تقارير المنتدىمتابعات

السعودية بين شعارات التوحيد وواقع الانحلال والتطبيع: من دولة التوحيد إلى دولة الترفيه

السعودية بين شعارات التوحيد وواقع الانحلال والتطبيع: من دولة التوحيد إلى دولة الترفيه

السعودية بين شعارات التوحيد وواقع الانحلال والتطبيع
من دولة التوحيد إلى دولة الترفيه

د. مصطفى منور

مدخل

قامت المملكة العربية السعودية على تحالف ديني وسياسي رفع شعارات حماية التوحيد ومحاربة الشرك والبدع. ارتكزت شرعية الدولة على تبني المنهج الوهابي المتشدد في العقيدة والسلوك، فمُنعت المظاهر المخالفة للتوحيد، وفُرضت الرقابة الدينية الصارمة عبر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

غير أنّ السعودية اليوم تشهد تحولًا جذريًا في توجهاتها الدينية والاجتماعية، حيث تراجعت الكثير من تلك الضوابط المحافظة تحت راية الانفتاح والاعتدال، لتحل محلها مظاهر ترفيهية وثقافية غير مسبوقة.

ففي العقد الأخير، اتسعت هامش الفعاليات الفنية والحفلات المختلطة، وتقلّص نفوذ المؤسسة الدينية التقليدية، مما أثار جدلًا واسعًا حول مدى محافظة الدولة على هويتها الإسلامية التي طالما تباهت بحمايتها.

وقد أفرز هذا التحول تناقضات صارخة، فعلى سبيل المثال: تمنع السلطات عددًا كبيرًا العلماء والدعاة من أداء شعائر الحج والعمرة بسبب الخلاف في الرؤى في القضايا السياسية أو الفكرية، ومن جهة أخرى تفتح أبواب البلد لزيارات وفود من اليهود والنصارى ضمن مسار تطبيع تدريجي بات ظاهرا للعلن خلال السنوات الأخيرة.

وبينما كانت السعودية بالأمس تتشدق بحراسة التوحيد، إذا بها اليوم تحتضن على مسارحها فعاليات يُسبّ فيها الله وتُنتهك المقدسات دون رادع. وفي الوقت الذي ترفع فيه راية التسامح مع الأديان وتمد الجسور مع غير المسلمين، نراها تُمعن في تشديد العداء تجاه الحركات والجماعات الإسلامية، لا سيما تلك المناهضة للاحتلال أو المناصرة لقضايا الأمة.

في هذا التقرير نستعرض أبرز مظاهر هذه التحولات المتناقضة، ونضعها في سياقها الشرعي والتاريخي.

١منع العلماء واستقبال الوفود اليهودية والنصرانية

رغم ادعاء السلطات السعودية مرارًا أنها لا تمنع أي مسلم من دخول الحرمين، تكشف الوقائع أن كثيرًا من الدعاة والعلماء وأصحاب التوجهات الإسلامية مُنعوا تعسفيًا من أداء الحج والعمرة خلال السنوات الأخيرة. وقد استخدمت الرياض ذريعةمحاربة الإرهابوالجماعات الإرهابيةلوضع قوائم سوداء تضم منتسبين لجماعات إسلامية تعتبرها المملكة معادية لها.

فعلى سبيل المثال، حظرت السلطات منذ عام 2013 دخول عدد من رموز التيار الإسلامي الكويتي، منهم الداعية الدكتور طارق السويدان، وذلك بسبب موقفه السياسي الرافض للانقلاب في مصر آنذاك. كما تشمل قوائم الممنوعين من الحج والعمرة في الكويت أسماء مثل الشيخ حجاج العجمي والدكاترة حامد العلي وشافي العجمي ونبيل العوضي، وجميعهم دعاة وأكاديميون بارزون. بل وصل الأمر إلى توقيف بعض أقاربهم أثناء محاولتهم أداء العمرة، كما حدث مع حسين المطيري الذي اعتُقل على الحدود السعودية ورُحّلت زوجته وأبناؤه، وأُبلغ أن أسرته ممنوعة من دخول المملكة مطلقًا. وليس الكويتيون وحدهم؛ فقد مُنع أيضًا معارضون إسلاميون من الإمارات والبحرين ومصر واليمن وغيرها من الحج، إما عبر قوائم مباشرة أو عبر التخويف من الاعتقال أو التسليم عند قدومهم للأراضي المقدسة.

وللسعودية سجلّ في استدراج بعض النشطاء والمعارضين بذريعة الحج ثم اعتقالهم، كما حصل مع المحامي المصري أحمد الجيزاوي عام 2012 الذي سُجن لدى وصوله للعمرة، وغيره كثير من العلماء والدعاة الذين لا يزال بعضهم في السجون السعودية حتى كتابة هذا التقرير.

ومن أحدث الأمثلة على تسييس منافذ الحرمين: قيام السلطات بمنع العالم النيجيري البارز الدكتور أحمد أبي بكر جومي من أداء الحج لعام 2025 رغم حصوله على تأشيرة رسمية ووصوله فعليًا إلى مطار المدينة المنورة. ولم تُبدِ السلطات أي مبرر قانوني لقرار إعادته من المطار، سوى إبلاغه بشكل غير رسمي بأنالمملكة لا ترغب في دخوله“. وقد صرّح الشيخ جومي لاحقًا أن المنع جاء على خلفية آرائه السياسية وتضامنه العلني مع القضية الفلسطينية.

هذا المثال يؤكد استخدام السلطات السعودية سلطة إدارتها للحرمين الشريفين لتحقيق مكاسب سياسية، رغم معرفتها الكاملة أنه لا يجوز لها شرعًا ولا قانونًا منع مسلم من الحج لمجرد تعبيره عن رأي ولو خالف به المزاج السياسي لهم. المفارقة أن هذه الإجراءات تُبرَّر ضمنيًا بحجةتأمين الحرمين، بينما يُستقبل في المقابل ضيوف من غير المسلمين على أعلى المستويات الرسمية.

ففي السنوات الأخيرة، انفتحت السعودية بشكل غير مسبوق على زيارات وفود يهودية ومسيحية بدعوى الحوار والتسامح. ولعل أبرزها استقبال ولي العهد محمد بن سلمان وفودًا من القادة المسيحيين الإنجيليين الأمريكيين المؤيدين لإسرائيل. ففي نوفمبر 2018 زار وفد إنجيلي الرياض برئاسة الكاتب الإسرائيليالأمريكي جويل روزنبرغ، ثم تكرر اللقاء في سبتمبر 2019 للمرّة الثانية خلال أقل من عام.

وأفادت وكالة الأنباء السعودية حينها أن الجانبين أكدا علىأهمية تعزيز التعايش والتسامح ومكافحة التطرف، في محاولة لتحسين صورة المملكة في مجال التسامح الديني.

وقد تضمّنت تلك الوفود شخصيات معروفة بدعمها لإسرائيل، مما يمثل اختراقًا غير مألوف لسياسة السعودية التقليدية التي كانت تتجنب أي تطبيع علني مع الإسرائيليين. ولم يكن مستغربًا أن حضر تلك الاجتماعات شخصيات دينية رسمية كسعودية مثل الدكتور محمد العيسى (الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي) الذي تحاول السعودية إظهاره كرمز علمي شرعي منفتح داع إلى السلام والتعايش إلى جانب المسؤولين السياسيين، في دلالة على رغبة النظام في إضفاء غطاء ديني على خطوات الانفتاح هذه.

إلى جانب اللقاءات المغلقة، بدأت مظاهر التطبيع الناعم تطفو للعلن عبر محافل دولية استضافتها المملكة. ففي سبتمبر 2023 شهدت الرياض حضور وفد إسرائيلي رسمي لأول مرة للمشاركة في اجتماع لجنة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو. ورصدت وكالات الأنباء جلوس مسؤولين إسرائيليين على مقاعد وفدهم في قاعة المؤتمر، في مشهد كان من المستحيل تخيله قبل سنوات قليلة. ورغم أن المناسبة برعاية منظمة أممية، فإنه قد اعتُبر ذلك إشارة واضحة إلى أن الرياض تنفتح تدريجيًا على إسرائيل تحت ضغط وتشجيع من واشنطن التي تسعى لدفع البلدين نحو تطبيع كامل للعلاقات وهو الأمر الذي يشير إليه ترامب (الرئيس الأمريكي) ويسعى له كثيرًا.

ولعل ما يؤكد هذا الاتجاه أيضًا سماح المملكة منذ 2022 بعبور الطائرات الإسرائيلية مجالها الجوي بصورة منتظمة، وحتى الإعلان عن رحلات جوية مباشرة للحجاج المسلمين من إسرائيل لأداء مناسك الحجوهي خطوات تمت بالتنسيق مع الولايات المتحدة في سياق ما وُصف بأنه حقبة جديدة من التقارب الإقليمي.

إن المفارقة المؤلمة هنا، أن أبواب المملكة تُفتح على مصاريعها أمام الزوار من غير المسلمين باسم الانفتاح والتعايش، في حين تُصدّ أبواب الحرمين عن عدد من علماء ودعاة الأمة بدعوى تحفظات أمنية وسياسية. مما يظهر بشكل واضح إلى أن منهج القيادة السعودية الجديدة بات يقايض بين إرضاء الغرب وبين التضييق على الإسلاميين. فكلما خطت الرياض خطوة تقارب مع إسرائيل وحلفائها، صاحَبها تشديد الخناق على أصوات إسلامية داخلية أو إقليمية. وليس أدل على ذلك من أنه في الوقت الذي تستقبل فيه المملكة الوفود اليهودية والمسيحية بحفاوة، تمتلئ سجونها بالعشرات من الدعاة والمفكرين الإسلاميين الذين اعتقلوا لمجرد نقدهم السلمي أو عدم موافقتهم على النهج الجديد. كذلك امتد القمع السعودي ليطال نشطاء القضية الفلسطينية على أراضيها: فقد حكمت محكمة سعودية في أغسطس 2021 بالسجن على نحو 69 فلسطينيًا وأردنيًا مقيمين في المملكة، بتهم جمع أموال ودعم فصائل مقاومة تصنّفها الرياضإرهابية“. وشمل ذلك أحكامًا قاسية على كوادر من حركة حماس مثل ممثلها السابق في السعودية محمد الخضري (82 عامًا) الذي نال حكمًا بالسجن 15 عامًا رغم مرضه. ونددت حماس والجهاد الإسلامي آنذاك بهذه الأحكام ووصفتها بأنها جائرة وغير مبررة، مؤكدة أن أولئك لم يسيئوا للسعودية بشيء سوى نصرة قضيتهم الفلسطينية. مثل هذه الوقائع تعكس بجلاء كيف أصبحت بوصلة العداء الرسمي تتجه نحو الإسلاميين المقاومين بدلًا من المحتلين الغاصبين.

٢- من حماية التوحيد إلى رعاية الانحلال

لطالما تباهت الأسرة الحاكمة في السعودية بأنها حارسة التوحيد وحامية المقدسات، واعتبرت ذلك مصدر شرعيتها الأول. غير أن واقع اليوم يكشف عن تغيّر جذري في أولويات الحكم. فبدعوى الانفتاح والترفيه وتغيير صورة المملكة، تروج السلطات نفسها لما كان يُعتبر سابقًا من أكبر المحرمات. خلال سنوات معدودة، تحولت مدن المملكة إلى ساحات لحفلات غنائية صاخبة ومهرجانات ترفيهية مختلطة، برعاية رسمية مباشرة. الهيئة العامة للترفيه التي استُحدثت عام 2016 أخذت على عاتقها تنظيم عشرات الفعاليات الفنية والرياضات الاستعراضية وعروض الأزياء، متجاهلة الكثير من الضوابط الشرعية التي كانت مفروضة في المجتمع. وقد تراجع دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل كبير، حتى كاد يغيب صوتها تمامًا أمام طوفان الترفيه الجارف.

كانت نتيجة هذا التحول ظهور مشاهد غير معهودة فيبلاد الحرمين“. فمن الحفلات الغنائية الراقصة بحضور الآلاف من الرجال والنساء بصورة مختلطة، إلى العروض المسرحية والكوميدية التي لم تسلم أحيانًا من تجاوز الحدود الشرعية. بل إن بعض هذه الفعاليات بلغ حد الاستهزاء بالمقدسات الإسلامية جهارًا. ففي سبتمبر 2023 وخلال إحدى الحفلات ضمن موسم ترفيهي بالرياض تفوهت مغنية أجنبية بكلمات تتضمن سبًّا صريحًا للذات الإلهية والأنبياء على المسرح أمام الجمهور.

وقد أثار هذا المشهد غضبًا عارمًا في أوساط السعوديين والمسلمين عامة، حيث تصدّر وسم (#نرفض_ما_يحدث_في_بلاد_الحرمين) قائمة الترند في عدة دول تنديدًا بسياسات نشر الإفساد والانحلال برعاية رسمية في أرض المقدسات. ورأى عامة المسلمين أن ما جرى تجاوزٌ غير مسبوق وانتهاك لحرمة الدين في عقر دار الإسلام، مستنكرين صمت هيئة كبار العلماء إزاء ذلك التجديف العلني.

اللافت أن الحفل المذكور كان تحت إشراف هيئة الترفيه وبرعاية مباشرة من ولي العهد محمد بن سلمان نفسه، بل تشير بعض التقارير إلى أن كلمات الأغنية المُسيئة عُرضت مسبقًا على الديوان الملكي وأجيزت قبل الحفل. أي أن ما قيل لم يكن مجرد زلة فردية، بل جاء ضمن إطار مسموح به رسميًا إن لم يكن مُخططًا له. والأسوأ أن هذا تزامن مع سجن وتهجير كل صوت دعوي أو إصلاحي يعارض هذه الموجة؛ فبينما تُكرَّم المغنيات اللاتي يجاهرن بالكفر البواح على مسارح الرياض، يقبع خلف القضبان عشرات الدعاة الصادقين الذين أنكروا المنكر أو رفضوا المساومة على دينهم. وبذلك يرى المراقبون أن النظام السعودي الجديد تبنّى عمليًا حربًا على التدين الصحيح: يروّج للإلحاد الأخلاقي والفكري عبر بوابة الترفيه من جهة، ويكمّم أفواه الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من جهة أخرى.

ومن منظور شرعي، يُعتبر سبّ الله والأنبياء علنًا من أعظم نواقض الإسلام التي تخرج صاحبها من الملّة بإجماع العلماء. فإذا حصل مثل هذا المنكر في أي بلد إسلامي وجب على علمائه وحكامه إنكاره ومعاقبة فاعله فورًا. أما أن يحدث ذلك في قلب جزيرة العرب وفي البلد الذي تتواجد فيه مقدسات المسلمين وبرعاية الحاكم نفسه ودون أدنى ردة فعل أو اعتذار للأمة الإسلامية فهذه طامة كبرى لم تعرفها الأمة في تاريخها الحديث.

وقد أصدر عدد من العلماء والدعاة بيانات تنديد شديدة، معتبرين أن السماح بمثل هذا الكفر البواح والتبجح به يمثل انقلابًا على أسس الشرعية الإسلامية للحاكم. حتى إن حركة الإصلاح السعودية (المعارضة في الخارج) شبّهت ما يجري بـشنِّ حرب على الإسلامتفوق جرائم أمثال سلمان رشدي ورسامي الكاريكاتير المسيئين، ووصفت عداء النظام السعودي للدين بأنه لم يعد يختلف عن عداء فرعون وأبي جهل للإسلام.

وحمّلت الحركة ولي العهد نفسه المسؤولية الأولى عن هذا التعدي السافر، قائلة إنه لم يكتفِ بالسماح به بل تبناه وحماه في سياق خطة لإفساد عقيدة المجتمع وتحويله عن دينه.

إن الصورة المتولدة اليوم هي نقيض ما قامت عليه الدولة السعودية قبل عقود. فبينما كانت الدولة الأولى والثانية ثم حقبة الملك فيصل مثلًا تتسم بالصرامة في تطبيق الشعائر ومنع المنكرات الظاهرة، نجد الدولة في عهدها الجديد خصوصا بعد تولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان زمام السلطة في البلاد ترعى المنكرات نفسها وتروجها كنوع من التحضر.

لقد انقلب الميزان؛ فالدولة التي وُجدت بدعوى نصرة التوحيد أصبحت تحتضن مظاهر الشرك المعنوي وتمتهن المقدسات، وتستبدل القدوة الدينية بصناع الترفيه والفن. ولا شك أن لهذا التغير تبعات خطيرة مجتمعيًا وروحيًا، إذ يُخشى أن ينشأ جيل جديد في أرض الحرمين ممزق الهوية، لا يفرّق بين تعظيم المقدس وإهانته، طالما أن ذلك يتم بمباركة ولي الأمر نفسه. ولعل أبلغ وصف أطلقه الغيورون على هذه الحال أنها انسلاخ عقدي وفكري عن ثوابت الإسلام، تقوده السلطة لتحقيق مآرب دنيوية على حساب الدين.

٣- التطبيع الناعم والعداء للمقاومة الإسلامية

يواكب هذا الانقلاب الداخلي على القيم، تحولٌ استراتيجي في سياسات المملكة الخارجية والدينية تجاه العالم. فمن شعار خدمة الإسلام وقضايا المسلمين الذي تبنته السعودية لعقود، نراها اليوم تتجه بخطى حثيثة نحو التطبيع مع ألدّ أعداء الأمة (الكيان الصهيوني)، وتتبنى في الوقت ذاته خطابًا عدائيًا ضد كثير من الحركات الإسلامية الساعية للتحرر أو التغيير. ولتمرير هذه التحولات المتناقضة، سخّرت السلطات واجهة دينية جديدة تتبنى خطابًا تسامحيًابمقاييس غربية، تنأى فيه عن حساسيات العقيدة والجهاد، وتروج لفهم مُميَّع للإسلام يرضي القوى الدولية.

ويبرز في هذا السياق اسم الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى كأحد أبرز الوجوه التي تتصدر هذا المشهد. فالعيسى، وهو وزير عدل سابق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي حاليًا، يمثل الصوت الديني الرسمي للتوجه السعودي الجديد.

قدّم العيسى نفسه للعالم كداعية لحوار الأديان والوسطية العالمية، وأصبح ضيفًا دائمًا في المحافل الدولية إلى جانب قيادات كنسية ويهودية. وأدلى بتصريحات وفتاوى غير معهودة من رموز المؤسسة الدينية السعودية التقليدية، تبنّى فيها مواقف متساهلة للغاية في مسائل عقائدية حساسة. من ذلك مثلاً إصداره فتوى تجيز للمسلمين تهنئة المسيحيين في أعيادهم (مثل عيد الميلاد)، مؤكّدًا عدم وجود نص شرعي يمنع ذلك وأنه لا حرج فيه شرعًا.

وذهب إلى أن تهنئة غير المسلمين تدخل في باب المصلحة المعتبرة شرعًا لتحسين صورة الإسلام وتعزيز التعايش. وقد استشهد بفتاوى بعض العلماء المجيزين لهذا الأمر، مخالفًا بذلك تيارًا عريضًا من الفتاوى الكلاسيكية في المملكة وخارجها كانت ترى المنع والتحريم. ولا شك أن هذه النقلة الفقهية في خطاب العيسى جاءت بتوجيه سياسي من القيادة التي تسعى لإبراز السعودية بحلّة جديدة من التسامح الديني المنفتح على الغرب.

وليست القضية اليوم قضية الخلاف الفقهي، فالأمر أعمق من ذلك بكثير، فهذه الفتوى تعكس توجهًا رسميًا نحو الانفتاح غير المنضبط في جانب العقيدة، وهو الأمر الذي ظل العلماء في السعودية يصدرون أنفسهم حماة لها ومنافحين عن أي اختراق عقدي حسب ما هو مشهور عندهم.

بالإضافة لذلك، قام محمد العيسى بخطوات رمزية كبيرة نحو اليهود والنصارى أثارت جدلًا إسلاميًا واسعًا. فقد زار في يناير 2020 معسكر الإبادة النازي (أوشفيتز) في بولندا برفقة وفد من رجال الدين المسلمين وممثلين عن اللجنة اليهودية الأمريكية، في ذكرى المحرقة.

وظهرت صوره وهو يصلّي ويترحّم على ضحايا الهولوكوست اليهود هناك، مما لاقى ترحيبًا واحتفاءً كبيرًا من الأوساط الإسرائيلية الرسمية التي اعتبرت الزيارة دليلًا على تقارب سعوديإسرائيلي مستمر. فقد أشاد حسابإسرائيل بالعربيةالتابع لخارجية الاحتلال بمساعي التعايش التي تقودها رابطة العالم الإسلامي، وصرّح وزير إسرائيلي بأن هذه الخطوة تدل على تطبيع ديني تمهيدي بين الرياض وتل أبيب. كما وصفها بيني غانتس (رئيس أركان سابق وزعيم سياسي) بأنها خطوة مهمة تاريخية تعكس تحولات الشرق الأوسط وتوفر فرصًا جوهرية لإسرائيل.

في المقابل،انتقد كثير من العلماء والنشطاء المسلمين تلك الزيارة بشدة، مستنكرين غياب الرابطة التي يقودها العيسى عن قضايا الأمة الملحّةمثل مآسي الفلسطينيين المستمرة على يد الاحتلال الإسرائيليفي حين يبذل جهده للتعاطف مع مأساة تاريخية لليهود.

واعتبرها آخرون جزءًا من مخططالتطبيع الدينيمع إسرائيل الذي يهدف إلى تهيئة الرأي العام السعودي لقبول التطبيع السياسي اللاحق.

ولا يقتصر دور العيسى على هذه المحطات؛ فقد دأب على المشاركة في مؤتمرات حوار الأديان العالمية، والتقى بمسؤولين دينيين مسيحيين ويهود في أوروبا وأمريكا، مؤكّدًا رسائل التعايش الإبراهيمي إن صح التعبير. كما أشرف على إطلاق وثيقةمشروع ميثاق مكةعام 2019 الذي وقع عليه مئات العلماء من مختلف البلدان، والذي أكد على قيم المواطنة المشتركة ونبذ العنف والطائفية وحماية حقوق الأقليات الدينية.

وقد نالت هذه الجهود استحسان الدوائر الغربية التي منحت العيسى جوائز وشهادات تقدير لدوره في مكافحة التطرف وتعزيز التسامح. بيد أن الدعم اللامحدود له من السلطة السياسية يؤكد على أنه لا يعدو أن يكون مروجا باسم الدين لرؤية السلطة السعودية الجديدة التي يتزعمها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ولو جاءت على حساب ثوابت عقدية أو ولاءات إسلامية تقليدية. فخطابه يُركز على التسامح مع غير المسلمين إلى حد الإغضاء عن مظالمهم ضد المسلمين (كما في فلسطين)، وفي المقابل يلتزم الصمت حيال اضطهاد الدعاة والعلماء داخل السعودية أو المظالم الكبرى التي يتعرض لها المسلمون في العالم أجمع شرقا وغربا. ولهذا وصفه البعض بأنه وجه الانسلاخ العقدي والفكري عن تراث الصحوة الإسلامية، والمعبّر الأمين عن رؤية السلطات السعودية الجديدة.

وفي المحصلة، يبدو أن مسارالتحديثالسعودي يرتبط عضوياً بمسار التطبيعالخارجي والانحلال الداخلي. فكلما خطت الرياض خطوات أوسع نحو إسرائيل والغرب ثقافياً وسياسياً، ازداد تنكرها لتيارات الصحوة الإسلامية وجماعات المقاومة. فبعد أن كانت أدبيات الدولة الرسمية تصنف اليهود والنصارى كأعداء عقيدةضمن سياق الولاء والبراءباتت اليوم لهجة الإعلام الرسمي أكثر حدة تجاه الإخوان المسلمين وحماس والجماعات الإسلامية من حديثها عن الصهاينة. بل وصل الأمر إلى وصمالإرهابعلى كل من يعارض سياسات النظام الداخلية أو الخارجية من منطلق إسلامي. وهكذا أُفرغ مصطلح محاربة التطرف من مضمونه الحقيقي، ليصبح سيفاً مسلطاً على كل صحوة أو مقاومة.

خاتمة

بهذه السياسات المتسارعة، تكون السعودية قد دخلت منعطفًا غير مسبوق في تاريخها الحديث. التناقضات صارخة بين ماضي الدولة القريب وحاضرها: من منابر الدعوة إلى مسارح الترفيه، ومن شعارات الجهاد والولاء والبراء إلى خطابات التسامح الأممي والتطبيع.

ولا شك أن السعودية تخاطر بفقدان رصيدها الروحي والأخلاقي الذي استمدته من احتضان الحرمين الشريفين، عندما تخلّت عن دور الحامي للعقيدة وتحوّلت إلى مروج لمظاهر التغريب والانسلاخ. كما أنها بمغازلة إسرائيل وحلفائها على حساب قضايا الأمة، تفقد ثقة وولاء شرائح واسعة من العرب والمسلمين الذين طالما نظروا إليها كقائدة للعالم الإسلامي.

لقد راهن الحكام الجدد في الرياض على معادلة جديدة قوامها: كسب تأييد الغرب والقوى العظمى عبر الانفتاح والتطبيع، ولو أدى ذلك إلى قطيعة مع إرثهم الديني والحضاري. بيد أن هذا الرهان محفوف بالمخاطر، فالتاريخ علّمنا أن من يتخلى عن ثوابته إرضاءً لخصومه لن يجني سوى الخسران في النهاية.

د. منصور منور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى