كتاباتكتابات المنتدى

جواهر التدبر (٢٧٣) .. التواشُج بين جنتي الأرض والسماء

جواهر التدبر (٢٧٣)

التواشُج بين جنتي الأرض والسماء

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

لقد وعد الله المؤمنين الذين يخافون مقام ربهم فيعظمونه حق التعظيم ويعبدونه حق العبادة، وعدهم بأن يسكنهم الجنة في الآخرة، وهذا أمر مفهوم لدى جميع المسلمين تقريبا، وقد ورد ذلك بوضوح في آيات غير قليلة، مثل قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَی النَّفْسَ عَنِ الْهَوی‌. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوی‌} [ النازعات: ٤٠، ٤١].
وتكمن المشكلة في أن أعدادا ضخمة من المسلمين تقصر الجزاء دوما على جنة الآخرة؛ نتيجة تسيد أنماط متعددة من التدين المغشوش أو المنقوص، وهي أنماط وافدة من الأديان اللاهوتية التي تقصر العبادة على تنظيم العلاقة بين العبد وربه وتهمل الإنسان، وعندما ننتقل من المدخلات إلى المخرجات نجد نفس التضييق للجزاء بحيث يستوعب الآخرة دون الدنيا!
وبصدد تحديد الجزاء على الخوف من مقام الله نجد آية صريحة واضحة تذكر السكن في هذه الأرض، كجزاء دنيوي سابق للجزاء الأخروي، ففي سياق الرد الرباني على الكافرين الذين توعدوا رسلهم بالإخراج مما سموها بأرضهم إن لم يعودوا إلى ملتهم الجاهلية، وعد الله بإهلاك الظالمين، ثم قال عز وجل: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: ١٤].
ويلفت نظرنا في هذا النص عدم تعيين زمان أو مكان لهذا الوعيد الرباني للظالمين والوعد الإلهي للمتقين، مما يؤكد أن هذا الأمر سنة ثابتة مهما تغير الزمان والمكان والناس، إذ أن طبائع الكفر والظلم واحدة، والرد الرباني ثابت لا يتبدل ولا يتخلف!
لكن وعد الله هذا لا يتحقق بمعجزات وخوارق غيبية، وإنما من خلال السنن التي تعتمل في الحياة والتي أودع الله فيها مشيئته، وتمثل امتحانا ابتلائيا لعقول المؤمنين وعزائم المتقين وهمم الصالحين، ولا يمكن استثمار هذه السنن إلا عبر تضحيات المجاهدين ومصابرة الحاضنة التي يعيشون فيها من المؤمنين.
ومهما يكن الأمر فإن المنهج القرآني يؤكد هنا، وفي مواضع أخرى كثيرة، أن الجزاء مزدوج على الخوف من جلال الله والخشية من عظمته، ذلك الخوف الذي يثمر تفتق الأعمال الصالحة من أكمام العبادات، ومن أرحام العبادات اللازمة تولد العبادات المتعدية، وبمراكمة هذه العبادات ولا سيما المتعدية إلى الناس والمسماة بالفرائض الكفائية، يتم توريث الأرض للصالحين وتحقيق التمكين الدنيوي للمؤمنين العاملين، وهم الذين يسعون لفردسة أرضهم من خلال منهج متكامل يزخر بالقيم المسؤولة عن إقامة الحضارة، وأهمها العلم والعمل والعدل والمساواة والحرية والوحدة.
وعمارة الدنيا هي وسيلة لوراثة الآخرة، كما قال تعالى: {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ من الدنيا} [القصص: ٧٧]، ووصف الله الذين تربّوا على يد من وجّه له الأمر الوارد في الآية السابقة، فقال عز من قائل: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: ٣٧]، وكأنه يقول بأن من صفات الرجال الحقيقيين الانهماك في عمارة الدنيا من زوايا تخصصاتهم المهنية، وفي ذات الوقت فإنهم يتصلون بالله ويبتغون مرضاته ويعملون بدأب من أجل دخول جنته، ولا يمكن أن تلهيهم الدنيا عن الآخرة، والتجارة هنا مجرد مثال، حيث تبقى الدنيا وسيلة تعمل جوارحهم من أجل عمارتها بينما تظل الآخرة غاية تملأ جوانحهم!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى