مقالاتمقالات مختارة

هل تلعب كليات الشريعة الإسلامية دورًا حقيقيًا في هوية تركيا الحديثة؟

هل تلعب كليات الشريعة الإسلامية دورًا حقيقيًا في هوية تركيا الحديثة؟

بقلم د. ياسين أقطاي

بعد 3 أيام من قيام الجمهورية في 26 أبريل/نيسان 1923، بدأ جدال “هل سيستمر التعليم على ما كان عليه في فترة ما بعد الخلافة العثمانية، تعليما دينيا، أم أنه سينقسم إلى تعليم ديني وآخر خاص بالعلوم الطبيعية، ويكون كل منهما على حدة؟”.

تم إصدار قانون جديد باسم توحيد الدراسة في مارس/آذار 1924، حيث نُقلت صلاحية إدارة جميع المدارس -بما فيها مدارس اﻷئمة والخطباء- إلى وزارة التربية الوطنية.

في عام 1924، تم إلغاء الدروس الدينية من برامج تأهيل المعلمين للمرحلة الثانوية، وللمرحلة الإعدادية عام 1927، وللمرحلة الابتدائية عام 1929 أو 1930، بهدف فصل الدين تماما عن الدولة.

قرار إعادة فتح كليات الشريعة الإسلامية ومدارس الإمام الخطيب من الخطوات التي اتبعها حزب الشعب الجمهوري لمواكبة الديمقراطية وتطلعات الشعب، لكن اتخاذ هذا القرار لم يكن سهلا، لأنه ترسخ خلال فترة حكم الحزب الواحد هوس أيديولوجي تجاه جميع الأديان ومظاهر التديّن، ولم يكن من السهل تبني سياسة جديدة.

إذن، كان الهدف من الإغلاق الكامل لكليات الشّريعة الإسلامية ومدارس الإمام الخطيب في عام 1933 واضحًا مهما تعدّدت واختلفت المبرّرات، وهو: طمس الهوية الإسلامية للمجتمع التركي؛ وسط مخاوف من مساهمة هذه المؤسسات التي تُدرّس علوم الدين في إعادة إحياء المعتقدات الدينية وتعاليم الإسلام في المجتمع.

توقع البعض أن تبني نظرية الفهم الوضعي النموذجي عن الدين التي ظهرت في القرن التاسع عشر -التي صوّرت جميع الأديان على أنها خرافات- يمكن أن تدفع المجتمعات إلى التخلي عن الدين ليختفي من تلقاء نفسه مع تطور العلم، لكن هذه النظرية لم تُطبّق بشكل قسري من قبل الدول الأوروبية، وإنما كان العمل بها “تلقائيًا”. لكن في تركيا، لم يترك التيار العلماني هذا الأمر للحظ.

كان يُروّج للدين على أنه خرافة، واستُبعد من المجال الاجتماعي بقرار من الدولة، حيث حُظرت جميع الأنشطة الدينية المدنية وأغلِقت جميع نزل الدراويش، ومُنعت دورات تحفيظ القرآن والمدارس الدينية. والسؤال المطروح: ما الذي غيّر رأي حزب الشعب الجمهوري الذي طبّق هذه الممارسات بأكثر الطرق جذرية لمدة 20 عامًا، بشأن كليات الشريعة الإسلامية ومدارس الإمام الخطيب ودفعه إلى إعادة فتحها مرة أخرى؟

هناك العديد من الأسباب التي تفسر ما حدث: أولها الانتقال الديمقراطي الذي شهدته تركيا والتعدديّة الحزبية. في عام 1946، بدأ حزب الشعب الجمهوري يرى أن الوضع لا يمكن أن يبقى على حاله دائمًا. ومع أن أول انتخابات متعددة الأحزاب أجريت بحيل “الاقتراع المفتوح والتصنيف السري”، فإنه من الواضح أنه كان يخشى ردة الفعل الشعبية. لذلك، كان يعتقد أن الدين يمثل أفضل قناة اتصال مع الشعب التركي.

بعبارة أخرى، كان قرار إعادة فتح كليات الشريعة الإسلامية ومدارس الإمام الخطيب من الخطوات التي اتبعها حزب الشعب الجمهوري لمواكبة الديمقراطية وتطلعات الشعب. لكن اتخاذ هذا القرار لم يكن سهلا، لأنه ترسخ خلال فترة حكم الحزب الواحد هوس أيديولوجي تجاه جميع الأديان ومظاهر التديّن، ولم يكن من السهل تبني سياسة جديدة.

قام حزب الشعب الجمهوري، الذي أغلق مدارس الأئمة والخطباء، في عام 1949 بعقد دورات تأهيل للأئمة والخطباء، استمرت 10 أشهر، لخريجي المدارس الإعدادية، لتأهيلهم وتوظيفهم أئمة وخطباء.

ولكنها لم تلقَ إقبالًا، وذلك لاشتراطها على من يريد التسجيل أن يكون منهيا خدمته العسكرية ومتخرجا من الإعدادية على اﻷقل، ويصعب ذلك ﻷن عدد المدارس الإعدادية كان قليلًا جدًا، ومن أنهى خدمته العسكرية غالبا ما يكون متزوجا وعنده أطفال، ولا توجد معاشات للأئمة والخطباء والمؤذنين في المساجد، لذلك فشلت الدورة.

في المناقشات الساخنة خلال المؤتمر السابع لحزب الشعب الجمهوري في عام 1947، كانت الحجج التي اعتمدها مؤيدو هذا القرار تُفيد بأنه وسيلة لمحاربة الدين وليس تنازلاً أمام الرجعية، وعندما نوقشت هذه المسألة مرة أخرى في البرلمان التركي رُددت حجج مماثلة من قبيل:

“لا تعتقدوا أنه مع افتتاح كلية الشريعة الإسلامية ستُبعث الرجعية التي دُفنت مع التاريخ من جديد، بل على العكس من ذلك، سيقع تدريب علماء الاجتماع والفلاسفة في هذه الكليات، وسيشرحون علميًا حقيقة الخرافات والأساطير التي يقوم عليها الدين. أما الفقه الذي يُنظر إليه على أنه ممارسة للشريعة، فلن يُدرس هناك”.

أولئك الذين لم يكونوا راضين عن هذا القرار حصلوا على ضمانات طمأنتهم، تمثلت أساسا في إضافة المادة 163 الشهيرة من قانون العقوبات التركي، ليتم بذلك قطع الطريق أمام عودة الرجعية المزعومة. وهذا يعني أن الأيديولوجيا التي كانوا يُحاولون فرضها على الشعب بالقوة، باتت تُطبّق من قبل رجال الدين الذين نشؤوا تحت أنظارهم.

أما السبب الثاني وراء ذاك القرار، فهو الحقائق التي فرضت نفسها في ذلك الوقت، وبالتحديد التطورات التي خلقت انطباعًا بأن سياسات القمع لم تعد تجدي نفعًا. صحيح أن جميع الأنشطة الدينية كانت محظورة، لكن ذلك لم يمنع الناس من ممارسة شعائرهم في الخفاء بوسائلهم الخاصة. كما برزت طوائف ومنظمات مجتمعية خارج نطاق سيطرة الدولة، الأمر الذي بدأ يثير قلق السلطة. وبدأ العديد من الجهود الرسمية أيضا لإعادة الدين إلى وضعه الطبيعي في البلاد، وإعادة التعليم الديني ليلعب دوره الهام والرئيسي، حيث صرح برلماني تركي في إحدى الجلسات البرلمانية، قائلا:

“أصدقائي الأعزاء، نحن لم نقم ببناء سدود وموانئ فقط في هذه البلاد. نحن لم نقم بإنشاء طرق ومصانع فقط في هذه البلاد. نحن لم نؤمن للقرويين الماء والطعام والقمح فقط، بل قمنا بتأمين الغذاء الضروري والمعنوي لبقاء هذه الأمة وعدم زوالها. نحن فتحنا مدارس اﻷئمة والخطباء”.

في كتابه “ولادة تركيا الحديثة” الصادر عن الجمعية التاريخية التركية، يصف برنارد لويس هذا الوضع المأساوي، قائلا: “كانت هناك مؤشرات كثيرة على استمرار الدين الشعبي من تحت السطح، في شكل طوائف شيوخ الدراويش، خاصةً في الأناضول”. ويقول أيضا “إن ندرة رجال الدين المتعلّمين الحقيقيين خلال فترة طويلة من الزمن، والنقص الحاد في الأشخاص المؤهلين لتعليم الدين والقيام بمختلف المهام الدينية في المدارس والمساجد فتحت المجال أمام المتعصبين والجاهلين، وكان لذلك في كثير من الأحيان عواقب وخيمة. وهذا هو السبب الذي دفع السلطات -ولو جزئيا- إلى إعادة فتح كلية الشريعة الإسلامية “الإلهيات” في أكتوبر/تشرين الأول 1949″.

فتحت مدارس الإمام الخطيب وكلية أصول الدين أبوابها في محاولة لاستعادة السيطرة التي فقدتها الدولة. ويمكن القول إن الدوافع التي أدت إلى إغلاق آخر مؤسسة تعليم ديني في عام 1933، هي نفسها التي أعادت فتحها في عام 1949.

كان يُعتقد بعد قرن من التغريب في تركيا أنها بذلك شهدت تغيرات هائلة وجذرية، لكن في الحقيقة الجذور الإسلامية للحياة والثقافة التركية العميقة كانت حيّة، وما زالت تمثل الهوية الأساسية لها دون منازع.

لكن التوقعات التي أعطت الضوء الأخضر لإعادة فتح هذه المؤسسات كان الهدف منها تكوين علماء اجتماع وفلاسفة في مجال الدين، وليس تكوين رجال دين. وعندما تم افتتاحها لأول مرة، كانت هيئة التدريس بأكملها مكونةً من أساتذة لا يعرفون الإسلام بشكله الصحيح.

تم تعيين يوسف ضياء يوركان -الذي كان مدرسًا سابقًا في كلية الشريعة الإسلامية- لتدريس تاريخ الطوائف الإسلامية، ورمزي أوغوز أريك -الذي كان مدير متحف الإثنوغرافيا في أنقرة- لتدريس تاريخ الفنون الإسلامية، وكان حلمي عمر بود -عضو جمعية اللغة التركية- أول أستاذ يتم تعيينه لتدريس تاريخ الأديان، بينما أصبح عيسات أرسبوك -أستاذ الشريعة الإسلامية- أول عميد لكلية الشريعة الإسلامية.

كان للخطابات الأولى في الكلية مقاربة استشراقية أكثر منها دينية، وقد حظي خريجو هذه الكلية الذين تتلمذوا على يد أساتذة معروفين بهوياتهم العلمانية، مثل: بحرية ججوك ونسيت شجاتاي، بقبول من قبل الجمهور المسلم، ومن بينهم نجاتي أونر وطلعت كوجيجيت وإسماعيل جراح أوغلو.

في ظل الظروف الديمقراطية، بدأت كلية الشريعة الإسلامية الاستجابة للتوقعات المرجوة منها. وتعتبر هذه الكليات إلى جانب مدارس الإمام الخطيب مكاسب حقيقية للشعب منذ سبعينيات القرن الماضي. والارتباك الذي نراه اليوم من وقت لآخر ما هو إلا صدى لما حدث في التاريخ القديم، في تلك الفترة التي كانت تتم فيها محاولات الإجهاز على الخطاب الديني والهوية الإسلامية لتركيا.

كان يُعتقد بعد قرن من التغريب في تركيا أنها بذلك شهدت تغيرات هائلة وجذرية، لكن في الحقيقة الجذور الإسلامية للحياة والثقافة التركية العميقة كانت حيّة وما زالت تمثل الهوية الأساسية لها دون منازع. إن عودة ظهور التعليم الديني بعد فاصل زمني طويل هو بمثابة استجابة لحاجة وطنية عميقة، وبالرغم من أن هناك بعض الخطابات المتطرفة التي ما زالت تمارس وتقال باسم الدين، إلا أنه سيكون هناك دائماً تلك الفئة المتعلمة بشكلٍ حقيقي التي تتبنى خطاباً وسطياً قوياً يجمع بين الإسلام والهوية والحداثة.

المصدر: الجزيرة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى