علماء من عصرنا

مذكرات الشيخ رفاعي طه (19) .. من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

مذكرات الشيخ رفاعي طه (19) .. من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

سجلها عنه وحررها أ. محمد إلهامي

كما ذكرنا في الحلقة الماضية حاولنا إقامة معسكر بين شباب الإخوان وشباب الجماعة الإسلامية لمحاولة التقريب والتآلف ولئلا يتحول الكيانان إلى التضاد أو التزاحم في العمل الدعوي بالجامعة، وكنتُ أمير هذا المعسكر والمسؤول عنه، ووضعت برنامجه بشكل نبتعد معه تماما عن ذكر الخلاف الذي وقع وأدى إلى هذا الانشقاق بيننا، بل نبتعد عن ذكر الجماعتيْن كليهما لا بالخير ولا بالشر، واقتصر البرنامج على المحاضرات في الموضوعات الشرعية والمعاني الروحية والأخلاقية، وجعلنا نصف المحاضرين بالبرنامج من المحسوبين على الإخوان، ونصفهم الآخر من خارج الإخوان.

ولكن وقع المحظور.. وقع على يد الشيخ محمد الصويفي!
ذكرتُ فيما سلف قصة الشيخ الصويفي وأنه كان يبغض الإخوان، ورتبنا له محاضرة عن قصة أبي حازم مع سليمان بن عبد الملك، وهي قصة مؤثرة في الزهد والأدب والرقائق، وكان الشيخ الصويفي بديعا إذا حكاها، يأسر بها القلوب، فجعلناها موضوع محاضرته لنستثمر موهبته فيها ونظلل المعسكر بجوٍّ من الإخاء والزهد الذي يقطع التنافس والشحناء بين الشباب المسلم.

وللقصة عدد من الروايات والمقاطع المتفرقة، ولكن جمعها بعض الشيوخ في كتب الزهد، وهي تروي أن سليمان بن عبد الملك –الخليفة الأموي- ذهب من دمشق إلى الحج، فمرَّ بالمدينة، فطلب أن يأتيه أحد من علمائها الذين أدركوا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، لينصحه ويعظه، فدلُّوه على أبي حازم، فأرسل إليه فجاءه، فقال سليمان: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟
قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين وأي جفاء رأيت مني؟
قال: أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني.
قال: إن الناس لما كانوا على الصواب، كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفرّ بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قومٌ من أذلة الناس تعلموا العلم وأتوا به إلى الأمراء فاستغنت به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا أو تعسوا أو تنسكوا، ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم، لم تزل الأمراء تهابهم.
قال سليمان: يا أبا حازم، مالنا نكره الموت؟
قال: لأنكم خرَّبتم الآخرة وعمَّرتم الدنيا، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
قال: ليت شعري، كيف القدوم على الله غداً؟
قال: أما المحسن فكالغائب يقدُم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يقدم على سيده ليعاقبه.
فبكى سليمان حتى علا نحيبه وقال: يا أبا حازم، ما لنا عند الله؟ قال: اعرضْ عملك على كتاب الله.
قال: وفي أي مكان أجده في كتاب الله؟
قال: قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}
قال سليمان: فأين رحمة الله؟
قال: فإن رحمة الله قريب من المحسنين.
قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم؟
قال: أهل المروءة والنهى.
قال سليمان: فأي الأعمال أفضل؟
قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم.
قال: فأي الصدقة أفضل؟
قال: للسائل البائس، وجهد المقل ليس فيها منٌّ ولا أذى.
قال: ما أعدل العدل؟
قال: قول الحق عند من تخافه أو ترجوه.
قال سليمان: هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال أبو حازم: أعوذ بالله. قال سليمان: ولمَ؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا يكون لي منه نصيرا.
قال: يا أبا حازم ارفع إلي حاجتك.
قال: نعم، تدخلني الجنة، وتخرجني من النار.
قال: ليس ذاك إلي، قال: فما لي حاجة سواها.
قال: يا أبا حازم فادع الله لي.
قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى.
قال سليمان: فقط؟!
قال أبو حازم: قد أكثرت وأطنبت إن كنت أهله، وإن لم تكن أهله فما حاجتك أن ترمي عن قوس ليس لها وتر؟!
قال سليمان: يا أبا حازم ما تقول فيما نحن فيه؟
قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟
قال: بل نصيحة تلقيها إلي.
قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر، فأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة، وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم!
فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت!
قال أبو حازم: كذبت، إن الله تعالى أخذ على العلماء الميثاق {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 18].
قال سليمان: يا أبا حازم أوصني، قال: نعم سوف أوصيك وأوجز: نَزِّه الله تعالى وعَظِّمْه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك.
ثم قام، فلما ولى قال: يا أبا حازم هذه مائة دينار أنفقها، ولك عندي أمثالها كثير، فرمى بها أبو حازم وقال: والله ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي، إني أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا وردي عليك بذلا.

هذه قصة أبي حازم مع سليمان بن عبد الملك، قصة تنقلك من جو الدنيا إلى ظلال الآخرة، ومن شحناء التنافس إلى كرم البذل، ومن التباغض والتحاسد إلى المودة والإخاء. وفوق ما في هذه القصة من العبر فإن الشيخ الصويفي قد اشتهر بها، يحكيها فيتوقف ويشرح، يخلب العقول ويسحر القلوب، قد كان موهوبا رحمه الله وغفر له.

ثم إن فيها ما يمس أمر الحكام والعدل في السياسة والمال، ويمس شأن العلماء مع الحكام، وفي اختيارنا لهذه القصة صرف له هو نفسه عن شأن الإخوان المسلمين أيضا، فقد كان كثير التعرض لهم والتعريض بهم.

كانت محاضرة الشيخ الصويفي بعد صلاة المغرب، ولكنه وصل قبل المغرب بكثير، وقمت لاستقباله بصفتي أمير المعسكر، إلا أنه حين دخل نظر فوجد د. محمد حبيب (وهو من قيادات الإخوان كما هو معروف) يلقي درسا على شباب المعسكر، فنسي ما جاء لأجله وتلبسه شيطان الهجوم على الإخوان، وأخذ يتكلم بصوتٍ عالٍ يريد بذلك إفساد المحاضرة، سأل بهذا الصوت: من هذا الذي يتكلم هناك؟

كان يراه ويعرفه، ولكنه يبدأ اشتباكا، فقلت له أخفض صوتي، وأحاول إلزامه خفض الصوت: هذا الدكتور محمد حبيب يا مولانا!

أكمل بصوته العالي وبنبرة ساخرة: آها، قد طالت لحيته، وصار سمينا مليحا!!
حاولتُ أن يصمت: يا مولانا لا داعي، لا شأن لك به..

إلا أنه واصل بصوته المرتفع: ولماذا تأتون بالإخوان ليحاضروكم، وما الفارق بين الإخوان والتكفيريين، هؤلاء مثل هؤلاء، هؤلاء عندهم بيعة وهؤلاء عندهم بيعة..
قاطعته وأكاد أتميز من الغيظ وأحاول بخفض صوتي والجزّ على حروفي وزمّ شفتيّ أن ألزمه بخفض صوته، قلت: يا مولانا هذا المعسكر غرضه التصالح والتآلف والإخاء…

ولما كان هذا الكلام كله مسموعا للدكتور حبيب، وبدأت الغمغمات والهمهمات تسري والأمر يتوتر، أسرع د. حبيب في إنهاء محاضرته، وختمها سريعا، وقد كان ينبغي أن يختمها قبل المغرب بنصف ساعة لنتهيأ لأذكار المساء، ولعله شعر أن التشغيب عليه مقصود.

تداركنا الموقف سريعا، صار لدينا وقت فراغ قبل الأذكار، ثم جاءت محاضرة الشيخ الصويفي بعد صلاة المغرب، وإذا به ينسى المحاضرة وموضوعها، ويسيطر عليه شأن الإخوان، فانقلبت محاضرته ذما وتجريحا في الإخوان، وكان فيها عنيفا جموحا!

هببت واقفا أريد الرد عليه، ولأعلن في الجميع أن كلمة الشيخ الصويفي لا تعبر عن المعسكر، وكان هذا في زماننا من أسوأ الأدب ومما لا يُتوقع مع المشايخ، فأمسك بي أسامة حافظ وهدأني وقال لي همسا: لو قلتَ هذا فلن تكسب الإخوان ولكن ستخسر الصويفي، اصمت الآن، واتركنا نعالج الموضوع بحكمة، سننتظر بعد محاضرته ثم سأتكلم بعده وأقول ما يعالج الموقف، وإذا لم يعجبك قولي قُمْ فردَّ علي أنا، فوافقته على هذا.

قام أسامة بعدما أنهى الشيخ محاضرته وقال: نشكر الأستاذ الشيخ الصويفي، وذكر كلاما بهذا المعنى، ثم قال: والواقع أن عنوان المحاضرة الذي أعددناه للشيخ كان كذا وكذا، وكنا نودّ لو أتحفنا بالحديث في هذه القصة، ونحو هذا الكلام، ثم قال: كلام الشيخ الصويفي لا يعبر عن المعسكر ولا عن القائمين عليه، ووجهة نظر المعسكر أن إخواننا في الإخوان هم أحبابنا وثلاثة أرباعهم هنا معنا، وقال كلاما بهذا المعنى.

قال أسامة نفس ما كنت أريد قوله إلا أنه كان أكثر هدوءا وإمساكا للعصا من المنتصف وأحب إرضاء جميع الأطراف، وعلى هذا انتهى المعسكر، ولكن أصبحتُ معروفا داخل الجماعة الإسلامية بأنني أقرب إلى جماعة الإخوان المسلمين.

وبهذه المحاضرة أخفق المعسكر في هدفه “التأليف والتقريب”، فلو أني أعطيت نسبة لنجاحه في هذا الهدف فلن يكون إلا 15% أو 30% في أحسن الأحوال، ثم تزامن هذا مع إشاعة ضخمة أطلقها الإخوان تقول بأن ناجح إبراهيم يعمل مع أمن الدولة، وأن تنصيبه أميرا للجماعة الإسلامية في الجامعة إنما هو مؤامرة من أمن الدولة لضرب الإخوان في جامعة أسيوط، وصَوَّروا ما حدث من إعادة الانتخاب على هذا النحو، والحق أن الشيخ ناجح إبراهيم ساعتها كان رجلا تقيا ورعا زاهدا لا يمكن أن يكون عميلا لأمن الدولة، لكن تلك عادة للإخوان.

وبالمناسبة، حتى الآن[1]، لا أرى أن الدكتور ناجح إبراهيم عميلا لأمن الدولة أو ما شابه، هو صاحب رأي وإن اختلفتُ معه، ولا أظن أنه يعمل لهم أو معهم، له وجهة نظر تختلف معها.

كان هذا المعسكر في شهر مايو 1978، في ذات العام الذي فاز فيه عادل أسعد الخياط برئاسة اتحاد الطلاب، وكان لهذا الاتحاد انطلاقة ضخمة في العمل الدعوي بالجامعة، أما بقية هذا الفصل الدراسي فلم يكن الوقت الضيق قبيل الامتحانات يسمح بنشاط طلابي، لكن الإجازة الصيفية كانت إجازة عامرة حافلة بالنشاط الدعوي. نتناولها في الحلقة القادمة إن شاء الله.

________________________________________
[1] سجلت هذه المذكرات عام 2015م.

(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى