كتاباتكتابات مختارة

لماذا كتب العقاد “العبقريات”؟

بقلم د. غازي التوبة

يعتبر العقاد من أكبر الكتّاب العرب في القرن العشرين، وأغزرهم إنتاجاً، وسمّاه سعد زغلول “جبار المنطق”، وكان متنوع الإنتاج فكتب الشعر، وأنشأ مدرسة شعرية سُميت “مدرسة الديوان”، وشكلها مع اثنين آخرين هما: عبد الرحمن شكري، وإبراهيم المازني، لكن أبرز ما كتبه هو مجموعة مؤلفات تحت مسمى “العبقريات”.

وقد تحدّث فيها عن عبقريات إسلامية من مثل: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان، وعلي، وآخرين رضي الله عنهم. كما كتب عن عبقريات أخرى غير إسلامية من مثل: فرنكلين برناردشو، غاندي.. إلخ، والسؤال الذي يَرِد: لماذا كتب العقاد العبقريات؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من أن نجيب على سؤالين قبل ذلك وهما: بماذا يؤمن ويعتقد العقاد؟ ومتى كتب العبقريات؟

العقاد هو ابن ثورة 1919م التي قادها سعد زغلول، والتي قامت بعد الحرب العالمية الأولى مطالبة باستقلال مصر عن الاحتلال الإنجليزي، وقد أثمرت هذه الثورة نظاماً ديمقراطياً في مصر، وتمثّل هذا النظام الديمقراطي في دستور عام 1923م، وقد حدد هذا الدستور سلطات الملك، وانبثق عنه برلمان ترأسه سعد زغلول عام 1926م، كما كان العقاد أحد أعضاء هذا البرلمان، كما أعطى الدستور للشعب حقوق تشكيل الأحزاب، وإنشاء الصحف، وحرية الرأي، والمظاهرات، وتشكيل النقابات، والقيام بالإضرابات.. إلخ.

وإذ أردنا أن نتساءل بماذا يؤمن العقاد؟ نقول إن العقاد يؤمن بأمرين: 

تأثر العقاد في حديثه عن العبقريات ببعض المدارس الأوروبية التي تقدس الأفراد والطبائع الفردية، وتفسر مختلف حوادث التاريخ على هذين الأساسين

الأول: يؤمن العقاد بالنظام الديمقراطي إيماناً كاملاً، ويؤمن بأنه النظام الأمثل الذي سينقذ الشعب المصري، وينقله نقلة حضارية بعيدة، ويعتقد أن النظام الديمقراطي الإنجليزي هو النظام الأمثل الذي يجب أن تحتذيه مصر. ولم يؤمن بالنظام الديمقراطي إيماناً نظرياً فقط، بل تعداه إلى الموقف العملي، ودخل السجن دفاعاً عن النظام الديمقراطي، وذلك عام 1930م، عندما هاجم وزارة إسماعيل صدقي التي عطلت الدستور، فشنّ العقاد عليها حملة صحفية، فقدمته الوزارة إلى المحاكمة، وحُكم عليه بالسجن وقضى تسعة أشهر فيه، وعندما خرج من السجن توجه إلى قبر سعد زغلول وألقى قصيدة قال فيها:

وكنت جنين السجن تسعة أشهر فها أنذا فى ساحة الخلد أولد
عداتي وصحبي لا اختلاف عليهم سيعهدني كل كما كان يعهد

الثاني: يؤمن العقاد بالفرد، وبدور الفرد في المجتمع، متأثراً بفيلسوفين هما: شوبنهو ونيتشة، ويعتقد العقاد بأن الذاتية هي الغاية من الرقيّ، وأن الرقيّ إنما هو الانتقال من وجود مبهم سائب إلى وجود ذات، إلى وجود يعلم ذاته. وطبّق ذلك على الانتقال من الجماد إلى عالم النبات إلى عالم الحيوان إلى عالم الإنسان.

ووقف العقاد موقفاً منحازاً وغير متوازن إلى جانب الفرد على حساب الجانب الجماعي في الفرد والأمة، نتيجة من نتائج إيمانه بالديمقراطية التي تقوم على الفرد كأصل من أصولها، وتقوم على إطلاق حرية حياة الفرد دون حدود، وتعتبر أن الفرد فقط هو الباني والمحرك للتاريخ. بعد أن ألقينا الضوء على جوانب من البناء الفكري للعقاد، نسأل: متى كتب العقاد عبقرياته؟ كتب العقاد عبقرياته غداة أن أصبح النظام الديمقراطي مهدداً على المستويين العالمي والمصري.

لقد هدد النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا النظام الديمقراطي على مستوى العالم في أوروبا وأمريكا، وبالفعل نشبت الحرب العالمية الثانية عام 1939م بين هذين النظامين، كما هدد النظام الديمقراطي في مصر ثلاث تيارات صاعدة: الإسلاميون بقيادة الإخوان المسلمين، والحركات اليسارية بقيادة الحزب الشيوعي المصري، والحركات الفاشية بقيادة حزب مصر الفتاة، في هذا الوقت الذي أصبح ركنا إيمان العقاد: الفرد والديمقراطية مهددين في داخل مصر وخارجها، تصدّى للتيارات الصاعدة بالمحاربة، فحارب كل تيار بصورة مختلفة عن الآخر. في ضوء المواجهة مع الشيوعية، كتب العقاد عدداً من الكتب فنّد فيها النظرية الماركسية، وبيّن أخطاء الشيوعية على المستوى العملي والتطبيقي، ومنها: الشيوعية والإنسانية، الدين أفيون الشعوب.. إلخ.

وفي مواجهة النازية والفاشية كتاب العقاد “هتلر في الميزان” عام 1941م مهاجماً النظام النازي في ألمانيا، ومُدافعاً عن الديمقراطية الإنجليزية، وقد تبنته السفارة البريطانية في مصر، وطبعت منه آلاف النسخ، ووزعته في كل أنحاء العالم العربي كوثيقة في الدعاية لها في حربها مع هتلر. ودعا العقاد في هذا الكتاب الحكومة المصرية والشعب المصري إلى الوقوف إلى جانب إنجلترا في حربها مع هتلر، لأنه يرى أن مصر يجب أن تقف إلى جانب الديمقراطية في وجه الديكتاتورية، ناسياً أو متناسياً سلسلة الجرائم التي ارتكبها الإنجليز في حق مصر وشعبها وحق الأمة الإسلامية، في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية…إلخ. وفي مواجهة التيار الإسلامي والإخوان المسلمين، كتب العقاد “العبقريات” التي شملت الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعدداً كبيراً من الصحابة ومنهم أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وعائشة رضي الله عنهم. فكيف أراد أن يواجه بهذه العبقريات التيار الإسلامي؟

تأثر العقاد في حديثه عن العبقريات ببعض المدارس الأوروبية التي تقدس الأفراد والطبائع الفردية، وتفسر مختلف حوادث التاريخ على هذين الأساسين، وأشار العقاد في كتاب العبقريات إلى مدرسة العالم الإيطالي لومبروزو، التي توصلت بعد التجربة والدراسة والمقارنة أنّ للعبقريات علامات لا تخطئها على صورة من الصور في أحد من أهلها. فيكون العبقري طويلاً بائن الطول، أو قصيراً بائن القصر، ويعمل بيده اليسرى أو بكلتا اليدين، ويلفت النظر بغزارة شعره، أو بنزارة الشعر على غير المعهود، ويكثر بين العبقريين من كل طراز جيشان الشعور، وفرط الحس، وغرابة الاستجابة للطوارئ، فيكون فيهم من تفرط ثورته، كما يكون فيهم من يفرط هدوؤه.. إلخ.

وقد طبّق معطيات هذه المدرسة على العبقريات التي درسها، وسأشير في هذا المقال -لضيق المجال- إلى جانب من حديثه عن عبقرية أبي بكر الصديق دون العبقريات الأخرى كعبقرية الرسول وعمر وعثمان…إلخ، والتي فصّلت الحديث عنها في كتابي “الفكر الإسلامي المعاصر: دراسة وتقويم”، فوصف العقاد أبا بكر فقال: “كان أبوبكر -كما رأينا- رجلاً عصي المزاج، دقيق البنية، خفيف اللحم، صغير التركيب. تكوين يغلب على أصحابه أحد أمرين: إن كانوا من كرام النحيزة فهم مطبوعين على الإعجاب بالبطولة، والإيمان بالأبطال. وإن كانوا من لئام النحيزة فهم مطبوعون على الحسد والكبر”. لذلك اعتبر العقاد أن إيمان أبي بكر الصديق عائد إلى إعجابه ببطولة محمد (صلى الله عليه وسلم)، مشدوهاً أمامها، مسحوراً بها، مقلداً له في كل أمر. ولكن اعتبار العلاقة بين أبي بكر والرسول (صلى الله عليه وسلم) قائمة على الإعجاب بالبطولة تصوير مجزوء وغير دقيق، وكذلك محاولة تفسير تصرفات أبي بكر الصديق باتباع الرسول وتقليده بأنها منطلقة من هذا العامل تفسير محدود وغير محيط.

ليس من شك بأن الرسول جدير بالإعجاب من قبل أبي بكر لأنه الإنسان الأكمل في كل شيء على وجه البسيطة منذ الأزل وإلى قيام الساعة. لكن أين دور الإسلام في بناء شخصية أبي بكر؟ هذا الإسلام الذي آمن به أبوبكر الصديق واستسلم له، والذي بنى عقله بناءً سليماً في الإيمان بالله الواحد الأحد، وطهره من خرافات وأوهام الشرك، وبنى قلبه بناءً سليماً في تعظيم الله، ورجاء جنته، والخوف من ناره، فجعله خلقاً آخر، فأصبح شجاعاً مقداماً مضحياً بماله وشخصه في سبيل الإسلام، كما أظهرت سيرته ذلك في عدة مواقع وأبرزها الهجرة مع الرسول (صلى الله عليه وسلم).

من المؤكد أن هناك عاملاً ثالثاً أغفله العقاد في بناء شخصية أبي بكر الصديق، وهو تربية الرسول (صلى الله عليه وسلم) له، وهو الذي عُرف أنه خير مُربّ لأصحابه، يصقل مواهبهم، ويُنمّي محاور القوة، وجوانب الخير عندهم من خلال علم دقيق بإمكاناتهم ومعادنهم الممتازة. لذلك فنحن نؤمن بأن ثلاثة عوامل صاغت عبقرية أبي بكر الصديق، وهي: معدنه الممتاز من جهة، والإسلام العظيم من جهة ثانية، وتربية الرسول (صلى الله عليه وسلم) له من جهة ثالثة، وليس عاملاً واحداً كما ركّز عليه العقاد، وهو المعدن الممتاز والعوامل الوراثية، انتصاراً لإيمانه بالفرد والديمقراطية.

الخلاصة: استعرضنا مسيرة العقاد، فوجدناه مؤمناً بالديمقراطية وبالفرد، وسخّر حياته من أجلهما، لذلك حارب الجهات التي هددت الديمقراطية منذ الحرب العالمية الثانية في داخل مصر وخارجها، فكتب “هتلر في الميزان” في مواجهة النازية، وكتب كتباً متعددة في مواجهة الشيوعية، وكتب “العبقريات” في مواجهة التيار الإسلامي.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى