مقالاتمقالات المنتدى

 تأملات في فقه النصر والتمكين (5)

 تأملات في فقه النصر والتمكين (5)

بقلم: د. حسن السلهاب( خاص بالمنتدى)

وقفة مع نموذج أخر من نماذج التمكين لعباد الله المؤمنين، وقفة فيها من العبر والعظات التي تٌساعدنا على رؤية من تم تمكينه كيف يتصرف وكيف يفعل.
يقول الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) [الكهف 84- 83].
تأملت قول الله عز وجل لذي القرنين (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أن الله عز وجل أعطاه إمكانيات يستطيع بها أن يصرف كل أموره التي يريدها. لماذا؟ لأنه مأمون على تصريف الأمور حسب منهج الله تبارك وتعالى، فصار الأمر أنه أٌعطي إمكانيات لكل غرض يريده. ولم يقف الأمر عند ظاهر التمكين، بل تم إعطاء ذي القرنين لكل شيء سببا يوصله إلى ما يريده لأنه يمضي على مراد الله وليس على مراد هوى نفسه. وحينما سمع ذلك ذي القرنين كان عمله أنه اتبع الأسباب ليصل إلى الغايات بتقدير الله عز وجل. فلا يصح أبدا للمؤمن أن يترك الأسباب ويزعم أنه سيصل إلى الغايات، بل نعمل ونأخذ بكل الأسباب ثم نتوكل على الله عز وجل، وحتما سنصل إلى الغايات.
وتأملت أيضا قوله تعالى (كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)، هل هذا يفيد الحصر أم يفيد التنوع والكثرة؟ نعم أخي المؤمن، إنها تٌفيد التنوع والكثرة، فصارت الغايات والمقاصد التي يريد أن يصل إليها ذي القرنين يتخذ لها الأسباب التي تليق بها وتساعده على الوصول لتلك الغايات. فالمسلم لا يجب فقط أن يأخذ بالأسباب لمجرد أنه أخذ بها، فقد تكون وسيلتك لا تتناسب أبدا مع المقاصد التي تريد أن تصل إليها. أما ذي القرنين، فقد أتخذ أفضل الأسباب ليصل إلى المقاصد والغايات. لذلك يقول العلماء أنه أخذ سببا تلو سبب وهكذا حتى وصل إلى مراده. لذلك المؤمن ينوع في الأسباب ويختار أفضلها ويستعين بعد الله عز وجل بمن هم على دراية وكفاءة بتنفيذ تلك الأسباب.
يقول المراغي في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) «أي: مكنا له أمره من التصرف فيها كيف شاء، بحيث يصل إلى جميع مسالكها، ويظهر على سائر ملوكها، وآتيناه من كل شيء أراده من مهام ملكه وبسطة سلطانه طريقًا يوصله إليه، فآتيناه العلم والقدرة والآلات التي توصله إلى ذلك».
ويتضح من خلال كلام المراغي رحمه الله، أن تمكين الله سبحانه وتعالى لذي القرنين هو تمكين خاص كلي.

ولنضرب أمثلة للمواقف التي ذكرها القرآن الكريم في اتباع ذي القرنين للأسباب:
أولا: حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) . بعد أن بلغ مغرب الشمس، ووصل إلى القوم وقرر ماذا سيفعل، ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، لأن المؤمن يأخذ بالأسباب في كل حالته، بل وأفضل الأسباب.
ثانيا: حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
انتقل ذي القرنين في تلك المرحلة إلى مكان أخر، وهو مَطْلِعَ الشَّمْسِ، ووجد قوما لهم حالة مختلفة، فكان العمل بالأسباب ليحقق الغايات هو الأساس.
ثالثا: حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
وهنا مقصد أخر أنه بلغ بين السدين ووجد نوعية ثالثة من الناس، نوعية متواكلة تريد أن تدفع الأموال وفقط ولا يعملون من أجل التمكين، ولو كان الأمر كذلك ما وصل إلينا هذا الدين، فكان الصحابة يتصدقون ويجهزون الجيش ويخرجون أيضا في هذا الجيش لإعلاء كلمة الله عز وجل. ولذا كانت لفتة ذي القرنين لهم (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)، دعاهم للعمل والأخذ بالأسباب، وأرشدهم لخطة العمل ووزع عليهم المهام لكي يصلوا إلى الغاية والتي سيكون فيها تمكين في الأرض.
لذلك أخي المسلم، عليك أن تعلم أنه من سنن التمكين الأخذ بالأسباب، بل وكل الأسباب، ونستفرغ الجهد ونعمل بجد وننتقي أفضل وأحسن الأسباب ثم يكون الأمر كله بين يدي الله من قبل ومن بعد.

إقرأ أيضا:غزة.. والفزّاعة بتوسيع الحرب..!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى