز واعتماد ألمانيا على الغاز الروسي -الذي أظهرته الأزمة الأكرانية كورقة ابتزاز- نقطة ضعف. ومن دروس تلك الأزمة أهمية الاعتماد على حليف قوي تصل أوروبا من خلاله إلى مصادر الطاقة وأسواق الشرق، وهنا تبرز أهمية الشريك التركي الجيوسياسية.

وفي هذا الصدد؛ أثبتت الأزمتان العراقية والسورية حاجة ألمانيا والأوروبيين لرؤية مغايرة تراعي المصالح الإستراتيجية على المدى الطويل، أساسها أن الحفاظ على أوروبا مستقرة بمصادر طاقة متنوعة مقدم على المكاسب الآنية المتحققة من إطالة تدمير الشرق عبر تجارة أسلحة، تشكل مكوناتها الألمانية الدقيقة أهمية بالغة.

 

“تبدو ألمانيا اليوم أحوج من أي وقت مضى لإستراتيجية جديدة في سياستها الخارجية، قادرة على منحها ثقلا سياسيا أكبر على المسرح العالمي يتناسب مع ثقلها الاقتصادي، وبدونها تظل مهمة الدفاع عن مصالحها الاقتصادية -كثاني أكبر مصدّر في العالم بعد الصين- بالغة الصعوبة وعرضة للابتزاز”

ومثلما لم تقدم المظلة الأميركية لأوروبا الحماية من التوغل الروسي شرق أكرانيا، لم يحل انسياق الجميع خلف الرغبة الأميركية في إدامة تدمير العراق وسوريا وأفغانستان دون العصف باستقرار أوروبا تحت وطأة موجات اللجوء، وحملات الكراهية والتحريض التي صعدت باليمين الأكثر تطرفا بشكل يهدد بانهيار الاتحاد الأوروبي ذاته، ويهدد برحيل النخب الحاكمة المندفعة وراء الجموح الأميركي نفسه؛ تلك النخب التي رفضت العرض التركي بإقامة مناطق آمنة للمدنيين من القصف.

وهو العرض الذي أثبتت الأيام أنه مصلحة أوروبية في المقام الأول، والدليل هو موجات النزوح التي اجتاحت أوروبا في أعقاب مجازر الإبادة السورية والعراقية معمقة أزماتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن تحالف اليمين الشعبوي الأوروبي مع الغريم الروسي، وبداية تفكك الاتحاد الأوروبي بالخروج البريطاني، واستكمال الحصار الروسي لأوروبا على صعيد الطاقة بوضع اليد على غاز المتوسط جنوبها.

وفي المقابل لم يجن من وقف من الأوروبيين مع الانقلاب العسكري التركي سوى استقرار النظام السياسي التركي، مقابل فشل العقوبات الأوروبية على روسيا، مع بحث الأتراك عن مصالحهم في الشرق كما في الغرب.

صحيح أن التنافس الاستعماري الذي خرجت منه ألمانيا خاسرة في حربين عالميتين، ترتبت عليه استحقاقات كشهادة حسن سلوك تبدد مخاوف المنتصرين، وصحيح أن سياسة ألمانيا الخارجية محكومة -في بعض جوانبها- بالتبعية لحلفاء اليوم أعداء الأمس كالطرف الأميركي.

وصحيح أن لعضوية الاتحاد الأوروبي محددات تطال السياسة الخارجية للدول الأعضاء، ولكن الصحيح أيضا أن دور ألمانيا المحوري لم ينجح في حمل الاتحاد على انتهاج سياسة خارجية أكثر استقلالا، على ضوء الحاجة لمظلة أميركية في وجه تطلعات روسيا التوسعية في الشرق وإبقاء السوق رهنا للغاز الروسي في الشرق والغرب.

لهذه الأسباب تبدو ألمانيا اليوم أحوج من أي وقت مضى لإستراتيجية جديدة في سياستها الخارجية، قادرة على منحها ثقلا سياسيا أكبر على المسرح العالمي يتناسب مع ثقلها الاقتصادي، وبدونها تظل مهمة الدفاع عن مصالحها الاقتصادية -كثاني أكبر مصدّر في العالم بعد الصين- بالغة الصعوبة وعرضة للابتزاز.

التحدي الآخر يرتبط بعلاقات ألمانيا بالعالم الإسلامي تحديدا، وهو إعادة تعريف المصالح الحيوية المشتركة للطرفين على المدى البعيد، على قاعدة تعايش حضارات -بدلا من صراع حضارات تقرع طبوله مواقف الساسة والإعلام- والعمل على بلورة رؤية شاملة تؤطر العلاقات المشتركة بشكل يراعي التغيرات الطارئة على مسرح الأنظمة الآنية وشعوبها المتململة الثائرة هنا أو هناك، وحركات المقاومة المعبرة عن تطلعات شعوبها، بعيدا عن المناقشات العقيمة من قبيل خطر أردوغان وحماس وأحرار الشام والأكاديميات السعودية في الغرب.

ولا بد هنا من تسمية الأشياء بأسمائها؛ فدعم أنظمة دكتاتورية أو انقلابات عسكرية، واستقبال القتلة -كزعيم الانقلاب المصري- لا يليق بأي بلد أوروبي يمنح دستوره الشعب حق الثورة إن تهدد النظام الديمقراطي للدولة، وإن محاصرة أسباب اللجوء من الجنوب إلى الشمال بمساعدات تنموية ألمانية في مجتمعات عالم ثالث محلية، لا تستوي مع نهب منظم بالجملة يمارسه حلفاء ألمانيا الاتحادية.

وإن الحرب الصادقة على تنظيم الدولة لا تستوي مع دعمه عسكريا ولوجستيا على أيدي دول حليفة للدولة الألمانية، وإن أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام أتباع ديانات سماوية لا مجال للتمييز بينهم، فلا مناص من محاصرة خطاب وثقافة الكراهية عبر حظر التحريض على الجميع بالسوية.
(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى