
الشيخ عكرمة صبري: خطيب الأقصى وأمين المسرى
يُعدّ الشيخ الدكتور عكرمة سعيد عبد الله صبري من أبرز الشخصيات الدينية الفلسطينية المعاصرة، وأحد أكثر علماء القدس حضورًا وتأثيرًا في الشأن الديني والوطني منذ عقود. ارتبط اسمه بالمسجد الأقصى المبارك ارتباطًا مباشرًا، ليس بوصفه خطيبًا فحسب، بل باعتباره أحد أبرز المدافعين عنه في وجه سياسات التهويد والاستهداف الممنهج، ما جعله عرضةً لسلسلة طويلة من التضييق والملاحقة حتى اليوم.
النشأة والتكوين العلمي
وُلد الشيخ عكرمة صبري في مدينة قلقيلية أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، في أسرة عُرفت بالعلم الشرعي والقضاء الإسلامي. فوالده الشيخ سعيد صبري كان قاضي بيت المقدس وعضو محكمة الاستئناف الشرعية، وعضوًا مؤسسًا في الهيئة الإسلامية العليا في القدس، إضافة إلى توليه الخطابة في المسجد الأقصى المبارك. وقد كان لهذا المناخ الأسري أثر واضح في توجه الشيخ عكرمة المبكر نحو العلوم الشرعية والعمل العام.
أنهى دراسته الثانوية في المدرسة الصلاحية بمدينة نابلس، ثم التحق بـ جامعة بغداد حيث حصل عام 1963م على درجة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية واللغة العربية. وبعد سنوات من العمل في التعليم والدعوة، واصل تحصيله العلمي فحصل على درجة الماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة النجاح الوطنية عام 1989م، وكانت رسالته بعنوان اليمين في القضاء الإسلامي.
وفي عام 2001م نال درجة الدكتوراه (العالمية) في الفقه العام من جامعة الأزهر الشريف، عن أطروحته الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق.
تتلمذ الشيخ عكرمة على عدد من كبار العلماء في العالم العربي والإسلامي، من بينهم مصطفى الزرقا، معروف الدواليبي، محمد حسين الذهبي، ياسين الشاذلي، وغيرهم، إضافة إلى والده.
العمل التعليمي وبناء المؤسسات
بدأ الشيخ حياته العملية مدرسًا في ثانوية الأقصى الشرعية بالقدس عام 1963م. وبعد نكسة عام 1967م، تولّى إدارة المدرسة في مرحلة شديدة الصعوبة، إذ صادرت سلطات الاحتلال مبناها الأصلي (المدرسة التنكزية)، ما اضطرها إلى التنقل بين أكثر من مقر، إلى أن استقر بها الحال في أروقة المسجد الأقصى المبارك – باب الأسباط.
خلال هذه الفترة، لعب الشيخ دورًا محوريًا في الحفاظ على استمرارية التعليم الشرعي في القدس، وأسهم في تحويل ثانوية الأقصى إلى مركز علمي مؤثر. وفي عام 1972م أسّس أول دارٍ للقرآن الكريم في القدس وضواحيها، التي شكّلت نواة للعمل القرآني المنظم في المدينة.
الوعظ والإرشاد والإفتاء
بين عامي 1974 و1994 شغل الشيخ منصب مدير الوعظ والإرشاد في القدس والضفة الغربية، وهو موقع أتاح له احتكاكًا مباشرًا بالواقع الاجتماعي والديني للفلسطينيين، في ظل الاحتلال وتبعاته اليومية.
وفي أكتوبر 1994م عُيّن مفتيًا عامًا للقدس والديار الفلسطينية، واستمر في هذا المنصب حتى عام 2006م. وخلال فترة إفتائه، برز بدفاعه العلني عن القدس ومقدساتها، وبتناوله القضايا الفقهية المتصلة بالواقع السياسي والاجتماعي، خصوصًا ما يتعلق بالأوقاف، والمقدسات، وحقوق الفلسطينيين في مدينتهم.
كما شغل موقع خطيب المسجد الأقصى المبارك منذ عام 1973م، وهو المنصب الذي أصبح العنوان الأبرز لسيرته، حيث تحوّلت خطبه إلى منبر يعالج القضايا الدينية والوطنية معًا، الأمر الذي وضعه باستمرار في دائرة الاستهداف الإسرائيلي.
القيادة الشرعية والعمل المؤسسي
تولى الشيخ عكرمة صبري رئاسة الهيئة الإسلامية العليا في القدس منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وهي من أهم الهيئات الدينية المعنية بشؤون القدس والمقدسات الإسلامية. كما أسّس عام 1992م هيئة العلماء والدعاة في فلسطين وترأسها، وساهم في إنشاء وتفعيل أطر علمية وشرعية تهدف إلى توحيد الخطاب الديني والدفاع عن الثوابت.
وشغل عضوية عدد من المجامع والهيئات العلمية محليًا ودوليًا، وشارك في مئات المؤتمرات والندوات داخل فلسطين وخارجها، كان محورها الأساس القدس، والمقدسات، والفقه المعاصر، وقضايا الأمة.
المؤلفات والنتاج العلمي
ترك الشيخ عكرمة صبري رصيدًا علميًا كبيرًا، جمع بين التأصيل الفقهي والمعالجة الواقعية. ومن أبرز مؤلفاته:
-
الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق
-
اليمين في القضاء الإسلامي
-
مذكرات في الحديث الشريف (ثلاثة أجزاء)
-
التنوير في العقيدة والتفسير
-
الوجيز في علم أصول الفقه
-
الوجيز في علم مصطلح الحديث
-
أضواء على إعجاز القرآن الكريم
-
الدعوة الإسلامية ضرورة واجبة
-
الإسلام والتحديث
-
التربية في الإسلام
-
حقنا في فلسطين
-
فتاوى مقدسية
إضافة إلى عشرات الأبحاث العلمية التي تناولت القدس، والأوقاف، والحوار، والعولمة، والتطرف، وقضايا المجتمع المعاصر.
النضال المقدسي وسياسة التضييق
بسبب مواقفه الواضحة وخطبه المدافعة عن المسجد الأقصى، تعرّض الشيخ عكرمة صبري لسلسلة طويلة من الإجراءات الإسرائيلية، شملت:
-
الإبعاد المتكرر عن المسجد الأقصى، كان أبرزها قرار الإبعاد في يناير 2020، ثم قرارات لاحقة امتدت لأشهر متتالية.
-
المنع من السفر والاستدعاء المتكرر للتحقيق من قبل الشرطة والمخابرات الإسرائيلية.
-
قرار منعه من دخول المسجد الأقصى لمدة ستة أشهر في أغسطس 2024 على خلفية خطبة ألقاها، جرى تمديده لاحقًا.
-
الاستهداف السكني، حيث صدر في يوليو 2025 قرار نهائي بهدم بناية سكنية في القدس كان من بين سكانها، في سياق سياسة هدم ممنهجة تطال المقدسيين.
المحاكمات الأخيرة
بلغت سياسة التضييق ذروتها في نوفمبر 2025، عندما بدأت السلطات الإسرائيلية إجراءات محاكمة الشيخ عكرمة صبري بتهمة “التحريض”. واستند ملف الاتهام إلى:
-
خطبة ألقاها في المسجد الأقصى المبارك،
-
كلمتين ألقاهما في بيتي عزاء عام 2022،
-
ونعيه لشخصية فلسطينية بارزة خلال خطبة الجمعة.
وقد اعتُبرت هذه المحاكمة حلقة جديدة في مسلسل استهداف الخطاب الديني في القدس، ومحاولة لتجريم المنبر وتحويل الكلمة الدينية إلى مادة اتهام قانوني، في سياق أوسع من التضييق على العلماء والخطباء المرتبطين بالأقصى.
وفي الأخير
تمثل سيرة الشيخ عكرمة صبري نموذجًا لعالمٍ جمع بين العلم والعمل العام، وبين الفقه والدفاع عن المقدسات. فمن التعليم والتأليف، إلى الإفتاء والخطابة، ثم إلى المواجهة المفتوحة مع سياسات الاحتلال، ظل حضوره مرتبطًا بالقدس والمسجد الأقصى باعتبارهما محور رسالته الدينية. وما يتعرض له حتى اليوم من تضييق ومحاكمات يعكس موقعه الحقيقي في معادلة الصراع على هوية المدينة ومقدساتها، ويجعل سيرته واحدة من أبرز سير علماء عصرنا في فلسطين.




