علماء من عصرنا

د. عبدالكريم زيدان: الأصولي المجدد والداعية البصير

يُعدّ الدكتور عبد الكريم زيدان العاني (1921 – 2014م) واحدًا من أبرز علماء العراق في القرن العشرين، ومن كبار فقهاء الأمة في أصول الفقه والفكر الإسلامي المعاصر. جمع بين الرسوخ في العلم الشرعي والتمكّن في القانون الوضعي، فكان من قلائل العلماء الذين جسّدوا فكرة التوازن بين الأصالة والمعاصرة، ومن الذين عاشوا الإسلام فكرًا وحركةً وموقفًا.

نشأ الدكتور عبدالكريم زيدان في بغداد بجانب الكرخ، يتيم الأب منذ الثالثة من عمره، غير أن اليتم لم يُطفئ فيه روح الطموح، بل أورثه عزيمة نادرة جعلته يسلك طريق العلم من كُتّاب القرية إلى مدرجات الجامعات، حتى غدا أحد كبار أساتذة الشريعة في العالم الإسلامي.

حفظ القرآن صغيرًا، وتلقى تعليمه على أيدي كبار المشايخ في العراق ومصر، منهم الشيخ أمجد الزهاوي، ومحمد محمود الصواف، ومحمد أبو زهرة، وعلي الخفيف، وحسن مأمون.

بعد تخرجه في كلية الحقوق ببغداد عام 1950، عمل في التعليم، ثم التحق بـمعهد الشريعة بجامعة القاهرة، حيث حصل على الماجستير والدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، عن أطروحته الشهيرة «أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام»، وهي دراسة فقهية مقارنة ما زالت مرجعًا رئيسيًا في هذا الباب.

بين المنبر والمحراب والجامعة

لم يكن الشيخ عبدالكريم زيدان مجرد أستاذ جامعي، بل كان عالمًا يجمع بين الفكر والميدان. فقد درّس الشريعة في جامعة بغداد، وتولى رئاسة قسم الدين في كلية الآداب، ثم أسس كلية الدراسات الإسلامية ببغداد، التي كانت نواة لتخريج جيل من الدعاة والعلماء حملوا فكره ومنهجه الوسطي. كما عمل لاحقًا أستاذًا في جامعة صنعاء وجامعة الإيمان في اليمن، حتى وفاته، تاركًا وراءه إرثًا علميًا متينًا ومئات من طلاب العلم الذين ساروا على نهجه.

تولى كذلك منصب وزير الأوقاف العراقي عام 1968، في مرحلة سياسية حساسة، لكنه لم يستمر طويلًا بعد أن شعر بعدم توافق الأجواء السياسية مع رسالته العلمية والدعوية.

فقيه وداعية ومفكر إسلامي

كان الدكتور عبدالكريم زيدان من أعلام جماعة الإخوان المسلمين في العراق، تولّى منصب المراقب العام بعد مغادرة الشيخ محمد محمود الصواف البلاد عام 1959م، وكان من أوائل من نظّروا لفقه الدعوة والحركة الإسلامية على أسس علمية، حيث رأى أن الدعوة لا تنفصل عن التربية ولا عن العمل الاجتماعي، وكان من الداعين إلى إصلاح تدريجي متوازن يحافظ على ثوابت الدين ويستوعب متغيرات العصر.

من مؤلفاته

ألّف الشيخ عبدالكريم زيدان كتبًا أصبحت مراجع أساسية في الفقه والدعوة، من أبرزها:
«المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية»، «الوجيز في أصول الفقه»، «أصول الدعوة»، «السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد»، «المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة»، و«المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم»، وهو موسوعة فقهية ضخمة في أحد عشر مجلدًا نال عنها جائزة الملك فيصل العالمية عام 1997م.

وفي كتابه «أصول الدعوة» وضع زيدان منهجًا متكاملًا للعمل الدعوي والفكري، فجمع بين الروح الشرعية والوعي الواقعي، فكان مدرسة وسطية في زمن الاستقطاب الفكري، يرى أن الإسلام دين شامل للحياة كلها، وأن الدعوة إليه لا تكون إلا بالحكمة والبصيرة.

في محراب الفكر والعلم

لم يكن العلامة عبد الكريم زيدان منغلقًا على مدرسة أو مذهب، بل انفتح على الفكر الإسلامي كله بروح العالم الممحّص، فناقش القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية من منطلق فقهي مقاصدي عميق. وكتب عن علاقة المسلم بالدولة غير الإسلامية، وعن الديمقراطية، وحقوق المرأة، وحرية الإنسان في الإسلام، بل وسبق عصره في بحث أثر تطبيق الشريعة على تطهير المجتمع من شرور المسكرات والمخدرات.

وقد جمع في تكوينه بين المدرسة الحنفية الرصينة وبين الوعي المقاصدي الحديث، وكان يوازن بين النص والمصلحة، وبين الثابت والمتغير، دون أن يفرّط في أصول الدين أو يتساهل في القطعيات.

في ساح الدعوة والجهاد بالكلمة

كان العلامة عبدالكريم زيدان من العلماء الذين واجهوا الانحراف السياسي والاجتماعي في العراق بالصبر والعلم، لا بالشعارات. وقف ضد التغريب والتبعيث، وكتب محذرًا من القوانين الوضعية التي تصادم الشريعة. ومع اشتداد القبضة الأمنية على العلماء في السبعينيات، أُحيل إلى التقاعد القسري سنة 1978، فاختار طريق القلم والمنبر، وواصل دعوته بالكتابة والتأليف والإذاعة.

عرفته الجماهير من خلال برامجه في إذاعة القرآن الكريم بالسعودية، حيث كان صوته الوقور يملأ الأسماع علمًا ووعظًا وحكمة، كما شارك في مؤتمرات فقهية وفكرية حول العالم، فكان أحد العقول المرجعية في المجامع الفقهية الكبرى، من بينها المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي ومجلس علماء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

الرحيل والإرث الباقي

توفي رحمه الله في صنعاء يوم الاثنين 27 يناير 2014م، عن عمر ناهز سبعة وتسعين عامًا، بعد حياة حافلة بالعلم والجهاد بالكلمة. نُقل جثمانه إلى بغداد وشيّعه العلماء وطلابه ومحبو العلم، ودفن في مقبرة الكرخ التي نشأ بجوارها صغيرًا، فعاد إليها جسدًا بعد عمرٍ أمضاه في خدمة الأمة.

ترك لنا الشيخ عبدالكريم زيدان وراءه تراثًا علميًا وفكريًا خالدًا لا يزال يُدرّس في الجامعات ويُستلهم في مناهج الدعوة، وكان مثالًا للعالم العامل، الذي جمع بين الورع والعلم، وبين الفكر والتطبيق. لم يكن يبحث عن جاهٍ أو منصب، بل كان يرى في العلم عبادة، وفي الدعوة واجبًا، وفي الصبر على الأذى طريقًا إلى الله.

رحل عبد الكريم زيدان، لكن صوته لا يزال يصدح في كتب طلابه، وفي قلوب العلماء والدعاة الذين نهلوا من علمه، وصدق فيه قول الله تعالى:“يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”.

لقد عاش عبد الكريم زيدان عالِمًا حُرًّا، وداعيةً صادقًا، وفقيهًا ربّانيًا، وما تركه من فكرٍ وعطاءٍ هو شاهد حيّ على أن العلماء هم بوصلة الأمة في زمن الاضطراب، وأن أثر الكلمة الصادقة يبقى حين يغيب صاحبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى