
اعتقال العلماء في السعودية.. ذاكرة سبتمبر التي لا تُنسى.
بقلم د. منصور منور
في العاشر من سبتمبر 2017، استيقظت البلاد على خبر اعتقال الشيخ سلمان العودة بعد تغريدة دعا فيها إلى تأليف القلوب بين السعودية وقطر، في خضمّ الأزمة الخليجية.
كانت تغريدةً لا تحمل سوى الدعاء، لكنها تحوّلت في نظر السلطة إلى “جريمةٍ كبرى”.
اعتُقل الشيخ في منزله، وصودرت كتبه وهواتفه، وزُجّ به في زنزانةٍ انفرادية لسنوات، وطالبت النيابة بإعدامه، ومنع من العلاج والزيارة، وغير ذلك الكثير من الانتهاكات.
وفي نفس الشهر أيضا اعتُقل أيضا الشيخ عوض القرني، أحد أبرز المفكرين الإسلاميين في السعودية، وصاحب المؤلفات والمحاضرات التي تربّى عليها جيلٌ كامل من شباب المسلمين.
ولم تكتف السلطات بذلك بل كانت هذه بداية اعتقالات طالت عددا كبيرا من العلماء والمفكرين والرموز الدعوية، وكان منهم: الشيخ علي العمري، رئيس جامعة مكة المكرمة المفتوحة، وصاحب المبادرات الشبابية والإعلامية المميزة.
وكذا الشيخ محمد موسى الشريف، العالم والمؤرخ المعروف بخطبه ومحاضراته وتأثيره في مجال التاريخ والحضارة، و الشيخ ناصر العمر، أحد رموز الصحوة وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود، والداعية علي بادحدح، والشيخ أحمد الصويان رئيس رابطة الصحافة الإسلامية، والشيخ محمد صالح المنجد، والشيخ محمد الشنار والشيخ موسى الغنامي وغيرهم الكثير
وبلغ عدد من شملتهم الحملة أكثر من سبعين شخصية علمية ودعوية بحسب منظمات حقوقية، بينهم علماء، وأكاديميون، ومفكرون، وقضاة، وأساتذة جامعات، ورموز من تيار “الصحوة” الذي شكّل وجدان الجيل السعودي في الثمانينيات والتسعينيات.
اعتقالات بلا قضاء..
لم تصدر أوامر قضائية أو مذكرات توقيف، بل كانت الاعتقالات اقتحاماتٍ ليلية مفاجئة في غالبها، يُسحب فيها الشيخ من بيته أمام أهله وأولاده، دون توضيح سبب أو وجهة.
يُمنع من التواصل مع محامٍ، أو الاطلاع على التهم، وتُغلق أبواب الزيارة، حتى عن كبار السنّ والمرضى.
وأما السجون فقد حرم فيها العلماء والدعاة من أبسط حقوقهم، بل سلط عليهم كل أنواع العذابات والإذلال بغية كسر همتهم وإضعاف عزيمتهم.
بل إن بعض العلماء، بعد الإفراج الشكلي عنهم، وُضعوا تحت الإقامة الجبرية، ومنعوا من التواصل أو السفر، ووضعت في أقدامهم أساور إلكترونية للمراقبة تحدّ من تحركاتهم وتخترق خصوصيتهم، في مشهدٍ يختصر معنى القهر وسطوة الطغيان.
وهنا يأتي السؤال: لماذا سجن العلماء؟!
فيما كانت الزنازين تمتلئ برجال العلم والدعوة، كانت البلاد تشهد تحولًا مفاجئًا نحو الانحلال الأخلاقي والانفتاح الترفيهي الممنهج.
ففي العام نفسه الذي اعتُقل فيه العلماء، بدأت تظهر أنشطة هيئة الترفيه بشكل كبير ومتجاوز للقيم الإسلامية والضوابط الشرعية، وبدأت البلاد تغرق في موجةٍ غير مسبوقة من الحفلات الصاخبة، والعروض المختلطة، واستقدام نجوم الغناء والمجون إلى أرضٍ طالما عُرفت بالحياء والوقار.
لم يكن الأمر صدفة.
فقد كان واضحًا أن الطريق إلى “الانفتاح” لا يُعبّد إلا باعتقال العلماء، وأن تفريغ الساحة من صوت الحق ضرورةٌ لكل مشروع فسادٍ يريد أن يفرض نفسه بلا مقاومة.
فحين سكتت المنابر، ارتفعت أصوات المهرجات والحفلات الراقصة.
وحين أُطفئت مدارس التحفيظ، أُضيئت المسارح.
وحين أُسكت صوت العلماء، فُتح الباب لنجوم الرقص والغناء دون أي ضابط من شرع أو عرف أو أخلاق.
وفي الوقت الذي يواجه فيه العلماء أحكامًا قاسية بالسجن أو الإعدام بتهمٍ مثل “الإخلال بالنظام العام” أو “الانتماء لجماعةٍ إرهابية”، تُمنح المناصب لمن يهاجم الدين علنًا، ويسخر من القرآن، ويصف الحجاب بالرجعية، ويبرّر التطبيع مع الاحتلال الصهيوني.
العلماء.. رموز الأمان وأعمدة الاستقرار.
ما لا تدركه السلطات السعودية أن هؤلاء العلماء لم يكونوا مجرّد خطباء أو مصلحين، بل كانوا الحماة من الغضب الرباني الذي قد يتنزل على البلاد التي خلت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}
فهؤلاء العلماء هم الذين أسّسوا المدارس الشرعية، وأحيوا الدعوة، وربّوا أجيالًا على القرآن، وأعادوا إلى الشباب وعيهم وكرامتهم.
من خطب سلمان العودة الهادئة، إلى مؤلفات عوض القرني، إلى دروس ناصر العمر، إلى برامج محمد موسى الشريف، إلى دعوة الشيخ المنجد في المنتديات الإلكترونية…
هؤلاء شكّلوا الوجه الأجمل لبلاد الحرمين، وكانوا سفراءها الحقيقيين للعالم الإسلامي.
اليوم، بعد ثمان سنواتٍ من الظلم، ما زال العلماء في معتقلاتهم، وما تزال صنوف التعذيب تنزل عليهم، وما يزال العالم الذي يعاني من تمترس للشبهات والشهوات بحاجة إلى نصحهم وتوجيههم وإرشادهم.
وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته




