كتب وبحوث

نوال السعداوي: نموذج للنُّخب الفكريَّة من أرباب الماسون 6 من 6

نوال السعداوي: نموذج للنُّخب الفكريَّة من أرباب الماسون 6 من 6

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

إبليس يستقيل من مهمَّة إغواء البشر والإله يبحث عن بديل!

يقرُّ الإله بفساد ملوك الأرض والحاجة إلى إرسال رسول جديد، معلنًا عن اجتماع مغلق مع الأنبياء لا تحضره النّساء؛ وحينها تعترض “بنت الله” وحواء، وتتساءل الأخيرة “أليس هناك امرأة واحدة تصلح أن تكون نبيَّة؟!” (صـ47). يستغلُّ إبليس فرصة استماع الإله إليه ليقدّم استقالته ويتوقَّف عن الإغواء، لكن بعد أن يواجه الإله بحقيقته (صـ47-49):

لم تجعل الفضيلة الكبرى هي العدل أو المنطق، بل جعلتها عبادة ذاتك وعدم عبادة إله آخر، وأصبح الشّرك بك هو الإثم الأعظم، وتقول في كتابك القرآن: ويغفر الله الذنوب جميعا إلا أن يشرك به، هكذا يا سيدي ضحيت بالعدل والمنطق، وحكمت على من لا يعبدك بالكفر والإلحاد وشرعت للنَّاس قتله، وادعيت أنك تعرف كل شيء عن البشر وأنت لا تعرف عنهم شيئًا، ولا تستطيع أن تتصل بهم مباشرة، وإلا ما أرسلت إليهم رسلًا، وقد حاولت أن تخفي عجزك بالغموض والرَّمز أو التَّأثير على النَّاس بالمعجزات والسّحر… جعلت العبادة والطُّقوس الدّينيَّة فوق المبادئ الإنسانيَّة العليا، صحيح أنك كنت تتراجع أحيانًا، وتقول: لا إكراه في الدين، لكنَّك بصفة عامة وقفت ضدَّ الفكر الحر والمعرفة… جعلتني في هذه الكتب الثَّلاثة عدو البشر والمسئول عن الشَّر في العالم، ولكن كيف أكون المسئول وأنت الذي تملك القوة والسّلاح والمال والمعرفة والإعلام والسَّماوات والأرض؟! … أنا إبليس المسكين الذي لا يملك سيفًا واحدًا، ولم يحمل في يده سلاحا أي سلاح. ما ذنبي يا سيدي وما خطيئتي؟! أنني رفضتُ الرُّكوع لآدم؟ كيف أركع لحاكم فاسد يا ربي؟ لقد اعترفتَ يا سيدي في كتابك أن آدم فاسد، ومع ذلك جعلته خليفتك في الأرض، ثارت الملائكة جميعًا وليس أنا وحدي…تراكمت المظالم والمفاسد في العالم، حتَّى أغرقت الأرض بالحروب والدم. يا سيّدي أنت جعلت القلَّة الَّتي تملك السّلاح والمال تتحكَّم في الأغلبيَّة السَّاحقة من البشر الَّتي لا تملك السّلاح ولا المال. أنت جعلتَ الرّجال الرّجال يتحكمون في النّساء، وشرعتَ لهم الخيانة، وفرضت على المرأة وحدها الإخلاص الزَّوجي. أنت يا سيّدي شجَّعتَ الجهل والغموض، قاومتَ المعرفة…

وتبرّئ الكاتبة التَّنويريَّة، لن نقول المتأثّرة بأفكار الطَّائفة النُّورانيَّة رائدة حملة التَّمرُّد على الإله، إبليس، بل وتجري على لسانه خطبة عصماء يدين فيها الإله ويثبت أنَّه المسؤول الأوَّل عن معاناة البشر، متَّهمًا إيَّاه بدعم الرَّأسماليَّة الغاشمة الَّتي كرَّست لهيمنة أصحاب المال على سائر البشر، وكذلك بالعنصريَّة ضدَّ المرأة ومحاباة الرَّجل على حسابها.

هل تنجح امرأة في هداية البشر بعد فشل الرّجال؟!

يُلاحظ أنَّ النَّبيَّ الوحيد الَّذي لا يدين الإله أو يعدّد شيئًا من تجاوزاته هو محمَّد، نبيُّ المسلمين، كما تقدّمه السَّعداوي، وليس نبيَّ آخر الزَّمان المبعوث رحمةً للعالمين، كما يصفه الله تعالى في كتابه العزيز. يدافع النَّبيُّ محمَّد عن الإله، بل ويمتدح رحابة صدره وقبوله الرَّأي الآخر (صـ50):

كان ربُّنا الكريم واسع الصدر، وقد ضرب لنا مثلًا عظيمًا في احترام الرأي الآخر، وهو سبحانه الَّذي قال لنا: لا إكراه في الدّين، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، هؤلاء الَّذين يقتلون باسم الإسلام يشوّهون صورته الصحيحة، مما يعطي أعداءنا الفرصة للنَّيل منه، وقد أصبح الإسلام في الغرب هو العدو الأول بعد سقوط الشُّيوعيَّة.

يؤيّد النَّبيُّ عيسى قول النَّبيّ محمَّد بشأن ضرورة وجود عدو “لتبرير وجود الحرب ومصانع الأسلحة”، متسائلًا “هل يمكن أن تتخيل هذا العالم بدون عدو؟ أو بدون شيطان؟ بعد استقالة إبليس ماذا يكون الكون يا أخي محمد؟” (صـ50). يلوم الأب إبراهيم حفيده موسى على تجاوزات قومه، أي دولة يهود العصر الحديث، في حقّ الفلسطينيين، ويردّ موسى بقوله (صـ50):

إنه صراع بين فرنسا وأمريكا يا سيدي حول منطقة الشَّرق الأوسط وما فيها من بترول. أنا بالطَّبع لا أتفق مع هذا النتانياهو، إنَّه يبالغ في قسوته على الفلسطينيين، ويشجّع المستوطنات غير الشَّرعيَّة في الأرض المحتلَّة، وهذا يعطل مسيرة السَّلام الَّتي نحن أحوج إليها من العرب، لتعيش دولة إسرائيل في أمان بدلًا من هذه الحروب.

يُفهم من كلام النَّبيّ موسى أنَّه ليس ضدَّ تأسيس دولة الاحتلال الصُّهيوني، إنَّما هو ضدَّ استخدام العنف في حقّ الفلسطينيين، ويدعو إلى إفشاء السَّلام بدلًا من الحرب. يبدأ الاجتماع المغلق بين الإله والأنبياء الأربعة، ويتركّز النّقاش في البداية حول اختيار عدو جديد للبشر يقوم بمهمَّة إبليس في الوسوسة والإغواء، بعد أن قدَّم الأخير استقالته. يرفض الأنبياء لعْب دور إبليس، ولكلّ مبرّره، ليتحوَّل النّقاش إلى موضوع آخر، وهو طلب النَّبيّ محمَّد إعادة إرساله لهداية البشريَّة. يفضّل إبراهيم أن يكون موسى هو الرَّسول الجديد، ويعترض محمَّد، مفضلًّا عيسى، إن لم يكن هو النَّبيُّ المختار، بينما يختار عيسى أنَّ يكون النَّبيُّ الجديد امرأة، ليرشّح محمَّد زوجته خديجة، الَّتي آمنت به ودعمته بمالها. لا يؤيّد عيسى الاختيار، مرشّحًا أمَّه مريم العذراء، الَّتي يقرُّ القرآن الكريم بطهارتها، وذكرها ولم يذكر خديجة. يلقى ترشيح مريم العذراء قبول الأنبياء، وحينها يقول إبراهيم “لعلَّ الله يصلح الكون برسولة امرأة، بعد أن فشلنا نحن جميعًا الرجال” (صـ53). تعترض حوَّاء على عدم ترشيحها ضمن المرشَّحات للبعثة النَّبويَّة، وتزكّي نفسها بأنَّها أوَّل من أدرك أنَّ المعرفة يُهتدى إليها بالتَّفكير والتَّجربة، وليس بمجرَّد تلقّي العلم عن الإله، الَّذي تتهمه حوَّاء بأنَّه طردها من الجنَّة لأنَّها صارت تهدّد سيطرته على المعرفة. تقول حوَّاء عن الإله (صـ55):

ادَّعى لنفسه المعرفة وطردني منها، مع أنني صاحبة المعرفة الأولى من خلال تجربتي في حياتي؛ فالمعرفة يا سيد رضوان لا تنتج إلا من التَّجربة في مكان معين وزمان معين، وسيدك الأعلى يعيش خارج الزمان وخارج المكان، فمن أين يحصل على المعرفة؟! المعرفة يا سيد رضوان تنتج عن الحواس والعقل داخل تجربة نعيشها.

تردّد السَّعداوي، على لسان حوَّاء، قول المفكّرين التَّنويريين اليوم، وهو قول المعتزلة من قبل، عن تقديم العقل على النَّقل واستبعاد كلّ ما ينافي المنطق من النُّصوص والأحكام الدّينيَّة. وتجد النَّبيَّ محمَّدًا يؤيّد موقف حوَّاء في مواجهة رضوان، حارس الجنَّة وممثّل الإله، الَّذي يصرُّ على أنَّ الإله هو منبع المعرفة والمتحكّم في الهداية؛ ويردُّ محمَّد على رضوان بقوله (صـ55):

نعم يا سيد رضوان، لكن الله قال أيضًا في قرآنه الكريم:﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾إنَّنا نولد يا سيد رضوان وعقولنا صفحة بيضاء، لا نعرف شيئًا ثم نتعلم ونكتسب المعرفة عن طريق السَّمع والبصر والأفئدة، والأفئدة تعني القلوب، ما تحسه القلوب أي الحواس.

توضح عبارة “إنَّنا نولد…وعقولنا صفحة بيضاء” ترويج السَّعداوي لنظريَّة الصَّفحة البيضاء، أو اللوح الفارغ (Tabula Rasa)، الَّتي خرج بها المفكّر البريطاني، جون لوك، وهو أحد كبار مفكّري عصر التَّنوير الغربي في القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر للميلاد، والَّتي تنفي إمكانيَّة الحصول على المعرفة بدون تجربة وإدراك حسّي؛ أي أنَّ وصول المعرفة من خلال الوحي الإلهي لا يتَّفق مع تلك النَّظريَّة إطلاقًا. غير أنَّ السَّعداوي تجعل النَّبيَّ محمَّدًا يقرُّ بذلك، وكأنَّما تريد أن تجعله يشهد بلسانه على كذب رسالته. وفي دعوة للتَّوقُّف عن العمل ببعض النُّصوص القرآنيَّة بحجَّة أنَّها لا تصلح لكلّ زمان ومكان، تجعل الكاتبة محمَّدًا يدَّعي أنَّ العمل بالآيات لا بدَّ وأن يكون بحسب التَّوقيت الَّذي نزلت فيه والهدف وراء ذلك (صـ56-57):

لنفهم هذه الآيات يا سيدنا إبراهيم، لا بد من إرجاعها إلى الظُّروف التي نزلت فيها، ولكلّ آية ظرف يختلف عن الآية الأخرى، مثلًا كان الله يأمرني بالقتال حتى ترتفع كلمة الله «وقاتلوا الَّذين كفروا بالله والرسول». وفي ظروف أخرى كان ينهاني عن القتل ويأمرني بالتَّفاوض والصُّلح﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا ﴾لا بد من معرفة المكان والزَّمان الَّذي نزلت فيه الآية لنفهمها ونعرف أسبابها… هناك أحكام ثابتة مطلقة في كتاب الله وهناك أحكام متروكة للبشر يغيّرونها حسب مصالحهم، فإذا تعارَض نصٌ مع المصلحة العامَّة للنَّاس تغيَّر النَّص، لكن هناك نصوص ثابتة مطلقة لا تقبل التَّغيير أبدًا.

خلاف حول مفهوم الألوهيَّة والعقيدة الإيمانيَّة السَّليمة

ينتقد عيسى بن مريم إنكار القرآن الكريم لصلْبه، ويعارض مبدأ التَّوحيد الَّذي يقوم عليه الإسلام، مشيرًا إلى أنَّ المسيحيَّة تؤمن بالتَّثليث، وليس التَّوحيد. ومن المثير للانتباه أنَّ النَّبيَّ إبراهيم ينتقد عقيدة الحساب بعد الموت؛ إذ يرى أنَّ العقاب على الآثام يجب أن يكون في الدُّنيا، إلَّا كان ذلك نوعًا من الظُّلم. ينفي إبراهيم أن يكون أوَّل من دعا إلى التَّوحيد، مادحًا الحضارة الفرعونيَّة الَّتي خرجت بعقائد إيمانيَّة سبقت تعاليم الإله، على حدّ وصْف السَّعداوي (صـ60-61):

إنَّ التَّوراة لا تشير إلى إله واحد بل «إلوهيم»؛ أي مجموعة من الآلهة. وقد بدأ التوحيد متأخرا في مصر القديمة في عهد نفرتيتي وأخناتون، وكان للمصريين القدماء آلهة كثيرة منهم آلهة أقاليم وآلهة مدن وآلهة عواصم وآلهة للدولة وآلهة لقوى الطبيعة وآلهة للملوك وآلهة للشَّعب. وفكرة الحساب بعد الموت والدار الآخرة عرفها القدماء المصريون قبل ظهور التوراة بقرون. الحقيقة أن عقيدة الحساب بدأتها المرأة المصريَّة القديمة، وفكرة العدل أيضًا بدأتها المرأة المصرية القديمة، أو آلهة العدل، وهي أول من استيقظ فيها الضمير الإنساني.

تطرح السَّعداوي مفهومها العصري عن الألوهيَّة، على لسان شخصيَّة “بنت الله” الَّتي تمثّلها، وهو مفهوم قائم على المساواة بين الذَّكر والأنثى، بل تغلب عليه الصّفة الأنثويَّة، ينصف المرأة ولا يجعلها في مرتبة دونيَّة مقارنةً بالرَّجل، ويعلي كلمة العقل والمنطق دون أن يفرض تعاليم تكرّس لهيمنته على العقول (صـ62):

لهذا لا يوجد شيء اسمه كلمة الله المطلقة، كلمة الله نسبية تعتمد على القوَّة الَّتي تستخدمها، وقد بدأ النّساء يتضامنَّ في بعض البلاد ويمثلن قوة جديدة، تستخدم التَّوراة أو الإنجيل أو القرآن من أجل تحرير النّساء وليس من أجل عبوديتهن؛ مثلًا لم يعد الله عند هؤلاء النّساء يخاطب بلغة المذكَّر. إن أي دين يعطي الإله صفة الذُّكورة، وإن كانت لغويَّة، يضع المرأة بالضَّرورة في مستوى أقل من الرجل في اللغة. إن اللغة الإنجليزيَّة والفرنسيَّة والعربيَّة والعبريَّة وغيرها لغات ذكورية طردت النساء من اللغة، ليس اللغة فقط ولكنَّ جملة الرُّموز في الأديان السَّماويَّة كلّها ضدَّ المرأة بل ضدَّ الفقراء أيضًا، وإذا كان الإله السَّماوي ذكرًا فلا بدَّ أن يكون الحاكم الأرضي ذكرًا أيضًا؛ لأنَّ الإله نموذج البشر، وإذا قال الإله كلامًا متناقضًا أصبح التَّناقض أو الازدواجيَّة سمة البشر، وإذا كانت كلمة الله ضدَّ المنطق والعقل، أصبحت لغة البشر ضد المنطق والعقل.

يشتدُّ الجدال بين “بنت الله” والنَّبيَّ محمَّد، حيث تصرُّ “بنت الله” على أنَّ الإله لم يعدل لمَّا أوحى للأنبياء دون سواهم من البشر، وتجد النَّبيَّ إبراهيم يؤيّد هذا الرَّأي بقوله “وما الفرق بيننا وبين النَّاس من الشَّعب؟” (صـ65). وفي هذا التَّحدّي لإرادة الله تكرار لما قاله المعاندون من الكفَّار من قبل في ضنّهم على فئة من خلق الله استئثارهم بالرّسالة الإلهيَّة، مصداقًا لقوله تعالى﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾[سورة الأنعام: 124]. وتجد إبراهيم في المسرحيَّة هو الَّذي يعيب على الإله تمييز جماعة من البشر عن الباقين، وهو الَّذي يقول الله عنه وعن ذريَّته﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ﴾[سورة النّساء: 54]. تبدأ السَّعداوي في نشْر أفكار الصُّوفيَّة، الَّتي تروّج لعقيدة إفناء الذَّات والاتّحاد بالإله، على لسان رابعة العدويَّة، المتصوّفة العربيَّة الشَّهيرة الَّتي عاشت في العصر العبَّاسي في بغداد، حيث تقول (صـ65):

ليس من الممكن اكتشاف وجودنا الحقيقي دون الانفصال عن ذواتنا. إفناء الذَّات هو الشَّرط الأول للحب والاندماج بالله. الله هو القوَّة العليا الَّتي تجعل الإفناء للذَّات ممكنًا… أنا وجدت نفسي أيها السَّادة في الله، جاهدت طويلًا وسافرت كثيرًا أبحث عن الله، وانتهى جهادي وسفري الطَّويل بهذه المرآة رأيت فيها نفسي، بلغت قمة السَّعادة حين وجدت نفسي في ذات الله، لكني قبل أن أجد نفسي أفنيتها في الآخر وهو الله.

تثني إيزيس، إلهة الحكمة والمعرفة عن المصريين القدماء، على كلام رابعة العدويَّة، وتصفها بـ “الأم الأولى للفلسفة الصُّوفيَّة”، بل وتعتبر أنَّه كان من الممكن أن تصبح تعاليم رابعة مصدرًا رائجًا للمعرفة الدّينيَّة، مثل تعاليم الأنبياء، لو أنَّها دوّنت وطُبعت (صـ65). بعد أن قرنت القرآن الكريم كتابي التَّوراة والإنجيل، اللذين نسخهما القرآن، وأشاعت، على لسان النَّبي إبراهيم، أنَّ “الكتب الثَّلاثة تمَّ تحريفها” (صـ63)، وأنَّها ” لم تعد صالحة، ولا بدَّ من كتاب رابع يصحح” ما جاء بها (صـ64)، تبثُّ السَّعداوي سمومها بالطَّعن في الذَّات الإلهيَّة بقولها، على لسان الإلهة الوثنيَّة، إيزيس (صـ66):

لولا الكتب الثَّلاثة الموجودة الآن «التوراة والإنجيل والقرآن»، والَّتي يعيد طبعها بالملايين الملوك والحكام اليوم لما عرف الناس شيئًا عن النَّبي إبراهيم أو موسى أو عيسى المسيح أو محمد نبي المسلمين، ولما عرف الناس شيئًا عن الله السَّماوي الَّذي اختاره إبراهيم من مجموعة الآلهة «إلوهيم» وهو الله السَّماوي نفسه الَّذي عبده موسى ثم محمد. وكلمة الله هي كلمة عربيَّة محرفة عن كلمة «اللاة» وهذه في أصلها كانت «اللاة» تكتب بالتَّاء المربوطة أو التَّاء المفتوحة «اللات» وكانت هي الإلهة الأنثى المعبودة في الجزيرة العربيَّة مع الإلهتين «مناة» أو «منات» والإلهة «العزى».

ويصل الأمر بالسَّعداوي أن تدَّعي أنَّ الإله هي في الأصل أنثى، وليس ذكر، حيث يدور النّقاش حول طبيعة الإله، ويصرُّ الجميع على أنَّه أنثى، ما عدا النَّبيّ محمَّد، الَّذي يؤكّد أنَّ صوت “روح الإله” هو صوت رجل. في حين يزعم إبراهيم (صـ69):

ولماذا صوت رجل؟ لماذا لا يكون صوت امرأة؟! هذه هي المشكلة…إن الله قد ظهر لنا على شكل رجل وبصوت رجل؛ مما يدل على أن هذه الصورة تدل علينا نحن الرجال أكثر مما تدل على الله؛ نحن الرجال تخيلنا أو تصورنا في أحلامنا أن الله لا بدَّ أن يكون له شكلنا وصوتنا…

 يظهر الإله، وقد بدى عليه الحزن والأسى، بعد أن واجهه الجميع، باستثناء النَّبيّ محمَّد، بحقيقته، وكيَّلوا له الاتّهامات بالظُّلم والعنصريَّة والأنانيَّة وتكريس الاستعباد باسم أحكام الدّين، معلنًا أنَّه لم تعد لديه الرَّغبة في البقاء أبد الآبدين، وأنَّه ملَّ من الخلود، بعد أن أدرك أنَّ كتبه صارت “دساتير تحملها الأحزاب الدّينيَّة، وهي أحزاب سياسيَّة تتصارع على السُّلطة على الأرض والمال”، وأنَّ مجازر عديدة ارتُكبت في حقّ الأبرياء باسمه، مقرًّا بقوله (صـ72):

لقد وقعت في أخطاءٍ وتناقضات كثيرة، لكنّي كنتُ دائمًا أعود إلى طبيعتي الإنسانيَّة الأولى، وأعود إلى الخير والعدل والمساواة والرَّحمة والحب، وربما لهذا السَّبب بقيت كتبي الثَّلاثة حتَّى اليوم؛ إذ وجدت فيها الشُّعوب المقهورة والنّساء المقهورات سلاحًا للدّفاع عن حقوقهم وحقوقهنَّ، كما وجد فيها أيضًا الملوك ورؤساء الدُّول والحكومات سلاحًا لقهْر الشُّعوب والنّساء والفقراء … لكن أيُّها السَّادة والسَّيدات إنَّ البشريَّة تتقدَّم إلى الأمام، ولم يعد أحدٌ يرجع إلى نظريّة الخلْق الَّتي وردت في كتابي. أصبح العلم الحديث هو المرجع الوحيد للمعرفة الحقيقيَّة، ولم تعد كتبي إلَّا للحفظ في المتاحف وفنادق الفقراء، وأقسام التاريخ والدّين في المدارس والجامعات، هذا من الناحية الأكاديميَّة فقط، لكن من الناحية السّياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو الثَّقافيَّة، فلا تزال كتبي هي الأساس رغم التَّقدُّم في العلوم الأخرى.

يعترف الإله بأنَّه نقَل عن ديانة المصريين القدماء بعض العقائد، منها وجود روح بلا جسد وانفصالها عنه، والحياة الأخرى بعد الموت، وبأنَّه أورد تلك العقائد في التَّوراة، الَّتي فُرضت على المصريين، بعد “إلغاء ديانة إيزيس الَّتي كانت تدعو إلى العدل والمحبَّة والحريَّة، وقُتل كهنة إيزيس وحُرقت كتبها” (صـ73). ينفي الإله أن يكون الطَّغاة من الحكَّام يحاربون باسمه، موضحًا أنَّه هو الَّذي يحارب باسمهم، مقرّرًا بحقيقته الَّتي كشفها العلم الحديث (صـ74):

هذا هو تاريخي أيها السَّادة والسَّيّدات، وقد حذفت اسم أمي من التاريخ كما فعل أخناتون وحذفت أم آدم أيضًا، ووضعت نفسي مكان الأم الكبرى الَّتي ولدت أوَّل إنسان على الأرض، وجعلت نفسي خالق الكون في ستَّة أيام، حتَّى جاء العلم الحديث فكشفني، ولا يمكن لي بعد اجتماع اليوم أن أستمر في هذه اللعبة، ولا بدَّ من وضع الأمور في نصابها، والاعتراف بالخطأ، فالاعتراف بالخطأ أفضل من الاستمرار فيه، وقد آن لهذا العالم أن يواصل حياته وتقدمه بدون إله وبدون شيطان أيضًا، وبدون هذا التقسيم الخطير بين الجسد والرُّوح…

يقدّم الإله استقالته من منصبه الَّذي احتكره لسنوات، مفضّلًا الموت، بعد أن ينعم بالمتع الحسيَّة البشريَّة (صـ75):

إني أفضل أن أكون إنسانًا ميتًا يستمتع بالحياة والحب، والجنس، والحريَّة، وجميع زينات الدُّنيا، عن أن أكون إلهًا حيًّا بلا حياة ولا جنس، ولا حب ولا حريَّة إلا الفراغ الخالد. إنَّ قضية الحب مثل قضيَّة الحريَّة لا تتجزَّأ، وإذا خلت السَّماء من الحب والحريَّة خلت الأرض أيضا من الحب والحريَّة، وإذا كان إله السَّماء دكتاتوريًّا فهل يعرف الحكام فوق الأرض شيئًا آخر غير الدكتاتوريَّة؟!

بالتَّساؤل “وإذا كان إله السَّماء دكتاتوريًّا فهل يعرف الحكام فوق الأرض شيئًا آخر غير الدكتاتوريَّة؟!”، تنهي السَّعداوي حديث الإله إلى الأبد، مصوّبةً سهامها تجاه الحُكم الاستبدادي باسم الدّين، وداعيةً إلى التَّمرُّد على الأنظمة القائمة على احتكار السُّلطة باسم الشَّرائع السَّماويَّة؛ لأنَّ الحاكم المستبد يستمدُّ استبداده من استبداد تعاليم الإله. جدير بالذّكر أنَّ نوال السَّعداوي ليست أوَّل مَن دعا إلى إخراج مفهوم الألوهيَّة من الأذهان، بعد أن صار العلم هو المتحكّم الحقيقي في مصائر الأمم في العصر الحديث، وليس مجرَّد إله خفي يسيطر على الجميع بتعاليم نُقلت إليهم بصورة غير مباشرة عن طريق بشر مثلهم يصيبون ويخطئون. فقد أثار الرُّوائي المصري الشَّهير، نجيب محفوظ، ذلك في رواية أولاد حارتنا، الَّتي نُشرت لأوَّل مرَّة عام 1962من لتثير جدلًا لم ينتهِ إلى اليوم حول هجوم الكاتب على مفهوم الألوهيَّة واستبداله بالعلم الحديث، خاصَّةً بعد أن فاز محفوظ عنها بجائزة نوبل للآداب عام 1988م. تدور أحداث تلك الرُّواية عن رجل يُدعى الجبلاوي، متحصّن في قصر منيف، لا يمكن الوصول إليه، ولا يراه أحد من النَّاس، وله 5 أبناء، هم إدريس، ورضوان، وعباس، وجليل، وأدهم. يقرّر الجبلاوي أن يفوّض أصغر أبنائه، أدهم، أو آدم، بإدارة أرضه، ليثور إدريس، أو إبليس، على ذلك الظُّلم؛ فيطرده الجبلاوي من الأرض. كان أدهم الوحيد القادر على أن يأتي لأبيه بذريَّة، بسبب طرْد إدريس، وعقْم عبَّاس وجليل، وموت كافَّة أبناء رضوان. يتولَّى إدريس مهمَّة إغواء أدهم عن طريق أميمة، أو أم البشر، انتقامًا منه، وينجح في إثارة الجبلاوي عليه؛ فيُطرد أدهم وزوجته من القصر، تمامًا مثلما أغوى إبليس آدم وزوجه وكان سببًا في خروجها من الجنَّة.

ينتقل أدهم وزوجته إلى حارة فقيرة، ويعاني الزَّوجان من الفقر والنَّدم على المتاع الزَّائل، وينجبان ابنين، يقتل أحدهما الآخر؛ بسبب دعوة الجبلاوي للمقتول لأن يعيش معه في قصره، دون الآخر الَّذي يقتل أخاه بسبب الغيرة، تمامًا مثل قصَّة واقعة قتْل قابيل لهابيل بعد تقبُّل الله قربان هابيل ورفْضه قربان الآخر. تتوالى الأحداث مع نشأة أجيال جديدة من أحفاد أدهم وأميمة، هم جبل، الَّذي يوازي شخصيَّة نبي الله موسى الَّذي ناداه ربُّه عن جبل الطُّور، ورفاعة، الَّذي يوازي شخصيَّة نبي الله عيسى الَّذي رفَعه الله إليه، وقاسم، الَّذي يوازي شخصيَّة نبي الله محمَّد بن عبد الله أبي القاسم، ويعاصر الجبلاوي تلك الأحداث، المأخوذة عن سير الأنبياء الثَّلاثة تطابقًا. في النّهاية، يقتحم قصر الجبلاوي أحد أحفاده، يُدعى عرفة، يجسّد العلم والمعرفة الحديثة، ثمَّ يقتله، في محاولة من الأديب العالمي لإثبات صحَّة مقولة ” Gott ist tot”، أو الإله ميّت، للفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، المتوفَّى عام 1900م من جرَّاء إصابته بالخرف الشَّللي (General paresis of the insane)، وهو مرض نفسي وعصبي يتسبب في ضمور خلايا المخّ.

أهم رسائل المسرحيَّة وتوافقها مع أهداف الماسونيَّة

1.محاربة الدّين واتَّهامه بالتَّكريس لخضوع البشر لسُلطة الإله وتبرير استعباد الحُكَّام للبشر، وإدانة نبيّ المسلمين ووصفه بالمداهن المتملّق للإله الَّذي يبرّر تجاوزاته في حق البشر، على عكس باقي الأنبياء الَّذين يعدّدون جرائم الإله، وعلى رأسها التَّعطُّش للدّماء والتّغاضي عن قسوة الحُكَّام الجبابرة.

2.الطَّعن الصَّريح في الذَّات الإلهيَّة، والدَّعوة إلى التَّمرُّد على الإله وإزاحة الدّين من الحياة العامَّة، مع تبرئة إبليس من إضلال البشر وإسناد ذلك الاتّهام إلى الإله.

3.التَّرويج لدين العقل والحكمة ليكون بديلًا عن دين الشَّرائع السَّماويَّة، وإن كان ذلك الدّين قائمًا على العقائد الوثنيَّة، الَّتي ترى الكاتبة أنَّها كانت الأصل في العبادة وأنَّ دين الشَّرائع فُرض بالقوَّة. ودين العقل والحكمة هو ثمرة جهود حركة العهد الجديد الماسونيَّة لإعادة تقديم الفلسفات والعقائد الرُّوحانيَّة السَّائدة في الحضارات الوثنيَّة البائدة. وقد تعمَّدت السَّعداوي استحضار شخصيَّات من التَّاريخ اشتهرت باعتناق تلك العقائد الرُّوحانيَّة، مثل الإلهة إيزيس ورابعة العدويَّة، لنشْر أفكار حركة العهد الجديد على ألسنتها.

4.التَّشكيك في العديد من ثوابت الإسلام، منها عقيدة التَّوحيد، مع التَّرويج لعقيدة الاتّحاد الرُّوحي مع الإله، وهي عقيدة صوفيَّة تمهّد لقبول عقيدة الحلول والتَّجسُّد الَّتي تقوم عليها المسيحيَّة.

5.ادّعاء عنصريَّة الدّين ضدَّ المرأة، واعتبارها أدنى مرتبة من الرَّجل، مع تبرير ذلك بأنَّه نابع من ذكوريَّة الإله، والتَّنديد بالتَّمييز المنهجي ضدَّ المرأة وحرمانها من بعض المهام، منها حمْل الرّسالة الإلهيَّة لهداية البشر.

6.التَّمرُّد على القوالب الاجتماعيَّة المتوارَثة، على رأسها مخاطَبة المرأة بحسب الحالة الاجتماعيَّة، كما يأتي على لسان شخصيَّة “بنت الله”، الَّتي تقول “العذريَّة ليست جزءًا من شخصيَّة الرجل قبل الزَّواج، ولا يولد الرّجال بغشاء بكارة” (صـ68).

7.الدَّعوة إلى التَّمرُّد على الأنظمة الاستبداديَّة وتأسيس نظام جديد يقوم على العدالة والمساواة.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى