مقالاتمقالات المنتدى

 تأملات في فقه النصر والتمكين (٦)

 تأملات في فقه النصر والتمكين (٦)

بقلم: د. حسن السلهاب( خاص بالمنتدى)

إن النصر والتمكين قد يتأخر لحكمة وقد يأتي فورا، وقد يأتي ولو بعد حين، وكل ذلك مرتبط بمشيئة الله عز وجل، ولكن على المؤمن أن يعمل ويجتهد ويأخذ بكل الأسباب، فلا يجب أبدا أن يستبطئ المؤمن النصر بحجة أنه عمل كثيرا ولم يأت النصر بعد. لكن هناك سنن إلهية يمضي ويعمل التمكين وفقها.
سؤال: هل الله عز وجل قد يمكن للكافرين؟
تأملت قول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، أليس الله عز وجل قد مكن هؤلاء القوم بأن فتح عليهم أبواب كل شيء! أليسوا كانوا في نعيم كبير حتى أنهم فرحوا فرحا عظيما بهذا النعيم! لكن القرآن الكريم يبين السنن التي يمضي عليها التمكين، فيتنوع بتنوعها، فهناك تمكين يمضي على سُنة الإمهال والإملاء. هؤلاء القوم كما يقول العلماء: فتح الله عليهم أبواب كل شيء من أدوات التمكين الاقتصادي والعسكري والمعماري وغير ذلك ليمهلهم ويملي لهم. وأيضا لأن الأمة الإسلامية لم تقم بواجبها كاملا فتمكن هؤلاء القوم من مقاليد الأمور. وأيضا بعض البشر حينما يتم تمكينه يتمرض ويتكبر ويظن أن لن يقدر عليه أحد. تخيلوا قارون كيف تم تمكينه لدرجة يعبر عنها القرآن الكريم فيقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}. لكن قارون تمرض واستكبر وأنكر أن ما هو فيه من نعيم أتى بفكره، وأن علمه وفهمه ورؤيته الثاقبة هي التي جعلته هكذا! {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} وخرج على قومه في زينة وفخر وخُيلاء لدرجة أن ضعاف الإيمان تمنو أن يكونوا ربع أو جزء بسيط مما أٌوتي قارون. وهذه صورة من صور التمكين للباطل لأن الفئة المؤمنة تخلت عن القيام بواجب التمكين في الأرض فكانت النتيجة أن تولى الباطل زمام الأمور، ولكن لحكمة وغاية يعلمها الله عز وجل.
وعلى الجانب الأخر صورة مختلفة من صور التمكين التي تأخرت طويلا، تأخرت مدة لو مرت بنا لطارت عقولنا من شدة الهول والإنكار الذي نوجهه، لكنها صورة حية كأنها ماثلة أمام أعيننا يبينها ويوضحها لنا القرآن الكريم وذلك في قصة سيدنا نوح عليه السلام، تمكين يأت بعد تسعمائة وخمسون عاما من الدعوة، أترون يا إخواني، إنها ألف سنة إلا خمسين عاما! أخذ فيها سيدنا نوح عليه السلام بكل الأسباب، لم يترك وسيلة إبداعية في الدعوة إلا وأخذ بها وذلك ليعذر نفسه أمام الله عز وجل ويترك لنا رسالة مفادها “خذوا بكل الأسباب ولا تستعجلوا النصر والتمكين”. ولنقرأ الأسباب والطرق التي سلكها نوح عليه السلام
قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ ۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}يا تٌرى كم من وسائل الترغيب والترهيب والتقرب إليهم ولمدة تسعمائة وخمسون عاما يدعوهم سيدنا نوح عليه السلام ولم يقنط أو يترك دعوته أبدا فلعل القوم يستجيبون له. لم يبدر منه أي تأفف أو أنه استبطأ النصر والتمكين مطلقا، بل والأعجب من ذلك أن يصبر ويزرع شجرا ويرعاه حتى يكبر، ثم يقطعه ويصنع سفينة في مكان ليس فيه أي نهر ولا بحر، لأنه يثق في موعود الله تبارك وتعالى، ثم تأتي اللحظة الفارقة والتي سيُمكن فيها، لحظة بالأمر بأن التمكين قاب قوسين أو أدنى { حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}هذا القليل ممن أمنوا مع سيدنا نوح لم يذكر الله عز وجل لنا كم عددهم، لأن العدد والله اعلم لا يقارن أبدا بعدد السنوات التي قضها نوح مع قومه، لو تم قسمة العدد الذي أمن على عدد سنوات الدعوة فسيكون الأمر مفجع، لذا تمت الإشارة إليهم بالقليل.
تلك صورة عكسية من صور التمكين ليعلم الدعاة والمجاهدون في سبيل الله أن قضية التمكين لها أسباب يجب أن نأخذ بها، ولكن نتائج تلك الأسباب فقط هي بيد الله فلا يجب أن نسأل متى ولماذا تأخرت النتيجة، لأن الله هو يعلم متى وكيف وأين يأتي التمكين، حتى إذا حدث هذا سوف يتعجب له أهل السماوات والأرض.

إقرأ أيضا:(تذكير اليائسين بأنّ المستقبل لهذا الدّين)! (٢)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى