مقالاتمقالات المنتدى

تأملات في فقه النصر والتمكين (4)

تأملات في فقه النصر والتمكين (٤)

بقلم: د. حسن السلهاب( خاص بالمنتدى)

إن المتأمل في سنن الله عز وجل يجد أن التمكين لدين الله محفوف بالمكاره ويمر بشدة ما بعدها شدة ويعبر القرآن الكريم عن تلك الحالة {حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (110).
نحن كبشر لنا محدودية في التفكير لا تدرك المقاصد والمآلات والأحداث التي تمر بالمؤمنين، لأن طبيعتنا البشرية العجلة والقفز على سنن الله عز وجل، فتجعلنا تلك الحالة ننظر لأقدار الله عز وجل بنظرة قاصرة، لذلك كيف يكون في العبودية والاسترقاق لغلام سببا في التمكين “سيدنا يوسف”! كيف سينجو موسى عليه السلام وهو وٌلد في العام الذي فيه فرعون يقتل كل “ذكر”! وكيف يكون هذا الأمر منطقي عند أم لها عاطفة ومشاعر حينما يأمرها الله عز وجل {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} أيعقل هذا أن أم موسى إذا خافت الرضيع من القتل أن تٌلقيه في اليم!، ولكنها المرحلة الأولى والحلقة الأولى من حلقات التمكين. وفعلت ذلك وكاد فؤادها أن تفقده وأن تصرخ بأعلى صوتها، ولكن الله عز وجل ربط على قلبها، وأيضا لم يكن يتصور فرعون أن نهايته على يد من تربى عنده.
وهذا تذكير لمن لا يرون في هذه اللحظات الشديدة القسوة أي ملمح من ملامح التمكين، لأن محدودية علمنا وقصوره عن إدراك تصريف رب العالمين لأقداره تجعلنا لا نرى في استرقاق الغلام سببا لتمكينه في الأرض.
إن حلقات التمكين بدأت مع سيدنا موسى عليه السلام مرت بمراحل متعددة ومتنوعة، ولكنها مراحل التمكين، بدأت بالإلقاء في اليم، ثم الخروج من مصر خائفا يترقب {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)}. ولا يدري أين يذهب سيدنا موسى وهو بمفرده، ولكن المؤمن الذي عنده رسالة ويحمل قيم يؤدي رسالته كاملة وهو في أحلك الظروف. وحينما استقر به الأمر في مدين وهو مٌتعب، بل بلغ التعب منه المدى حدث أمام عينيه أن “أُمَّةً” من الناس يسقون، ولكن بين تلك الأمَّةً امْرَأَتَيْنِ تذودان {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} فالحركة الإيجابية من المؤمن تولد نتائج إيجابية ولو بعد حين، لذا كان الحال من سيدنا موسى بعد أن سقى لهما قال: {فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا }، يا الله، سبحانك يارب، تٌدبر الأمر بمشيئتك وتقدر الأمر بقدرتك وتعلم وأنت علام الغيوب، بعد الحركة الإيجابية تأتي النتائج سريعة بل توجد “فاء” السرعة ” فَجَاءَتْهُ”، ليكون الجزاء من جنس العمل، ويطمئنه سيدنا شعيب قائلا: {لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. وهنا تبدأ مرحلة أخرى من مراحل التمكين، والتي سيبقى بعدها في مدين عشر سنين يعمل ويتعب ويبذل فتكون النتيجة حينما أراد العودة وقال لأهله أمكثوا {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، التكليف والعودة على فرعون ليكون التمكين الأولي لسيدنا موسى.
هكذا أيها الأحباب الكرام تكون مراحل التمكين في بدايته ألم وفي نهايته فرح وكرم من الرحمن الرحيم. ولذا نطمئن إلى حكمة الله ولكن علينا أن نعمل ونبذل قصارى جهدنا ونستنفذ كل الوسائل من أجل الإعذار أمام الله عز وجل، وسوف يأتي هذا التمكين ولو بعد حين، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

إقرأ ايضا:دعوة للمشاركة في احتجاج ضد جرائم العدو ومطالبة ترامب بوقف الحرب على غزة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى