
كان شيخ الأزهر الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق واحدًا من أولئك الذين كتبوا أسماءهم في سجل العزة والكرامة بأحرف من نور، بثباته على الحق، وجرأته في قول كلمة الإسلام، ودفاعه عن قضايا الأمة في وجه الطغيان المحلي والعالمي، حتى صار مثالًا للعالم الأزهري الذي يجمع بين الفقه الراسخ، والموقف الجريء، والغيرة الصادقة على الدين.
وُلد الشيخ جاد الحق في 13 جمادى الآخرة 1335هـ / 5 أبريل 1917م ببلدة بطرة بمحافظة الدقهلية في أسرة عُرفت بالصلاح والأمانة. حفظ القرآن صغيرًا في كُتّاب القرية، ثم التحق بالمعهد الأحمدي بطنطا، وتدرّج في التعليم الأزهري حتى نال الشهادة العالمية في الشريعة من كلية الشريعة والقانون عام 1944، ثم حصل على تخصص القضاء عام 1946.
كانت نشأته العلمية في بيئة أزهرية عريقة غرست فيه روح الجد والورع، فكان في صباه يؤم الناس ويعلّمهم، قبل أن يصبح أحد أبرز رجالات الأزهر في القرن العشرين.
من القضاء إلى الإفتاء… ثم إلى مشيخة الأزهر
بدأ الإمام حياته العملية في المحاكم الشرعية عام 1946، متنقّلًا بين القضاء والفتوى والتعليم، حتى عُيّن مفتيًا للديار المصرية عام 1978م، فجدّد نشاط دار الإفتاء، وأمر بجمع فتاواها في مجلدات بلغت عشرين مجلدًا، لتكون مرجعًا فقهيًا معاصرًا للأمة.
وفي عام 1982، تولى وزارة الأوقاف لفترة قصيرة، ثم اختير شيخًا للأزهر الشريف، ليبدأ عهدًا جديدًا من النهوض بالأزهر علمًا ودعوة وموقفًا.
نهضة علمية شاملة
شهد الأزهر في عهده نهضة غير مسبوقة؛ فارتفع عدد المعاهد الأزهرية من بضع مئات إلى ما يزيد على ستة آلاف معهد داخل مصر، فضلًا عن انتشار المعاهد والفروع الأزهرية في إفريقيا وآسيا والعالم الإسلامي.
وفتح أبواب الأزهر أمام الطلاب الوافدين من أنحاء الأرض، وأطلق فروع جامعة الأزهر في المحافظات، وأقام مؤتمرات علمية وطبية وزراعية وثقافية تُظهر صوت الإسلام في القضايا المعاصرة، وأسس مراكز للدراسات الإسلامية لنشر ثقافة الوسطية والاعتدال.
مواقف جريئة وشجاعة
اشتهر الإمام جاد الحق بمواقفه الراسخة دفاعًا عن الإسلام وقضايا المسلمين، فلم يكن عالمًا يكتب فحسب، بل كان رجل موقف وكلمة وضمير.
ففي حرب الإبادة على مسلمي البوسنة والهرسك، كان أول من أعلن أن ما يجري حرب صليبية تستهدف الإسلام، ودعا إلى نصرتهم بالمال والسلاح، وأطلق حملة إغاثة عالمية تحت مظلة المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة الذي ترأسه، وجمع ملايين الدولارات دعمًا للمجاهدين هناك.
وفي قضية القدس، ظل صوته عاليًا: «القدس ستظل عربية إسلامية إلى قيام الساعة، ولا سلام مع مغتصب الأرض، ولا زيارة للقدس تحت الاحتلال»، رافضًا التطبيع ولقاء المسؤولين الصهاينة. وكانت فتواه الشهيرة: «من يذهب إلى القدس الآن آثم آثم والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلي القدس حتي تتطهر من دنس المغتصبين اليهود, وتعود إلي أهلها مطمئنة يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلي الصلوات, وعلي كل مسلم أن يعمل بكل جهده من أجل تحرير القدس ومسجدها الأسير)»، صرخة في وجه التهاون والخضوع.
وعلى أثر هذا النداء القوي من الإمام الراحل دعا البابا شنودة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في مصر هو الآخر المسيحيين لعدم زيارة القدس.
وكان للإمام الراحل موقف واضح وقوي من رفض التطبيع فقد رفض أن يستقبل الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان إبان زيارته للقاهرة, وبعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993, مما سبب حرجا شديدا للحكومة المصرية وللرئيس الصهيوني.
وكان لفضيلته مواقف شجاعة في التصدي للممارسات الإسرائيلية الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني, فأدان فضيلته الحادث الإجرامي البشع الذي قام به يهودي متطرف عندما قتل عشرات المصلين الفلسطينيين في شهر رمضان داخل الحرم الإبراهيمي عام 1994م, وقد سبق وأيد الإمام الراحل الانتفاضة الفلسطينية المباركة, والعمليات الاستشهادية للمجاهدين الفلسطينيين, مؤكد ا علي أن تحرير القدس لن يتم إلا بالجهاد والاستشهاد في سبيل الله.
ورفض الإمام الراحل ما تردد عن حصول إسرائيل علي مياه النيل من خلال مشروع ترعة السلام, وقال مقولته الشهيرة: ؛إن حصول إسرائيل علي مياه النيل أصعب من امتلاكها سطح القمر .
وعن الأسري المصريين الذين قتلتهم إسرائيل عمد ا إبان حرب حزيران/ يونيو 1967 وأثارتها الصحافة المصرية, قال فضيلته: (القتل العمد ضد أسرانا يستحق القصاص).
كما تصدى رحمه الله لمحاولات التغريب والانحراف الأخلاقي، فوقف ضد مؤتمر السكان العالمي في القاهرة عام 1994 حين حاول تمرير وثائق تبيح الزنا والشذوذ والإجهاض، فدعا العلماء لمواجهتها وأصدر بيانًا تاريخيًا من مجمع البحوث الإسلامية أحبط تلك المؤامرة.
تمسكه بالزهد والورع
رغم المناصب الرفيعة التي تقلدها، ظل الشيخ جاد الحق زاهدًا متواضعًا، يعيش كما بدأ حياته: موظفًا بسيطًا لا يتقاضى سوى راتبه، لا يقبل مكافآت ولا يستفيد ماديًا من كتبه وأبحاثه التي كان يجعلها “في سبيل الله”.
كان مكتبه المتواضع في شقته بالمنيل شاهدًا على إخلاصه، ومن فوق منضدته القديمة صاغ بيانات الأزهر وفتاواه الكبرى للأمة.
تراث علمي خالد
خلّف الإمام جاد الحق تراثًا فقهيًا وفكريًا ثريًا، من أبرز مؤلفاته:
-
الفقه الإسلامي مرونته وتطوره
-
بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة
-
النبي ﷺ في القرآن
-
مع القرآن الكريم
-
رسالة في الاجتهاد وشروطه
-
رسالة في القضاء في الإسلام
وقد نال خلال حياته عددًا من الجوائز والتكريمات، أبرزها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1995م، ووشاح النيل عام 1983م.
وفاته
رحل الشيخ جاد الحق فجر الجمعة 25 شوال 1416هـ / 15 مارس 1996م بعد أن أنهى مراجعة أوراق الأزهر وبريده الرسمي، ومات متوضئًا وهو يستعد للصلاة.
كانت وصيته أن يُدفن في قريته “بطرة” بجوار مسجده الذي بناه، وأن يصلي عليه الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي نعاه بقوله الخالد:
“لقد تعلمنا منه ألا نُعصرن الدين، بل نُدين العصر، فعصرنة الدين تعني أنه غير كامل، حاشا لله”.
رحم الله الإمام جاد الحق، العالم المجدد، والإمام الشجاع، الذي حفظ للأزهر مكانته، ورفع راية الدين في زمنٍ اشتدت فيه الفتن، فكان منارةً للحق في وجه الباطل، وصوتًا للأمة في زمن الصمت.




