مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٦٣) .. فروق قرآنية دقيقة

جواهر التدبر (٢٦٣)

فروق قرآنية دقيقة

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– بين الاستغفار والتوبة:
مع اتصال مفهومي الاستغفار والتوبة بمحو الذنوب والتخلص منها، فإنه يوجد فرق دقيق بينهما وليسا شيئا واحدا، كما يقول دعاة الترادف، ويتضح ذلك من كلام شعيب عليه السلام لقومه: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه..} [هود: ٩٠]، فترتيب المصطلحين والفصل بينهما بحرف العطف (ثم) الذي يفيد المغايرة ووجود فرق زمني بين الأمرين، ويبدو لي أن الاستغفار يتجه نحو الماضي، بينما تتعلق التوبة أكثر بالمستقبل، حيث التسلح بإرادة التصحيح والعزم على عدم الارتكاس في المعصية مرة أخرى، وقد يكون بين المفهومين عموم وخصوص، فالاستغفار عملية تخلّص من الذنوب التي اقترفت في الماضي، بينما تشتمل التوبة على هذا الأمر بجانب الندم على اقترافها وتجفيف منابعها، والعزم الأكيد على عدم العودة إليها بأي حال من الأحوال، وتتضمن التوبة أيضا رد الحقوق إلى أصحابها أو استسماحهم، وكأن الاستغفار يتمحور حول حقوق الله بينما تتمحور التوبة حول حقوق الإنسان!

– الفتنة والابتلاء:
قال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} [التغابن: ١٥]، فلماذا قال فتنة ولم يقل ابتلاء مع أن كليهما امتحان؟
لأن الفتنة أخطر من الابتلاء، وإمكانية النجاح فيها أصعب، وخاصة أنها متصلة بأبرز صنفين من الأصناف التي تشكل زينة الحياة الدنيا وهما الأموال والأولاد، ولذلك ختم الآية بذكر الأجر العظيم، وكان المولى عز وجل قد قرر في الآية التي قبلها عداوة بعض الأبناء والأزواج!

– عدل التوصيف:
من المعلوم أن مصطلحات القرآن دقيقة جدا، حتى في ما يظنه الناس ترادفا، فهناك فروق دقيقة بين الكلمات المستخدمة بنفس المعنى عند الناس، مثل كلمتي الكذب والإفك.
فالكذب هو عدم الصدق في القول، والكذب نسبي مثل كل الموبقات بالطبع، وحينما تتسع المسافة بين ما قاله الكذاب وما هو عليه المكذوب عليه؛ يكون الكذب قد وصل إلى أبعد مداه وأقذر صوره، ولذلك أطلق الله على حادثة قذف السيدة عائشة رضي الله عنها بالزنا مصطلح الإفك، فقال تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} [النور: ١١]، فقد (جاؤوا) بإشاعة الإفك من عند أنفسهم، ثم إن عائشة أعلم نساء المسلمين وزوجة أحب الخلق إلى الله وأتقاهم، وابنة أحب الخلق إلى قلب رسول الله وأقربهم إليه، ومن أصلح نساء العالمين، ومن هنا فقد توعد الله من أطلق الفرية عليها بعذاب عظيم؛ حتى تتناسب عظمة العذاب مع عِظم الجُرم.
ويبدو لي أن جريمة الإفك تتضمن أكثر من بُعد أو جرم، مثل السحر الذي صنعه سحرة فرعون ضد موسى والذي وصفه الله بالإفك فلم يكن عملية بسيطة وإنما عملية معقدة، ثم إن الإفك لا يصدر إلا من مجموعة من الناس بحسب استقرائي لآيات القرآن الكريم، مثل المنافقين الذين شهد الله بأنهم كاذبون ووصفهم بأنهم العدو محذرا منهم رسوله، وختم الآية بالدعاء عليهم واستنكار ما وصلوا إليه من افتراء وانحطاط وإجرام: {قاتلهم الله أنى يؤفكون} [المنافقون: ٤].
ومما يؤكد ما قلناه أن الإفك لم يذكر مضافا إلى فرد إلا في موضعين فقط، ولهما سياقهما، قال تعالى: {تنزّل على كل أفّاك أثيم} [الشعراء: ٢٢٢]، وقال: {ويل لكل أفاك أثيم} [الجاثية: ٧]، وعند تمعن الآيتين يتضح أن (الأفاك) المذكور فيهما اسم جنس يشمل كل أفاك وليس فردا بعينه، يعني كل من يلجأ للإفك، ثم إنه استخدم كلمة (أفّاك) وهي على وزن فعال التي تعرف بأنها من صيغ المبالغة في اللغة العربية، وبعد ذلك فقد أضاف له وصفا يزيده قبحا وهو (أثيم) أي كثير الإثم، لأن أثيم على وزن فعيل!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى