كتب وبحوث

مراجعة كتاب (خاطرات حول المصرفية الإسلامية)

عبدالرحمن بن طالب – مركز البيان للبحوث والدراسات.

لا يرتوي شداةُ العلم من الحديث عن مآثر الشيخ الراحل صالح الحصين -رحمه الله- حيث تجتمع في شخصيته الاستثنائية مكونات الزهد والعلم والقانون والثقافة غير التقليدية..

كتابه (خاطرات حول المصرفية الإسلامية) هو مجموعة مقالات في هذا الشأن، ويمكن تقسيم تلك المقالات إلى مجالين:

المجال الأول: مناقشة المحاولات التوفيقية لتأنيس الفائدة الربوية في المجتمع الإسلامي.

المجال الثاني: نقد واقع المصارف الإسلامية والهيئات الشرعية المنبثقة عنها.

يستهل المؤلف كتابه بإثبات اتفاق البشرية على تجريم الربا سواء لدى الأديان السماوية أو في القوانين العلمانية بدليل أنها لما تمردت على أديانها قيدت التعامل الربوي بنسبة لا يتجاوزها، وإلا عُدَّ ذلك مخالفة للقانون، وقديماً قال أرسطو منتقداً الربا: (النقود لا تلد النقود)..

بل إن العالَم النصراني ظل ناقماً على اليهود؛ بسبب تعاملهم بالربا، ومن آثار ذلك تلك المسرحية المشهورة لشكسبير (تاجر البندقية) عن المرابي اليهودي، ولولا أن القيمة الأدبية قد أبرزت هذا العمل، لربما سعى اليهود في طمس ذكره..

الكتاب رغم صغره (122 صفحة) إلا أنه حوى مناقشات ثرية مع محاولات أسلمة القروض الربوية المعاصرة، بالإضافة إلى نقد قوي لما آلت إليه حال المصرفية الإسلامية، ورغم ذلك لم يخل الكتاب من تكرار كثير نتيجةً لكونه مجموعاً من عدة مقالات وأوراق عمل متفرقة.

يُفصح الكتاب عن قدرة جدلية رائعة يمتلكها المؤلف -رحمه الله- تتكشف تفاصيلها بعد سياق القصة التالية:

في العاصمة الفرنسية (باريس) احتشد جم كبير من القانونيين الغربيين والمسلمين عام 1953م لحضور أسبوع الفقه الإسلامي، واتساقاً مع نظرية (سلطة الثقافة الغالبة) فقد انبرى د. معروف الدواليبي ليطرح رأياً فقهياً غير مسبوق، مصرحاً بأن الربا المحرم في الإسلام، إنما هو الربا في قروض الاستهلاك لا في قروض الإنتاج والاستثمار! محاولاً أن يبرهن بذلك صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وأنه لا يتعارض مع المصلحة الواقعية.

وكان من جملة الحضور في هذا الملتقى: الشيخ محمد عبدالله دراز -رحمه الله- وبطبيعة الحال فقد أبدى اعتراضه على هذا القول المفتقر إلى البرهنة، مبيناً أن الإسلام حرم جميع صور ربا النسيئة بلا تفريق.

يعلق المؤلف على هذه الحكاية تعليقاً لافتاً حيث يرى أن حضور واعتراض الشيخ دراز هو توفيق إلهي؛ لأن مراد د.الدواليبي إثباتُ صلاحية الإسلام للحكم في هذا العصر، غير أنه طرح قولاً لا يمكن ضبطه في الميزان القانوني حيث إن التفرقة بين مجال القروض الاستهلاكية والقروض الاستثمارية ممكن في بعض الصور غيرُ ممكن في أغلبها، بل يعتمد على (محض النية الباطنة) للمتعاقدين، وهذا يثبت أن الإسلام يصلح معياراً للنظام الأخلاقي، لا معياراً للنظام التشريعي، وهذا نقيض مقصود د.الدواليبي.

والمؤلف كما يذكر عن نفسه، كان قد تتلمذ سنتين على د.عبدالرزاق السنهوري الذي يسميه البعض (أبو القانون) وذلك لأنه كتب القانون المدني لمصر والعراق وسوريا وليبيا، بالإضافة إلى دستور الكويت والسودان والإمارات، وكان المؤلف قد حضر اللقاءات الأسبوعية القانونية الخاصة التي كان يعقدها السنهوري مع تلاميذه، وقد أشار د.يوسف القرضاوي في مذكراته إلى أن السنهوري قد أعجب بنباهة تلميذه (الحصين) منذ وقت مبكر، وكان يؤمل أن يكون له شأن، وقد كان.

ورغم هذه الصلة العلمية إلا أن المؤلف قد انتقد أستاذه -بعلم وعدل- في محاولته التوفيقية بين الربا والشريعة الإسلامية، والتي يرى فيها السنهوري أن الربا المحرم أصالة إنما هو صورة (إما أن تقضي أو تربي)، والتي يشترط فيها المقرضُ الزيادة عند تعثر المدين في السداد في مقابل الأجل، وأما تحريم الصور الأخرى من الربا سواء غيرها من صور ربا النسيئة أم ربا الفضل، فما تحريمها إلا تحريم وسائل لا مقاصد؛ فتجوز عند الحاجة بقدرها.

والمؤلف حين ناقش هذه المحاولة اعتبرها أذكى المحاولات إلا أنها لم تخل من (عقِب أخيلوس) أي: نقطة ضعف تصيبها في مقتل، فإن المحاولة اشتملت على جملة من المقدمات الفاسدة التي تفترض بأن القرآن نزل بتحريم الربا الذي كان يتعامل به العرب في جاهليتهم دون ربا غيرهم من الجاهليات كاليهود، وأن ممارسة العرب كانت قاصرة على الصورة الربوية التي تسمى (إما أن تقضي أو تربي)، وأن تحريم غيرها من الصور هو تحريم وسائل لا مقاصد، وكل هذه الدعاوى قد فندها المؤلف، وبين أن ابن القيم -رحمه الله- الذي اقتبس منه السنهوري فكرة التفرقة بين تحريم الوسائل والمقاصد لم يصف تحريم ربا النسيئة بأنه تحريم مقاصد وربا الفضل بأن تحريمه تحريم وسائل بناءً على الهوى والتشهي، بل استظل بنصوص الوحي مستشهداً لذلك بحديث أسامة t (إنما الربا النسيئة)، وحديث أبي سعيد (رضي الله عنه): (إنما أخاف عليكم الرما) أي: الربا، فالحصر في الأول برهان على أن الربا الحقيقي هو ربا النسيئة، والإشارة للعلة في الثاني دالة على تحريم ربا الفضل خوفاً من الوقوع في ربا النسيئة.

والمتأمل في مسيرة المؤلف العلمية والعملية سيخلص إلى نتيجة مفادها أن تقحم حقول الاقتصاد والقانون للظفر بخارطة طريقة يسلكها العالم الإسلامي مهمةٌ لا يتلقف رايتها إلا من ارتوى من معين الوحي وتخلص من ربقة الرق الثقافي.

فالمؤلف – مثلاً – يشير إلى خطإ من لم يتنبه للفرق بين القرض عند الفقهاء الأقدمين، والقرض في المفهوم الاقتصادي المعاصر، فهو عند الفقهاء عقد إرفاق، والأجل فيه ليس بلازم، بينما هو عند البنوك عقد معاوضة، والأجل لازم فيه، وإذاً فما تسميه البنوك قرضاً هو في حقيقة الأمر بيعٌ ربوي، وليس قرضاً، ويبحث في باب الربا، لا باب القرض، وإنما يقابل القرض في الاصطلاح الفقهي ما يسمى عند المعاصرين بـ(القرض الحسن).

وكذلك تجده يصرح بأن الحكم إنما يناط بالعلة لا الحكمة، وما ذلك إلا لأن الإسلام فيه أحكام تشريعية، والتشريع لا يبنى إلا على الوصف الظاهر المنضبط، وهذا مما لا يتأتى في الحكمة.

والشق الآخر من الكتاب كان من نصيب المصارف الإسلامية التي حظيت بنقد قوي من قبل المؤلف -وهو قد عمل في الهيئات الشرعية للمصارف عقداً من الزمن- حيث إنه صرح بأن “آلية العمل في المصارف الإسلامية في منح التسهيلات لا تختلف عن آلية العمل في المصارف الربوية في الجوهر ولا في الآثار الاقتصادية لاستخدام الموارد، إنما تختلف في الشكل والصورة”.

ويمكن إيجاز نقدات المؤلف للمصارف الإسلامية المعاصرة في محاور أربعة:

الأول: أن التسهيلات التي تقدمها المصارف الإسلامية حالياً لا ينتج عنها فائدة اقتصادية، وإنما هي مجرد هروب من الربا. حيث إن هذه التسهيلات جعلت المال (محلاً للتعامل) وليس مجرد (أداة للتعامل)، وجميع عمليات البيع والشراء والاستصناع والتأجير ليست سوى أدوات لإدانة النقود بمقابل ثمن من الأجل لُجِئ إليها فراراً من الربا.

الثاني: لم تحقق المصرفية الإسلامية المقاصد القرآنية من المال والتي تتمثل في كونه جعل قياماً للناس، وأن لا يكون المال دولة بين الأغنياء، وتحقيق العدل بين الطرفين.

الثالث: عدم تلبية احتياج المدخرين إلى قنوات استثمارية ملائمة، وهذا من نتائج كونها تستخدم آليات أرباحها أقل من أرباح البنوك الربوية، فالمرابحة – مثلاً – أقل ربحاً من الفوائد الربوية.

الرابع: لم تؤثر المصرفية الإسلامية في تنشيط النمو الاقتصادي في العالم الإسلامي.

وفي ذات الوقت الذي قدم فيه المؤلف نقده للوضع الراهن للمصرفية الإسلامية فإنه طرح منتجات يرى أنها أجدى في الخروج من تيه العبودية الخداعة للموجِّه الفكري، ومن ذلك:

(المشاركة المتناقصة): حيث يقرر أن هذه المعاملة مصدر لمنتجات واعدة لا حد لوعودها في مجال الاستثمار.

و (الشراء المسبق للإنتاج) التي تطبق على نطاق واسع في التجارة الدولية، فإنه يرى أنها ستضيف مجالاً واسعاً لا حد لسعته لتمويل الأصول المنتجة.

فالمؤلف بطرحه لهذه البدائل يشير إلى أنها تحتوي على قيمة اقتصادية مضافة، مع حل مشاكل الديون المعدومة، والمشكوك في تحصيلها.
وفي خاتمة المطاف: لا ريب أن النفس النقدي الذي تبناه الشيخ صالح الحصين -رحمه الله- له أثر إيجابي في تحريك دفة المصرفية الإسلامية نحو ساحل النجاة من رق النظام الرأسمالي المتوحش، إلا أن انعتاق المسلمين من أغلال العبودية الاقتصادية الغربية ليست قضية يسيرة يمكن حلها في أروقة الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية فقط، وإن كانت تلك الهيئات تتحمل قسطاً من فاتورة العتب، ومع ذلك فلا بد بأن نقر بأن هذه المعضلة جزء من معادلة شديدة التعقيد، تخضع لعوامل سياسية وأطماع دولية ونظام عالمي بات يحكم سيطرته على المفاصل المؤثرة في حياة الدول، وحل هذه المعادلة المعقدة قد لا يتم إلا بخارطة طريق تتظافر فيها جهود جميع المعنيين لتحقيقها وفق هامش التغيير المتاح واقعياً للدول، والاقتصاديين، والمصارف الإسلامية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى