
من الشجب إلى العجز.. قمة الدوحة الطارئة في ميزان الفعل الغائب: قراءة في مخرجات القمة.
د. منصور منور
اختتمت القمة العربية الإسلامية الطارئة أعمالها في العاصمة القطرية الدوحة في 15 سبتمبر/أيلول 2025، وسط أجواء مشحونة بالتوتر على خلفية العدوان الإسرائيلي الذي استهدف العاصمة القطرية، في سابقة غير معهودة في سجل الاعتداءات الصهيونية على المنطقة. وقد خرجت القمة ببيان ختامي شديد اللهجة، أدان “العدوان الغادر” على دولة قطر، واعتبره اعتداءً على مكان محايد للوساطة يقوّض جهود السلام، وأكد على “الأمن الجماعي والمصير المشترك للدول العربية والإسلامية”.
لكن، وبرغم حدة الكلمات، فإن المحصلة العملية للقمة لم تتجاوز دائرة الشجب والإدانة، وهو ما يعكس مأزق النظام العربي والإسلامي في التعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية، ويفضح الفجوة بين الخطاب السياسي والقدرة الفعلية على اتخاذ خطوات رادعة.
المخرجات: بين قوة الخطاب وضعف الفعل
تضمّن البيان الختامي للقمة مجموعة من البنود، أبرزها:
- الإدانة الشديدة للهجوم الإسرائيلي واعتباره خرقًا صارخًا للقانون الدولي.
- الإشادة بموقف قطر “الحكيم والمسؤول” في التعامل مع العدوان.
- التأكيد على التضامن المطلق مع الدوحة في مواجهة أي تهديدات مستقبلية.
- الترحيب بجهود الوساطة القطرية والمصرية والأمريكية في الحرب على غزة.
- الدعوة إلى اتخاذ “كافة التدابير القانونية الممكنة” لمساءلة إسرائيل ومراجعة العلاقات معها.
- لكن هذه البنود – رغم أهميتها الرمزية – لم تترجم إلى قرارات عملية واضحة مثل قطع العلاقات الدبلوماسية، أو وقف التبادل التجاري، أو فرض عقوبات، أو حتى تحرك جاد في مجلس الأمن بموجب الفصل السابع. وهذا ما جعل المخرجات تبدو، في جوهرها، إعادة إنتاج لخطاب الإدانة المعتاد في القمم السابقة.
الواقع السياسي: أرقام تكشف المفارقة
لفهم سبب هذا العجز، لا بد من النظر إلى البنية الفعلية لمواقف الدول الإسلامية، وهو ما كشفه الدكتور وليد عبد الحي (الخبير في العلاقات الدولية) في قراءة معمقة لمشهد القمة:
الاعتراف بإسرائيل:
من بين 57 دولة عضوًا في منظمة التعاون الإسلامي، هناك:
29 دولة تعترف بإسرائيل اعترافًا قانونيًا كاملًا (De jure).
4 دول تعترف بها اعترافًا واقعيًا (De facto)، بينها قطر نفسها.
10 دول فقط لا تعترف بإسرائيل (معظمها آسيوية مثل ماليزيا، إندونيسيا، باكستان، إيران).
وهذا يعني أن 58% من المدعوين للقمة يقيمون أصلًا علاقات مع إسرائيل، بما يحوّل القمة إلى ساحة تناقض صارخ بين الخطاب والممارسة.
التبادل التجاري:
حجم التبادل التجاري بين دول المنظمة وإسرائيل يقارب 19 مليار دولار سنويًا.
تتصدر تركيا القائمة (8 مليارات دولار سنويًا قبل إعلان تعليق التجارة).
تليها الإمارات ومصر والأردن والمغرب وأذربيجان وكازاخستان.
فكيف يُنتظر من دول ترتبط بعلاقات اقتصادية بهذا الحجم أن تتحرك فعليًا لفرض حصار على إسرائيل أو قطع العلاقات معها؟
خريطة المواقف:
دول أقرب للموقف الفلسطيني: إيران، باكستان، ماليزيا، إندونيسيا، مالي، النيجر، بنغلاديش… بعضها ذهب أبعد مثل تشاد التي استدعت سفيرها من إسرائيل.
دول أقرب لإسرائيل: خصوصًا في آسيا الوسطى مثل أذربيجان وكازاخستان، إلى جانب أوزبكستان وطاجيكستان.
دول الموازنة: مثل تركيا ونيجيريا وبعض الدول الإفريقية، التي تحاول إمساك العصا من الوسط.
هذه الانقسامات، كما يوضح د. وليد عبد الحي، تجعل سقف القمة محكومًا بالحد الأدنى من التوافق: “عتاب وشجب وإدانة بأشد العبارات”.
ازدواجية المواقف: بين الخطاب العاطفي والواقع البارد
القمة حفلت بخطابات قوية، مثل قول أمير قطر إن “العدوان الإسرائيلي غادر وجبان”، أو دعوة الرئيس التركي أردوغان لفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، أو مطالبة ماليزيا وباكستان بقطع العلاقات معها وتجميد عضويتها في الأمم المتحدة.
لكن هذه المواقف ظلت حبيسة الكلمات، ولم تتحول إلى آليات تنفيذية، بل إن بعضها بدا أقرب إلى تسجيل نقاط خطابية أكثر من كونه خططًا قابلة للتطبيق.
وفي الوقت الذي كانت فيه الوفود تتحدث عن التضامن مع قطر وغزة، كانت أرقام التجارة والعلاقات الدبلوماسية والاتفاقيات الأمنية مع إسرائيل تفضح هشاشة هذه الادعاءات.
قراءة نقدية: بين وهم الوحدة وحقيقة التشتت
ما تكشفه القمة الطارئة في الدوحة أن النظام العربي والإسلامي لا يزال محكومًا بالمعادلة القديمة: وحدة في الخطاب، فرقة في الفعل.
فالبيان الختامي بدا أقرب إلى وثيقة “ترضية” لجميع الأطراف: يرضي الدول الغاضبة من العدوان، ولا يغضب الدول المرتبطة بإسرائيل، ويمنح قطر غطاءً معنويًا دون أن يلزم أحدًا بخطوات عملية.
هذا النمط من “القمم الاسترضائية” ليس جديدًا، لكن خطورته اليوم أنه يأتي في لحظة إقليمية فارقة: حرب إبادة مستمرة في غزة، واستهداف مباشر لعاصمة عربية خليجية، في وقت تتسع فيه موجة التطبيع والتحالفات مع إسرائيل.
الخلاصة:
أرسلت قمة الدوحة الطارئة رسالة سياسية مهمة عن رفض العدوان على قطر، لكنها كشفت أيضًا أن سقف الفعل العربي والإسلامي لا يزال عاجزًا عن الارتقاء لمستوى التحديات.
فبينما يطالب المجتمع الإسلامي بعلمائه ومثقفيه بخطوات ملموسة كقطع العلاقات أو فرض حصار اقتصادي أو تحالف دفاعي مشترك، تكتفي القمم ببيانات الشجب.
إن العدوان الإسرائيلي على قطر لم يختبر فقط سيادة دولة خليجية، بل اختبر – وربما فضح – عجز المنظومة العربية والإسلامية عن تجاوز مرحلة الخطاب إلى الفعل.