علماء من عصرنا

د. نزار ريان: العالم الذي تقدم صفوف المعركة.

نزار ريان

في السادس من مارس عام 1959 وُلد نزار ريان في مخيم جباليا. طفل لم يعرف طفولة مترفة، بل نشأ في أزقة ضيقة محمّلة بآثار النكبة، وأحاديث الجدّات عن القرى المفقودة.

جاءت سرته جاءت قضاء عسقلان مهجرة جريحة؛ فعلم أن تضييع الأرض أسهل من استعادتها، فورث الإصرار ألا تضيع  مرّة أخرى.

منذ صغره كان نزار مختلفًا. يحب القراءة، يطيل الجلوس مع الشيوخ، ويحفظ النصوص. وحين كبر، قادته خطاه إلى عواصم عربية حمل منها شهاداته العلمية: بكالوريوس من الرياض، ماجستير من عمّان، ودكتوراه من الخرطوم. لكنه لم يكن يطارد الألقاب، بل كان يرى في العلم الشرعي وفي حديث النبي مفتاح الفهم، وفي سيرته زاد الطريق.

بين الحديث والجهاد

عاد د. نزار إلى غزة أستاذًا في الجامعة الإسلامية، وكرّس حياته لتدريس علوم الحديث. لم يكن مجرد محاضر جامعي، بل مربّيًا يفتح لطلابه أبوابًا واسعة: يشرح لهم مفاهيم العلم في القاعة، ثم يخرج معهم ليرابط على ثغور جباليا.

كان يؤمن أن مهمة العالم أكبر من مجرد تلقين العلم، وكان لسان حالهبئس حامل العلم أنا إن أوتي الإسلام من قبلي“. .

تأثّر بعدد من الشيوخ الذين صاغوا وعيه؛ من أحمد ياسين الذي علّمه معنى الثبات والعزيمة، إلى عبد الله عزام الذي فتح له أبواب الجهاد، وسعيد حوّى الذي ربّاه على التزكية. من كل واحد أخذ شيئًا، فصيغت شخصية فريدة: عالِم يحفظ الأسانيد، ومجاهد لا يتأخر عن الصفوف الأولى.

بيت قدّمه كله لله

لم يكن بيته بيتًا عاديًا. وصفه أهل جباليا بأنهبيت التضحية“. ارتقى ابنه إبراهيم عام 2001 في عملية اقتحام لمستوطنة إيلي سيناي. وأخوه الأصغر واثنان من أبناء أخيه لحقوا به شهداء. وابنه بلال فقد قدمه وهو يقاتل. حتى جدران البيت كانت مأوى للمطاردين من قادة القسام؛ محمد الضيف، يحيى عياش، عدنان الغول.. كلهم عرفوا بيت نزار ريان.

كان نزار يقول دائمًا: “إن دعوتنا لا تصدَّق إذا بقيت في المنابر فقط“. لذلك حرص أن يقدّم بيته كما قدّم منبره.

القائد الذي يتقدّم الصفوف

في عام 2004، وأثناء محاولة اجتياح شمال غزة، كان المشهد فارقًا.

الشيخ نزار يرتدي عباءته، يحمل سلاحه، ويقف في الصفوف الأمامية مردّدًا:
لن يدخلوا معسكرنا.. يعني لن يدخلوا معسكرنا.
لم تكن جملة عابرة. بل كلمة تحوّلت إلى شعار يقسم به شباب جباليا، ويتوارثوه في كل جولة مواجهة.

عُرف عنه أنه يبيت مع المقاتلين في الخطوط الأولى، يأكل مما يأكلون، ويصلّي الفجر معهم، ويشد على أيديهم. لم يكن يتحدث عن الجهاد من بعيد، بل يعيشه معهم، خطوة بخطوة.

كتبه.. وعلومه

رغم انغماسه في الميدان، لم يترك قلمه. كتب في السيرة والحديث، وحقق أبحاثًا دقيقة، منها: السيرة النبوية من الميلاد إلى الوفاة، والدواعي العلمية لرواية الصحابة، والإمام اليونيني وجهوده في ضبط البخاري. حتى وهو يعيش تفاصيل الحصار والاشتباك، كان يعود إلى نصوص المحدثين، يكتب عنها، ويُشرف على رسائل طلابه. جمع بين قسوة الخندق ولطافة الورقة، بين صوت الرصاص وهدوء المكتبة.

الاستشهاد: معركة الفرقان

في الأول من يناير 2009، وأثناء معركة الفرقان كما سمّاها القسام، قصفت طائرات الاحتلال منزله في جباليا. فارتقى الدكتور نزار ريان مع زوجاته الأربع وأحد عشر من أبنائه وبناته دفعة واحدة. بيت كامل ارتقى في لحظة، وكأنهم أرادوا أن يختموا سيرة بيت التضحية بصفحة لا تُمحى.

كان الاحتلال يظن أن اغتياله سيُطفئ صوتًا، لكنه لم يدرك أن هذا الصوت قد ربى جيلا كاملا على الشهادة سيقض مضاجعهم ويبكي أعينهم..

وارث مدرسة العلماء المجاهدين

حين تنظر في سيرة نزار ريان، ترى خيطًا ممتدًا عبر التاريخ. هو ابن مدرسة ابن تيمية الذي واجه التتار، وتلميذ العز بن عبد السلام الذي باع السلاطين ليشتري المواقف، وامتداد لروح الشيخ أمين الحسيني الذي قاد الجماهير في وجه الاستعمار والصهيونية.

لقد عاش كأنّه يريد أن يقول: العلماء الحقيقيون لا يكتفون بالدرس، بل يتقدّمون الصفوف، يحملون السيف مع القلم، ويتركون أثرًا لا يزول.

الإرث الحيّ

بعد استشهاده، قال عنه يحيى السنوارمن داخل السجون –: “كان مدرسة قرآنية جهادية خرّجت مئات المجاهدين“. وما قاله لم يكن مجازًا. فبعد سنوات، في معركة طوفان الأقصى 2023، تردّد اسمه في جباليا، وتحوّلت عبارته الخالدةلن يدخلوا معسكرناإلى قسم جديد يتوارثه أبناء المقاومة.

الخاتمة

الشيخ الدكتور نزار ريان (1959–2009) لم يكن مجرد محاضر جامعي أو قائد سياسي. كان عالمًا عاش علمه، ومجاهدًا قدّم نفسه وأهله، وقائدًا رأى أن مكانه ليس على الكراسي بل في الصفوف الأمامية. رحل بجسده، لكنه بقي حيًا في ذاكرة فلسطين، وفي كل شاب يربط على ثغر، وفي كل بيت يرفض التهجير، وفي كل مقاوم يرفع رأسه مرددًا:
لن يدخلوا معسكرنا.. يعني لن يدخلوا معسكرنا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى