كتب وبحوث

معاهدات السلام العربية الإسرائيلية في ميزان الشريعة الإسلامية 8

معاهدات السلام العربية الإسرائيلية في ميزان الشريعة الإسلامية 8

إعداد د. عطية عدلان

السبل المشروعة للخروج من عهدة المعاهدات غير الشرعية

إذا كان بالدولة الإسلامية قوة على جهاد الطلب لدفع فتنة الشرك عن وجه الأرض، ولإحلال سيادة الدين على العالمين أجمعين، وجب عليها أن تمضي في هذا الجهاد قدماً، ولم يجز لها أن توقفه بهدنة أو عقد سلام إلا إذا دعت إليه مصلحة تجعل الهدنة جهاد معنى.

إذا نزل بالأمة عدو باغ يغتصب الأرض ، ويدنس المقدسات ، ويعتدي على الحرمات فالحكم الماضي هو: وجوب استمرار حكم الجهاد فرضاً عينياً، لقيام علته أو تحقق مناطه، فما دام شر العدو الباغي قائما ومستطيرا، فلا يجوز قطع استمرار هذه الفريضة شرعا، إذ الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وعقد السلم قطع لاستمرار هذه الفريضة مع تحقق مناطها، وذلك اسقاط للحكم مع قيام علته، وهو محرم، فوجب استمرار الجهاد شرعا حتى يستنفد أغراضه، وتزول علته، تنفيذا لحكم الله([1]).

    فإذا حدث أن وقّعت دولة إسلامية معاهدة سلام غير مشروعة؛ لا فتقادها شرطاً، أو شروطا من شروط الصحة، أو دُعيت لتوقيع هذه المعاهدة، أو وقّعت على معاهدة مشروعة ثم طرأ ما يجعل الاستمرار عليها غير مشروع، فما هي السبل المشروعة للخروج من عهدة المخالفة للشرع في شأن هذه المعاهدات؟ هذا هو موضوع هذا الفصل.

المخرج الأول: التحفظ

التحفظ (لغة)([2]): هو التيقظ والتوقي والتحرز وقلة الغفلة، وفي الاصطلاح القانوني الدولي: «إعلان من جانب واحد – أياً كانت صيغته – يصدر عن الدولة عند توقيعها ، أو تصديقها ، أو قبولها ، أو موافقتها ، أو انضمامها إلى معاهدة ما؛ وتهدف به استبعاد ، أو تعديل الأثر القانوني لأحكام معينة في المعاهدة من حيث سريانها على هذه الدولة»([3])، وعرفه مشروع هاردفارد التحفظ بأنه: «بيان رسمي تخصص بمقتضاه الدولة لدى التوقيع على المعاهدة ، أو تصديقها ،أو الانضمام إليها أحكاما معينة تحد من أثر المعاهدة في علاقة الدولة بالدولة ، أو الدول الأخرى أطراف المعاهدة، وذلك كشرط لقبولها أن تصبح طرفا في المعاهدة»([4]).

فيفهم من هذين التعريفيين أن التحفظ في القانون الدولي يعني : اعتراض طرف من الأطراف الموقعة للمعاهدة على بند من بنود هذه المعاهدة، وإعلان هذا الاعتراض رسميا بهدف خروجها من عهدة هذا البند واسبتعادها لأثره القانوني حتى لا يسري عليها، وقد اختلف الفقه والقضاء بخصوص مدي إمكانية وضع تحفظات على المعاهدات الدولية إلى ثلاثة اتجاهات أصلية:

الأول: تقليدي ويذهب إلى التمسك بتكامل المعاهدة بمعني أن نفس نصوص المعاهدة يجب أن تسري بالنسبة لكل أطرافها، وبالتالي لا يقبل هذا الاتجاه وضع تحفظات على المعاهدات الدولية، والثاني: حديث ينطلق أساساً من مبدأ عالمية أكبر عدد ممكن من الدول كأطراف في المعاهدة, الثالث :وأخيراً هناك اتجاه وسط تبنته اتفاقية فيينا لعام 1969م (المواد20-23) تتمثل أهم ملامحه في الآتي:

– أنه يجوز وضع تحفظات على المعاهدات الدولية, فيما عدا استثناءات ثلاثة:

* أن تنص المعاهدة على عدم جواز وضع تحفظات عليها.

* أو تنص على إمكانية إصدار تحفظات معينة لا يدخل في نطاقها التحفظ محل البحث.

* أن يكون التحفظ غير متفق مع موضوع وغرض المعاهدة([5])

ويري بعض الباحثين أن مبدأ التحفظ له أصل في الفقه الإسلامي، هذا الأصل يرجع إلى مصدرين,:

الأول: الشروط، والثاني: الخيارات.

  • فالشروط هي أداة الدولة المتقدمة بالتحفظ.
  • والخيارات هي أداة الأطراف القابلة للتحفظ.([6])

ومن أدلة مشروعية التحفظ ما يلي:

أولاً: أن أساس أية معاهدة هو التراضي، وجوهر التحفظ قائم على التراضي بين من يبدي الطرفين.

ثانياً: أن التحفظ يقترب من فكرة الشرط([7]) عند فقهاء المسلمين من حيث تقييد القبول بأمور معينة (زيادة أو نقصاناً أو إلغاء أو تعديلاً).

ثالثاً: ما جري عليه العمل, حيث يمكن أن نذكر كمثال واضح للتحفظ على معاهدة دولية تلك التي أبرمها “عبد الرحمن بن غنم” مع أهل الجزيرة الذين كتبوا إليه الآتي:

«إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسة, ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب, ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين, وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار….إلي أخر هذا العهد».

 فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكتب إليه عمر:

« أن أمض ما سألوا, وألحق فيهم حرفين اشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: ألا يشتروا من سبايانا، ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده».

فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك ، وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط.

ومعني اشتراط عمر هذين الشرطين لإبرام المعاهدة ونفاذها هو تحفظه عليها – بالزيادة – وهو أمر جائز في إطار نظرية التحفظات على المعاهدات الدولية.

ومن أمثلة الشروط([8]) التي يجب التحفظ عليها أن تشتمل المعاهدة على التعامل بالربا أو منح دوله غير إسلامية حق إقامة قواعد عسكرية في إقليم من الأقاليم الإسلامية، أو نزع سلاح المسلمين أو التنازل عن إقليم من أقاليم دار الإسلام.

وما دام هذا المخرج موجوداً على الساحة الدولية ومعتمداً في القانون الدولي؛ فإنه لا عذر لأي دوله إسلامية في عدم الاستفادة به؛وعليه فإنه يجب على الدولة الإسلامية أن تتحفظ على كل حكم يتنافي مع أحكامها الملزمة كأن تشتمل المعاهدة على حرية الفرد في تغيير ديانته الإسلامية؛لأن هذا يتنافى مع أحكام الردة في الشريعة الإسلامية ([9]).

المخرج الثاني:إلغاء البند المنافي للشرع بإرادة منفردة:

وذلك يكون إذا تم إبرام المعاهدة ثم اتضح بعد ذلك أن في بعض بنودها مخالفة للشريعة؛ فعندئذ يحق للدولة الإسلامية – إذا لم تستجب لطلبها أطراف المعاهدة – أن تلغي هذا البند من تلقاء نفسها بإرادتها المنفردة؛ وذلك اعتماداً على أصليين.

الأول: أن حكم الشرع مقدم على حكم الشرط.

الثاني: أن الأصل في المعاهدات السلمية أنها عقود جائزة.

ومن أمثلة ذلك الإلغاء في التاريخ الإسلامي ما حدث عقب صلح الحديبية حيث ألغي النبي -صلى الله عليه وسلم – سريان شرط الحديبية الذي يقضي برد من جاءه من قريش مسلماً،ألغى سريانه على النساء ، وذلك على أثر نزول آيات الممتحنة.

   ومن جهة القانون الدولي فإن إمكانية هذا الإلغاء يحققها ما يتصف به هذا القانون من ضعف عنصر الإلزام؛  فإن من الملاحظ « أن ضمانات تنفيذ المعاهدة بين إطار القانون الدولي (إذا ما قورنت بما هو موجود على الصعيد الداخلي بخصوص تنفيذ العقود حيث يمكن اللجوء إلى القاضي الداخلي الذي يستطيع إجبار الطرف المخالف على التنفيذ, في حين يتوقف اللجوء إلى القاضي الدولي على موافقة الأطراف المعنية».([10])

ومن أمثلة الدول التي ألغت من جهتها- بإرادتها المنفردة – معاهدات أو نصوصاً وبنوداً من معاهدات ما يلي:

  1. روسياً سنة 1871 ألغت من جهتها أحكام معاهدة باريس التي أبرمت عام 1865.
  2. ألمانيا 1935 ألغت من جهتها نصوص عدم التسليح الواردة في معاهدة فرساي.
  3. مصر 1953 ألغت انفرادياً المعاهدة الانجليزية المصرية التي أبرمت 1936.

 المخرج الثالث:الضغط على أطراف المعاهدة بأساليب لا تخل بقانونية المعاهدة:

وليس فيها غدر ولا مخالفة للشرع الآمر بالوفاء، وهذا له حلول كثيرة وأساليب متعددة، ومن أمثلتها ما فعله أبو بصير حين أتي إلى رسول الله طالباً الإيواء في المدينة لئلا يفتنه الكفار عن دينه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ صَالَحُونَا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَإِنَّا لا نَغْدِرُ فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَرُدُّنِي إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي وَيَعْبَثُونَ بِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: اصْبِرْ يَا أَبَا بَصِيرٍ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ وَخَرَجَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ جَلَسُوا إِلَى سُورِ جِدَارٍ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِلْعَامِرِيِّ: أَصَارِمٌ سَيْفُكَ هَذَا يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْظُرُ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ، فَاسْتَلَّهُ فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَهُ وَخَرَجَ الْمَوْلَى يَشْتَدُّ، فَطَلَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ رَأَى فَزَعًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ: وَيْحَكَ مَا لَكَ ؟ قَالَ: قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِي، فَمَا بَرِحَ، حَتَّى طَلَعَ أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفَتْ ذِمَّتُكَ وَأَدَّى اللَّهُ عَنْكَ وَقَدِ امْتَنَعْتُ بِنَفْسِي عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي وَأَنْ يَعْبَثُوا بِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: وَيْلُ أمِّهِ مِحَشَّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ “، فَخَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ، حَتَّى نَزَلَ بِالْعِيصِ وَكَانَ طَرِيقَ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، فَسَمِعَ بِهِ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيهِ، فَلَحِقُوا بِهِ حَتَّى كَانَ فِي عُصْبَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَرِيبٍ مِنَ السِّتِّينَ أَوِ السَّبْعِينَ، فَكَانُوا لا يَظْفَرُونَ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلا قَتَلُوهُ، وَلا تَمُرُّ عَلَيْهِمْ عِيرٌ إِلا اقْتَطَعُوهَا، حَتَّى كَتَبَتْ فِيهَا قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ لَمَا آوَاهُمْ، فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهِمْ، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَدِمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ »([11])

المخرج الرابع: النبذ على سواء:

قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾، قال الإمام الطبري «وإما تخافن» يا محمد من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقص عقده ويغدر بك وذلك هو (الخيانة)والغدر «فانبذ إليهم على سواء»يقول: فناجزهم بالحرب وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد نسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور أمارات الغدر والخيانة منهم حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها وتبرأ من الغدر.([12])

المخرج الخامس: الإنهاء بهجوم عسكري:

وذلك يكون في حالتين: الأولى: نقض الطرف الآخر لأحكام المعاهدة من جهته، أو مخالفته لما جاء فيها من بنود، وأظهر مثال على ذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أبرم صلح الحديبية مع قريش على وضع الحرب عشرة أعوام، فلما نقضت قريش الصالح بتأيدها لحلفائها (بكر) في قتلهم لحلفاء النبي (خزاعة) عندئذ أنهي النبي هذا الصلح بحملة عسكرية تمخضت عن فتح مكة وإخضاعها للدولة الإسلامية، وفي هذه الطريقة دليل على أنه «يجوز لإمام المسلمين ورئيسهم أن يفاجئ العدو بالإغارة والحرب لدي خيانته العهد ونبذه له , ولا يجب عليه أن يعلمهم بذلك» ([13])

«وفي عمله -صلى الله عليه وسلم- أيضاً دليل على أن مباشرة البعض لنقص العهد، بمثابة مباشرة الجميع لذلك، ما لم يبد الآخرون استنكاراً حقيقياً له؛ فالنبي اكتفي بسكوت عامه قريش وإقرارهم لما بَدَرَ من بعضهم من الإغارة على حلفاء المسلمين دليلاً على أنهم قد دخلوا بذلك معهم في خيانة العهد، وهذا لأنه لما دخلت عامة قريش في أمر الهدنة تبعاً لكبارهم وممثليهم، اقتضي الأمر أن يخرج أيضاً هؤلاء العامة عن الهدنة تبعاً لما قام به كبارهم وزعماؤهم وممثلوهم، وقد قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميع مقاتلة بني قريظة دون أن يسأل كلاً منهم هل نقض العهد أم لا» ([14])

ومن أمثلة هذا الإجراء في التاريخ الإسلامي أيضاً – وهو كذلك مثال لعزة الجهاد – ما حدث من هارون الرشيد حين نقض ” نقفور ”  العهد الذي أبرم بين المهدي وبين الإمبراطورة (إيرينا)

(ففي عام 782م شن الخليفة المهدي حملة عسكرية على القسطنطينية , أدت إلى توقيع معاهدة مهينة للروم البيزنطيين، إذ تضمنت أن تدفع الإمبراطورة إيرينا جزية سنوية مقدارها 70 ألف درهم. وحاول خليفتها الإمبراطور نقفور الأول (802-811 م)أن يتخلص من هذا الالتزام المالي الباهظ، وطالب الرشيد بإعادة ما دفع من مبالغ. وأرسل رسالة ذات لهجة حادة إلى هارون جاء فيها: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافه لها, ولكن ذلك ضعف النساء وحمقهن. فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وإلا فالسيف بيننا وبين.

فغضب الرشيد كثيراً من تهديد نقفور؛ فكتب له جواباً جاء فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، فشن حملة عسكرية هاجم فيها آسيا الصغرى ومدينة هرقلية على البحر الاسود، فاحتلها وسبى أهلها، ثم عقد صلحا مع نقفور مع دفع جزية سنوية، وجزية شخصية عن نقفور وعائلته، وخلال الهجوم الإسلامي، أسرت إحدى الفتيات الروميات، وكانت خطيبة لابن الامبراطور نقفور، فأرسل رسالة إلى الرشيد راجيا إياه أن يعيدها، فلبى الرشيد طلبه وأرسلها له مع هدايا ([15]).

الثاني: أن تكون الاتفاقية الموقعة اتفاقية إذعان، بمعنى أن يكون الطرف المعادي قد أملى هذه الاتفاقية على الطرف المسلم فقبلها تحت الضغط والتهديد والحصار، وذلك مثلما حدث عندما أجبرت إسرائيل لبنان على توقيع الاتفاق تحت القصف مثلما تفعل إسرائيل الآن في فلسطين، فجميع هذه الاتفاقات بما فيها أوسلو تعتبر اتفاقات إذعان مملاه بالقوة والجبروت، وإن بدت في شكلها الخارجي معاهدة أو اتفاق عن تراض ([16]).

فمثل هذا الاتفاق لا يكون ملزما للمسلمين، ولا يسري على أجيالهم، ويجب على الدولة الإسلامية أن تنقضه بمجرد استكمالها للعدة واستعادتها للقوة، ولا يجب عليها أن تعلم العدو بذلك؛ لأن هذا الاتفاق باطل من أساسه؛ لكون الرضي معيبا بالإكراه، وإذا افتقد العقد ركن الرضا بطل في الشريعة الإسلامية.

هذه هي المخارج الشرعية التي تخرج منها الأمة عند تورطها في معاهدة سلام غير شرعية أو منطوية على بنود غير شرعية، أو عند دعوتها إلى الدخول فيها، أو عند حدوث ما يقلب المعاهدة الشرعية إلى وضع غير شرعي.

أما إذا كانت المعاهدة شرعية , استوفت جميع أركانها وشروطها, وسلمت من المفسدات, ولم يحدث من الأطراف الأخرى نقض أو ما يقوم دليلاً على اعتزامهم الغدر، فلا يجوز للمسلمين أن ينقضوا ما أبرموه؛ لأن الله تعالى أمر بالوفاء فقال في كتابة العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة:1]

وهي عامة في كل العقود، وفي الصحيح: « أَنَّ أَبَا رَافِعٍ أَقْبَلَ بِكِتَابٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُلْقِيَ فِي قَلْبِيَ الإِسْلامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « إِنِّي لا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِكَ الَّذِي فِي قَلْبِكَ الآنَ فَارْجِعْ »، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنِّي أَقْبَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَسْلَمْتُ»([17])

وقال حذيفة بن اليمان: ما منعني أن اشهد بدراً إلا أنني خرجت أنا وأبو الحسين فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمداً ؟ قلنا: ما نريده وما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر فقال عليه السلام: « …. انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ »([18])

وفي كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهما-:

(إني قد ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو وهزمتموه، ما طرحوا الشك وآثروا التقية عليه. فإن لاعب أحد منكم أحدا ً من العجم بأمان، أو قرنه بإشارة أو بلسان، كان لا يدري الأعجمي ما كلمه به وكان عندهم أماناً، فأجروا ذلك مجري الأمان. وإياكم والضحك، والوفاء الوفاء، فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر الهلكة، وفيها وهنكم، وقوة عدوكم، وذهاب ريحكم وإقبال ريحهم، واعلموا أني أحذركم أن تكونوا شينا على المسلمين، وسبباً في توهينهم)([19])

ويجب إن تستمر المعاهدة – ما دامت شرعية ولم يحدث ما ينزع عنها صفة الشرعية – حتى ولو مات الحاكم الذي أبرمها أو عزل، فمهما تعاقب الحكام في الدولة الإسلامية فإن المعاهدة تظل مستمرة، وهذا مبني على أن الدولة الإسلامية لها شخصية معنوية دائمة ومستقلة عن أشخاص الحكام، فلا تزول بزوالهم ولا تتغير أحكامها بتغيرهم.

وهذا هو الذي قرره الفقهاء، يقول ابن قدامه المقدسي: «وإن عقدت الهدنة على مدة، وجب بالوفاء بها… لأننا لو نقضنا عهدهم عند قدرتنا عليهم,لنقضوا عهدنا عند قدرتهم علينا،فيذهب معني الصلح.وإن مات الإمام، أو عزل، وولي غيره لزمه إمضاؤه؛ لأنه عقد لازم فلم يجز نقضه بموت عاقده، كعقد الذمة». ([20])

وتستند الاستمرارية الزمنية للمعاهدات الدولية في الفقه الإسلامي إلى العديد من الحجج يمكن تلخيصها، في رأينا في الآتي:

1- أن موت الإمام الذي عقد المعاهدة الدولية أو عزله أو استقالته لا يعفي من يليه من تنفيذها لأن الإمام السابق عقدها باجتهاده فلم يجر نقضه باجتهاد غيره؛ للقاعدة الكلية ( الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد). وتطبيق ذلك أيضاً واضح بالنسبة لعدم جواز نقض الحاكم التالي أحكام من قبله باجتهاده.

2- أن في استمرارية المعاهدة تطبيق لمبدأ الوفاء بالعهد، وهو مبدأ ثابت ومستقر في الشريعة الإسلامية.

3- أن في استمرارية المعاهدة الدولية دليل أكيد على استمرارية الدولة الإسلامية.

4- أن في استمرارية المعاهدة الدولية مصلحة للدولة الإسلامية، ولثبات واستقرار العلاقات([21])

    لكن هنا مسألة ينبغي تفصيلها، وهي أن عقد الهدنة إن كان موقوتاً بمدة كان لازماً، وعندئذ لا يجوز نبذه ولا نقضه إلا إذا حدث من الطرف الآخر ما يستوجب النبذ أو النقض, وإذا كان مطلقاً وجب أن يكون جائزاً، وعندئذ يجوز للإمام – إذا رأي المصلحة في ذلك-  أن ينبذ إلى الطرف الأخر عهده، ولكن لا يجوز نقضه إلا إذا حدث من الطرف الأخر ما يستوجب النقض، وهذا التصرف لا ينافي الوفاء؛ لأن النبذ مبني على أن العقد جائز من حيث الأصل.


([1]) خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم (ص363).

([2]) انظر: لسان العرب (2/513)، أساس البلاغة – جار الله محمود بن عمر الزخشري (1/184) الهيئة العامة لقصور الثقافة ( الذخائر 95) ط 2003.

([3]) التحفظ على المعاهدات الدولية في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية د عبد الغني محمود (.ص2) دار الاتحاد العربي مصر ط أولى 1986.

([4]) Harvard Research N.T.L,1935, Supp. Pp.13 نقلا عن أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية، للغنيمي (ص101).

([5]) المعاهدات الدولية في الشريعة الإسلامية دكتور أحمد أبو الوفا الطبعة الأولي 1410هـ – 1990 دار النهضة العربية- القاهرة (ص94-50) .

([6]) انظر: أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية للغنيمي (ص 104- 109) .

([7]) المعاهدات الدولية في الشريعة الإسلامية دكتور أحمد أبو الوفا الطبعة الأولي 1990 دار النهضة العربية- القاهرة (ص 51-52).

([8]) انظر: اثار الحرب في الفقه الإسلامي , رهبة الزحيلي (ص 673) والتحفظ على المعاهدات الدولية د/ عبد الغني محمود(ص 10) .

(3) انظر: قواعد العلاقات الدولية في القانون الدولي والشريعة الإسلامية دجعفر عبد السلام (ص 393).مكتبة السلام العالمية مصر ط أولى 1981

([10]) المعاهدات الدولية في الشريعة الإسلامية دكتور أحمد أبو الوفا الطبعة الأولي 1990 دار النهضة العربية- القاهرة(ص 59).

([11]) رواه البيهقي في الكبرى برقم”17331″(ج25ص12493)

([12]) تفسير الطبري (م 6 ج 10 ص 35-36) .

([13]) فقه السيرة للبوطى (ص 283) .

([14]) المصدر السابق (ص 283-284) .

([15]) تاريخ الطبري (4/668)، الوثائق السياسية والإدارية: العصر العباسي الأول، محمد ماهر حمادة، (2/203-204).

([16]) أنظر: مخاطر اتفافات الإذعان المفروضة على الفلسطينيين، مقال ل(مهدي الدجاني)الحياة 20/7/2007

([17]) رواه أبوداود في السنن ك الجهاد باب في الإمام يستجن به في العهود برقم”2381″(ج4ص1685)، والنسائى في الكبرى ك السيرباب الرسل والبرد برقم”8464″(ج11ص5402)، والإمام أحمد في المسند برقم”23227″(ج20ص9954)، والحاكم في المستدرك برقم”6584″(ج9ص4279).

([18]) رواه مسلم ك الجهاد والسير باب الوفاء بالعهد برقم”3348″(ج4ص2337).

([19]) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الرشدة.لمحمد حميد الله (ص 409).

([20]) الكافي لابن قدامه 4/232.

([21])المعاهدات الدولية في الشريعة الإسلامية دكتور أحمد أبو الوفا الطبعة الأولي 1990 دار النهضة العربية- القاهرة (ص 77).

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى