خطة البيت الأبيض لغزة بين مقاصد السياسة الشرعية ومزالق الهيمنة الدولية
بقلم: د. وصفي عاشور أبو زيد – أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد،
فإن قضية فلسطين قضية مركزية للأمة الإسلامية، وهي من أكثر القضايا التي كشفت مدى تواطؤ النظام الدولي، وانحيازه الفاضح ضد المسلمين، كما أنها أظهرت هشاشة المواقف الرسمية، وضعف الإرادة السياسية لدى الأنظمة العربية والإسلامية، في مقابل تضحيات الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة التي أذهلت العالم ببطولاتها وصمودها.
وفي خضم العدوان المستمر على غزة، ومع ازدياد فشل الكيان الصهيوني عسكريًّا ومعنويًّا، تتسارع التحركات السياسية الأمريكية والغربية لإعادة صياغة المشهد بما يضمن استمرار الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة تحت عناوين براقة وشعارات خادعة، مثل “السلام الدائم”، و“إعادة الإعمار”، و“حل الدولتين”.
وقد كشفت وسائل الإعلام مؤخرًا عن خطة يعدّها البيت الأبيض لما بعد الحرب في غزة، تهدف إلى إعادة تشكيل الإدارة في القطاع، وتحديد من يتولى الأمن والإعمار، مع الحرص على إقصاء قوى المقاومة، بل وتجريمها تحت ذرائع “نزع السلاح” و“ضمان الاستقرار”.
هذه الخطة تمثل في جوهرها محاولة أمريكية جديدة لفرض وصايتها على المنطقة عبر أدواتها الإقليمية، وتحويل الكارثة الإنسانية إلى فرصة لتكريس النفوذ والسيطرة، مستخدمة في ذلك الخطاب الإنساني كغطاء لأهداف سياسية واستراتيجية بحتة.
إنَّ هذه الخطة المزعومة –التي تروج لها الدوائر الغربية وبعض الأنظمة العربية– تحمل في طياتها جملةً من المخاطر والمزالق التي يجب على الأمة أن تعيها، وأن تتعامل معها بوعيٍ سياسيٍّ مستنير يستند إلى مقاصد السياسة الشرعية وأصولها الراسخة، ومن أبرز هذه المزالق ما يلي:
أولًا: تجاوزُ إرادةِ الشعبِ الفلسطيني ومقاومته المشروعة.
فمن أخطر ما تتضمنه هذه الخطة أنَّها تُقصي المقاومة الفلسطينية، وتستبدلها بسلطةٍ إداريةٍ وأمنيةٍ جديدةٍ تُرضي واشنطن وتل أبيب، وكأنَّ الشعبَ الفلسطيني لا يملك حقَّ تقرير مصيره، ولا يحقُّ له الدفاعُ عن أرضه ومقدساته! وهذا يُعدّ افتئاتًا على حقٍّ أصيلٍ كفلته الشرائعُ السماوية والقوانينُ الدولية على حدٍّ سواء.
ثانيًا: تكريسُ الوصايةِ الدوليةِ على غزة تحت مسمياتٍ إنسانية.
فبدلًا من تمكين أهل القطاع من إدارة شؤونهم بأنفسهم، تعمل الخطةُ على وضع غزة تحت إدارةٍ إقليميةٍ أو دوليةٍ تحت ذريعة الإعمار والإغاثة، وهو ما يعني فعليًّا استمرارَ الاحتلال بأدواتٍ جديدةٍ أكثرَ قبولًا في المشهد الإعلامي والسياسي.
ثالثًا: محاولاتُ هندسةِ الوعيِ الفلسطيني والعربي.
تسعى الإدارةُ الأمريكية وحلفاؤها من خلال هذه الخطة إلى إعادة صياغة العقل الجمعي الفلسطيني والعربي عبر أدواتٍ إعلاميةٍ وتعليميةٍ وثقافيةٍ تموّلها مؤسساتٌ غربية، بهدف تحويل البوصلة من مقاومة الاحتلال إلى قبول الواقع والرضا بالهيمنة.
رابعًا: التطبيعُ الإجباريُّ مع الكيانِ الصهيوني.
تتضمَّن الخطةُ إشراكَ بعضِ الدول العربية في إعادة إعمار غزة وتمويل مشاريعها المستقبلية بشرط التنسيق الكامل مع “إسرائيل”، وهو ما يعني في الواقع فرضَ التطبيع السياسي والاقتصادي والأمني على تلك الدول تحت غطاء المساعدات الإنسانية
خامسًا: تجاهلُ الجذورِ الحقيقيةِ للصراع.
إذ تتعامل الخطةُ الأمريكية مع العدوان على غزة بوصفه “أزمةً إنسانيةً” أو “صراعًا بين طرفين متنازعين”، متجاهلةً أنَّ أصلَ المشكلة هو الاحتلالُ الصهيونيُّ لفلسطين، وأنَّ المقاومةَ هي نتيجةٌ طبيعيةٌ لهذا الاحتلال، لا يمكن نزعُ شرعيتها ما دام الاحتلال قائمًا.
سادسًا: شرعنةُ الوجودِ الصهيونيّ عبر مشاريعِ الإعمار.
فالخطةُ –من حيث المآل– تسعى إلى دمج الاقتصاد الفلسطيني في المنظومة الاقتصادية الإسرائيلية والغربية، وجعل غزة سوقًا تابعةً لاقتصاد الاحتلال، مما يُفقدها استقلالها ويُضعف مقومات مقاومتها، ويُحيل الإعمار إلى أداةٍ للابتزاز والهيمنة لا للنهوض والتحرر.
وفي ضوء هذه المخاطر، تبرز أهميةُ استحضار مقاصد السياسة الشرعية في التعامل مع مثل هذه الخطط الدولية، إذ إن السياسة في الإسلام قائمةٌ على حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، وعلى تحقيق العدل ورفع الظلم، ورفض كل أشكال التبعية والهيمنة الأجنبية.
ولذلك فإن الواجب الشرعي والسياسي على قادة الأمة وعلمائها ومفكريها ومؤسساتها هو:
-
رفضُ أي خطةٍ أو مبادرةٍ تُقصي المقاومة أو تُفرِّط في الثوابت الوطنية والإسلامية.
-
التمسكُ بوحدةِ الأرض الفلسطينية ورفضُ مشاريع التقسيم أو الوصاية الأجنبية.
-
دعمُ صمودِ الشعب الفلسطيني ومقاومته بكل الوسائل المشروعة سياسيًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا.
-
التحذيرُ من الانخداع بخطاب الإعمار والتنمية الذي يُراد به الترويض والتطبيع لا النهوض والتحرير.
-
العملُ على توحيد الموقف الإسلامي والعربي تجاه العدوان والهيمنة الغربية.
إنَّ غزة –بما قدَّمته من تضحيات– لا تحتاج إلى وصاية، بل إلى نصرةٍ صادقةٍ ووفاءٍ عمليٍّ من أمتها، فدماء الشهداء لا يجوز أن تُستثمر سياسيًّا لصالح من تلطخت أيديهم بالعدوان.
والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والحمد لله رب العالمين،
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. وصفي عاشور أبو زيد
أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية