مقالات مختارة

الرسائل الأكاديمية من ضمور التكوين وشهادة الزور إلى إصلاح المسار.

الرسائل الأكاديمية من ضمور التكوين وشهادة الزور إلى إصلاح المسار

د. وصفي عاشور أبو زيد

لقد غدت الرسائل الجامعية في عصرنا، ولا سيما في ميدان الدراسات الشرعية، أشبه بأشباحٍ لا روح فيها، وهياكل لا عظم لها؛ فأنت تراها تُساق على عجل، منقولةً باردةً، لا تكاد تُبصر فيها شخصية الباحث، ولا يلوح لك منها أثرُ عقلٍ ناضج أو قلمٍ مبدع، فكأن الطالب لم يُكلَّف إلا بالجمع والتكديس، دون تمحيص أو تحليل أو نظرٍ بعيد؛ فإذا أضفت إلى ذلك ضمور حجم الرسائل، حتى صارت وجيزات لا تتسع لجديدٍ ولا تفتح بابًا لإضافة، بان لك العجزُ عن استيعاب مقاصد العلوم الشرعية؛ إذ أُخضعت قسرًا لمعايير العلوم التجريبية ومقاييسها الصلبة، فكان ذلك إفسادًا للمنهج، وتشويهًا لرسالة العلم.

ولم يقف الأمر عند قصور الطلاب، بل جاوزه إلى قاعات المناقشة وما يَجري فيها من مجاملات، يتواطأ فيها المشرف والمناقش على تبادل الأدوار بشكل تلقائي؛ فيجامل هذا ذاك اليوم، ليُردّ له الدين غدًا، فتضيع الأمانة، وتتهاوى قيمة الشهادة، ويُكتب على البحث شهادة زور إلا ما رحم ربي.

ثم جاءت آفة العصر، وهي السرقات العلمية، لتزيد الطين بلة؛ فالباحث يجتهد في إخفاء سرقته أكثر مما يجتهد في الإتيان بجديد، وكل ذلك مما يَسْهُلُ كشفُه، ولكن الخسارة الكبرى تصيب الطالب والعملية الأكاديمية معًا، إذ يُهدم البناء من أساسه.

وهكذا تتراكم حلقات الضعف: قصورٌ في الطالب، وتهاون في الأستاذ، ومجاملات في المناقشات، وسرقات مستورة بستر واهن، حتى أوشكت العملية الأكاديمية برمتها أن تدخل في طورٍ من الانحطاط والضمور، وما لم يُتدارك الأمر بحزم، ويُعاد النظر في شروط نيل الشهادات، حتى لا يَنالها إلا المؤهَّلون حقًّا، فسوف يسجل التاريخ أن المشرف والمناقش قد شهدا زورًا، وأنهم حملوا وزرًا أمام الله وأمام الأجيال، يُثقل ظهورهم ولا تُغفر تبعاته.

ولا يمكننا أن ننهض بإصلاح هذا الأمر إلا بعودة النظر إلى التكوين العلمي من مراحله الأولى؛ فالمسؤولية لا تبدأ عند أبواب الدراسات العليا، بل تُبنى اللبنات منذ المراحل التمهيدية، حين يُغرس في الطالب حبُّ العلم، ويُزوَّد بأدوات البحث، ويُدرَّب على الكتابة المنهجية، والقراءة النقدية، والتذوق العلمي للنصوص؛ فإذا وصل إلى مرحلة الماجستير والدكتوراه كان قد حصَّل عُدته، وتمكَّن من ناصيته، فيوفِّر على نفسه جهدًا مضاعفًا، ويُجنِّب أستاذه عناء التلقين وإعادة الأساسيات، وتحيا بذلك العملية الأكاديمية من داخلها.

وإذا كان التكوين العلمي المبكر هو عصب الإصلاح وروحه، فإن غيابه كارثة تُفسد العمل الأكاديمي من أساسه؛ إذ يُدفع إلى ميدان الدراسات العليا من لم يُؤهَّل لمدارجه، فيخوض غمارًا لا يُحسن السباحة فيه، ويُجهد أستاذه معه في تصحيح البدهيات، وملاحقة النواقص، ومداواة العجز، حتى تضيع الجهود في ترميم ما كان ينبغي أن يُبنى في الصغر، وفي النهاية لا نكون أمام باحثٍ قادر على أداء رسالته، بل أمام منتجٍ هزيل لا يصلح للقيام بمهامه، ولا لتحقيق مقاصده، فتغدو الشهادة غطاءً فارغًا لا حقيقة تحته، ويخسر العلم طلابًا، وتخسر الأمة علماء.

ونحن بحاجةٍ اليوم إلى تربية جيلٍ في كل التخصصات، يجدد العلم، ويقدِّم النافع، وتكون إنجازاته مثمرةً لدينه ومجتمعه؛ جيلاً ينهل من الأصول، ويبدع في الفروع، ويضيف إلى التراث بدل أن يكون عالةً عليه، ويجتهد لواقعه وعصره كما اجتهد من سبقوه لواقعهم وعصرهم، ولن يتحقق هذا المقصد إلا بالتكوين المبكر المتين، ولن يثمر هذا التكوين إلا إذا قام عليه الأستاذ المربي والعالم العامل، الذي يدرك أن التعليم رسالة، وأن التربية فن، وأن التكوين العلمي الصادق هو الطريق الأقوم لنهضة الأمة وبعث حضارتها من جديد.

وإذا تحقق هذا التكوين المبكر، نهضت الأجيال على صلابة، وأثمرت العملية التعليمية طلابًا مؤهَّلين وباحثين جادين، وانبعث ميدان البحث العلمي نابضًا بالحياة، متصلًا بالواقع، مبدعًا في النظر، مخلصًا في الغاية؛ فالتربية المبكرة على الجدّ، والتدرج الرصين في مدارج العلم، هما الكفيلان ببعث الحيوية في أوصال المؤسسة الأكاديمية، وتعظيم ثمرتها للأمة في حاضرها ومستقبلها.

فإن كان هذا هو المشهد الذي نراه، فليس القدر حتمًا، ولا المصير لازمًا، وإنما هو داءٌ قد عُرف سببه، فلا بد أن يُلتمس له الدواء، والدواء في كلمة واحدة: الجدّ والصرامة؛ جدٌّ يعيد للعلم جلاله، وللشهادة هيبتها، وللأستاذ مكانته، وللباحث شخصيته، وصرامةٌ تُقصي المجاملات، وتستأصل السرقات، وتَردُّ الأمر إلى نصابه، فلا يُمنح لقب علمي إلا لمن استحقه بجهده ونضجه وأصالته، وعندها فقط تستعيد العملية الأكاديمية بريقها، ويعود العلم الشرعي إلى مكانه الطاهر؛ علمًا يُورِث خشيةً، ويَهدي أمةً، ويُشيّد حضارةً، وما ذلك على الله بعزيز.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى