تقارير وإضاءات

مجزرة نيوزيلندا.. سر الكراهية وتاريخ لا يموت

مجزرة نيوزيلندا.. سر الكراهية وتاريخ لا يموت

إعداد أحمد مدكور

جاءت مجزرة نيوزيلندا 15 مارس/آذار 2019، على يد الإرهابي الأسترالي برينتون تارانت، معبرة عن مقولة قديمة أطلقها الفيلسوف الألماني جورج هيجل “التاريخ سوف يستيقظ”، مسترجعة من هذا التاريخ أيديولوجيا رجعية مخيفة عن تفوق العرق الأبيض، ونبذ الأعراق الأخرى، وإبادة الأعداء السابقين.

أطّر تارانت لجريمته في بيان عريض تجاوز السبعين صفحة، استحضر فيه كل اللحظات الاستثنائية، والمعارك الغابرة، وأسماء قادة الجيوش، ورؤساء العصابات، ورؤية الأمم القديمة، وصراع الإمبراطوريات الاستعمارية البائدة.

خصوصية الأتراك

الإرهابي الأسترالي خص الأتراك تحديدا بالكراهية والذكر، وتحدث عن مدينة إسطنبول، وآيا صوفيا، بالإضافة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، محوّلا فكرته التي توحد معها، إلى قوة وحشية مميتة، قتلت بشكل عشوائي، لم تفرّق بين رجل أو امرأة أو طفل صغير.

واستغراقا في تراجيديا فاجعة نيوزيلندا، كتب الإرهابي على واجهة سلاحه الذي قتل به 50 مسلما وأصاب مثلهم، مجموعة من العبارات، التي استحقت الوقوف والتفسير، منها (TURKO FAGOS) وهو مصطلح معناه “آكلي الأتراك” منسوب لعصابات يونانية قديمة حاربت الدولة العثمانية.

كما دوّن على متن بندقيته كلمة (VIENNA 1683) في إشارة لفشل الحصار الثاني الذي فرضه الجيش العثماني على العاصمة النمساوية فيينا، وكتب (LEPANTO 1571)، وهي المعركة البحرية التي جرت بين العثمانيين، والجيوش الصليبية من أجل السيطرة على جزيرة قبرص، وانتهت بهزيمة الجيش العثماني.

وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول خصوصية الأتراك في استحقاقات كراهية اليمين المتطرف في الغرب، ولماذا يستحضر زعماء تلك الحركات الحروب والصراع مع الدولة العثمانية، لإحياء تراث قديم من الحروب والنزاعات؟

استحضار الماضي

منفذ الهجوم الإرهابي، تارانت، كتب في بيانه المطول لتبرير مجزرته، مخاطبا الأتراك على وجه الخصوص قائلا “يمكنكم العيش بسلام في أراضيكم، على الضفة الشرقية للبوسفور (يقصد الجانب الأسيوي لمدينة إسطنبول)، لكن إذا حاولتم العيش في الأراضي الأوروبية، في أي مكان غربي البوسفور، سنقتلكم وسنطردكم من أراضينا”.

وأضاف “نحن قادمون إلى القسطنطينية (الاسم القديم لإسطنبول)، سنهدم كل المساجد والمآذن في المدينة، وآيا صوفيا ستتحرر من المآذن وستكون القسطنطينية بحق ملكا مسيحيا من جديد، ارحلوا إلى أراضيكم طالما لا تزال لديكم الفرصة لذلك”. وتابع “إن موت أردوغان سيؤدي لإضعاف سيطرة تركيا على المنطقة”.

من جانبه رد الرئيس التركي أردوغان، على تلك الجريمة، وعبارات مرتكبها، في مقابلة أجراها مع قناتي “7” و”أولكه” بتاريخ 18 مارس/آذار 2019، قائلا “هناك جهاز خاص وخطير يقف وراء إعداد بيان منفذ هجوم نيوزيلندا الإرهابي، لاسيما وأن الإعلام الغربي التزم الصمت إزائها”، وتابع “خرج إرهابي معتوه وقسم بلادنا إلى قسمين بحسب مزاجه”.

وأشار أردوغان إلى موقف أوروبا الموحد تجاه الهجوم على مجلة شارلي إيبدو الساخرة في العاصمة الفرنسية باريس عام 2015، بينما لم يصدر عنها أي صوت على هجوم نيوزيلندا الإرهابي، وقال الرئيس التركي “في العالم الإسلامي لا يوجد من يرفع صوته باستثناء تركيا”.

لقاء أردوغان الذي تناول فيه منفذ الهجوم الإرهابي نيوزيلندا، وآيا صوفيا

 

وباستحضار التاريخ، فالأتراك عنصر فارق في صراعات الإمبراطوريات القديمة، وحالوا دون تمدد الحملات الصليبية في الشرق، وتوسعوا من مدينة سوغوت (أول عاصمة للدولة العثمانية) في قلب الأناضول، حتى فتحوا القسطنطينية، وتوغلوا نحو وسط وغرب أوروبا.

المسجد الأسير

أردوغان رد على ادعاءات تارانت بشأن معلم آيا صوفيا التاريخي قائلا “لم تطب له المآذن على آيا صوفيا في إسطنبول”.

آيا صوفيا التي تأسست عام 537 ميلاديا، لتكون كنيسة بأمر من الإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس الأول، مثلت صرحا دينيا لا نظير له في العالم المسيحي، وعنوانا لقوة الدولة الرومانية الشرقية، وظلت على حالها حتى عام 1453، عندما فتح السلطان العثماني محمد الفاتح القسطنطينية، بعد معارك شرسة، وحصار طويل، وغير اسمها إلى “إسطنبول”، ودخل أيا صوفيا فصلى فيها أول جمعة بعد الفتح، وجعلها مسجدا كبيرا يرمز إلى قوة الدولة العثمانية وسيطرتها.

مثّل سقوط القسطنطينية، وتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، صدمة كبيرة في العالم المسيحي، وأوروبا على وجه التحديد، وكانت على الدوام من أهم أسباب الخلاف والعداء بين الأتراك والغرب. وجاء مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، وأول رؤسائها مصطفى كمال أتاتورك، ومنع إقامة الشعائر الدينية في أيا صوفيا عام 1931، ثم حوله في 1935 إلى متحف فني يضم كنوزا أثرية إسلامية ومسيحية.

قرار أتاتورك مثل على الدوام حزنا عميقا للأتراك، الذين يطلقون على آيا صوفيا اسم “المسجد الأسير”.

رفع الأذان

وفي يونيو/ حزيران 2016 أصدرت رئاسة الشؤون الدينية التركية قرارا بتلاوة القرآن يوميا في أيا صوفيا خلال شهر رمضان المبارك لسنة 1437 هجرية، وأطلقت من داخله برنامجا دينيا خاصا بليلة القدر بعنوان “خير من ألف شهر”، ورفع في نهايته المؤذن التركي فاتح قوجا الأذان من نفس الموقع الذي رفع منه آخر مرة قبل 85 عاما.

وانتقدت الحكومة اليونانية هذه الخطوات، وطالب “البطريرك برثلماوس” الزعيم الروحي لنحو 300 مليون مسيحي أرثوذوكسي في أنحاء العالم بأن يظل موقع آيا صوفيا متحفا.

وجاءت الخطوة الأخطر عندما أصدرت المفوضية الأمريكية للحريات الدينية، وهي هيئة استشارية شكلها الكونجرس من أعضاء في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بيانا قالت فيه إن إعادة أيا صوفيا مسجدا “سيعرض وضع تركيا الدولي للخطر”.

وفي أعقاب مذبحة نيوزيلندا توجهت أعداد كبيرة من الأتراك إلى ساحة آيا صوفيا، وأدوا صلاة الغائب على أرواح الضحايا.

الأتراك يؤدون صلاة الفائب في ساحة آيا صوفيا على أرواح ضحايا نيوزيلندا

صراع الجغرافيا

مثلت جزيرة قبرص عبر التاريخ محور خلاف عميق بين تركيا والغرب، وخاصة اليمين المسيحي المتطرف، فالجزيرة ظلت تابعة للدولة العثمانية لمدة 3 قرون، تعايش فيها المسلمون والمسيحيون بسلام.

وفي مطلع خمسينيات القرن الماضي، تشكّلت حركة أيوكا على يد القبارصة اليونانيين المسيحيين، وكان هدفها الحصول على الاستقلال والاتحاد مع اليونان، وتلقت دعما من الكنيسة الأرثوذكسية في اليونان بالمال والسلاح.

وأضفت الحركة على أعمالها طابعا مقدسا، ونصبت زعيمها مكاريوس رئيسا لأساقفة قبرص، ما أكسب شخصيته طابعا دينيا فضلا عن الطابع القومي، وشنت أيوكا حرب عصابات ضد القوات البريطانية، وطالت شظاياها القبارصة الأتراك، مما أدخل البلاد في حالة حرب أهلية سقط فيها الكثير من الضحايا.

وبعد معاناة طويلة تحت حكم الأسقف مكاريوس، وفي يوليو/ تموز 1974، اجتاح الجيش التركي جزيرة قبرص بقرار من نائب رئيس الوزراء التركي في ذلك الوقت نجم الدين أربكان الذي أقنع قائد الجيش بضرورة حماية الأتراك المسلمين من بطش اليونانيين المسيحيين في قبرص.

قبرص التركية

واندلع قتال عنيف بين الجيشين التركي والقبرصي، استطاع خلاله الأتراك إحراز تقدم عسكري ملموس سيطروا خلاله على مساحات واسعة شمالي البلاد، وفرر آلاف القبارصة اليونانيين نحو الجنوب، كما فر الآلاف من القبارصة الأتراك إلى الشمال، ثم توقفت الحرب بقرار من رئيس الوزراء التركي في ذلك الوقت بولنت أجاويد والذي لم يكن متحمسا للأمر منذ البداية.

وفي 14 أغسطس/ آب 1974، بدأ الأتراك الجزء الثاني والأهم من العملية العسكرية، والذي كان يهدف للسيطرة على معظم الجزء الشمالي من الجزيرة، وبناء عليه تم ترحيل السكان اليونانيين من هناك بالقوة المسلحة للجزء الجنوبي.

كما تم الإعلان عن أن 40% من الجزيرة أصبح فيدرالية تركية مستقلة تحت اسم “فيدرالية شمال قبرص التركية”، ومع عدم اعتراف الأمم المتحدة أو أي دولة في العالم بالوضع الجديد، عمدت تركيا إلى إعلان استقلال “جمهورية شمال قبرص التركية”، وهو ما لم تعترف به أي دولة في العالم باستثناء تركيا.

وأصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 541 الذي أعلن فيه عدم شرعية هذا الاستقلال وطالب القوات التركية بالانسحاب، وظل الجميع يعترف فقط بحكومة قبرصية واحدة لدولة قبرصية واحدة في الجنوب.

مشاهد لدخول الجيش التركي قبرص عام 1974

جناق قلعة

أطلق الأتراك على جناق قلعة (الانتصار الأكثر دموية على وجه الأرض)، فخلال أحداث الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في 18 مارس/آذار 1915، بدأت قوات الحلفاء من بريطانيا وفرنسا ونيوزيلندا وأستراليا، بعملية إنزال واسعة على مضيق جناق قلعة، بهدف احتلال عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول، وكانت المنطقة من أهم المناطق الجيوبوليتكية، التي يمكن من خلالها الوصول إلى مناطق كثيرة حول العالم.

ومثلت حملة غاليبولي كارثة حقيقية لقوات الحلفاء، حيث اضطروا إلى الانسحاب بعد غرق عدد كبير من السفن العسكرية الضخمة، وكلفت تلك المعارك الدولة العثمانية أكثر من 250 ألف شهيد، وشارك فيها إلى جانب الأتراك جنود من سوريا والعراق وفلسطين والعديد من بلدان العالم الإسلامي، فيما تكبدت القوات الغازية نفس العدد المذكور.

الخصومة التاريخية

الأعداد الهائلة من القتلى، والبعد القومي والعقائدي بين الأعداء، أوجد زيادة في حالة الخصومة التاريخية بين الأتراك، والغرب.

ومع حلول ذكرى المعركة كل عام تحرص تركيا على إحياءها، كواحدة من أعظم انتصارات العثمانيين التاريخية، وفي 18 مارس/ آذار 2019 أكد أردوغان “أن الشعب التركي بصفته أحفاد أبطال معركة جناق قلعة، لن يتنازل بأي شكل من الأشكال عن استقلاله ومستقبله وحريته”.

أردوغان عاد ليقول “إننا اليوم أيضا نتصدى بنفس العزيمة للمكائد المحاكة ضد وطننا، والمخططات الخبيثة التي تستهدف أمتنا، ونعمل دون كلل يدا بيد مع كافة مواطنينا نساء ورجالا، شيبا وشبانا، لبناء غد مشرق”، مضيفا “معركة جناق قلعة، ملحمة مجيدة سطرها الأجداد، الذين ركّعوا أحدث الجيوش آنذاك، وغيروا مجرى التاريخ”.

https://youtu.be/eWptmJnZz-w

تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ذكرى معركة جناق قلعة

نادي مسيحي مغلق

تعود العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، إلى العام 1959، عندما تقدمت تركيا بطلب لعضوية الجمعية الأوروبية، وقبلت فيها عام 1963 بتوقيع اتفاقية أنقرة، ثم تقدمت بأول طلب رسمي لعضوية الاتحاد الأوروبي في 14 أبريل/نيسان 1987.

وخلال قمة هلسنكي التي عقدت يومي 10 و12 ديسمبر/كانون الأول 1999 اعترف بتركيا رسميا بصفة مرشحة للعضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، ووضعت الدول الأوروبية عدة شروط لبدء المفاوضات الرسمية مع تركيا، ومنذ ذلك الحين تحاول تركيا الدخول إلى الاتحاد، دون تقدم.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2010، كشف موقع ويكيليكس، عن رفض بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر، لفكرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي خوفا على الهوية المسيحية، وقال صراحة “الاتحاد الأوروبي نادي مسيحي مغلق”.

ونشر نفس الموقع وثيقة تكشف أن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي رفض أيضا انضمام تركيا، لأنه يعارض إدخال أكثر من 70 مليون مسلم (تعداد تركيا في تلك الفترة) إلى الاتحاد.

وفي 27 يونيو/ حزيران 2018، قال وزراء الشؤون الأوروبية للاتحاد في بيان مشترك “إن تركيا تبتعد أكثر فأكثر عن الاتحاد الأوروبي، ومفاوضات انضمام تركيا وصلت فعليا إلى نقطة الجمود”، وجاء ذلك عقب نجاح أردوغان، وحزبه العدالة والتنمية في الانتخابات المتعلقة بالاستفتاء على دستور النظام الرئاسي، وهو الأمر الذي كانت تعارضه أوروبا بشدة.

تصريحات أردوغان المتعلقة بالعلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي

لأننا مسلمون

وفي 15 فبراير/ شباط 2019، قال أردوغان “لا يقبلنا الاتحاد الأوروبي لأننا مسلمون، فليقولوا ذلك صراحة، لكنهم لا يستطيعون”. وفي معرض تعليقه على إقرار البرلمان الأوروبي تقريرا تضمن تعليق مفاوضات انضمام أنقرة إلى الاتحاد قال أردوغان، “إن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه إيقاف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد لأنه بحاجة إليها”.

وأردف في مقابلة تلفزيونية مشتركة، مع قنوات محلية في مدينة إسطنبول: “ليتهم يفعلوها ويوقفوا المفاوضات أو يبعدوا تركيا عن الاتحاد الأوروبي، ولكنهم لا يستطيعون لأنهم بحاجة إلى تركيا”.

ورغم أن تركيا الحديثة التي أسسها أتاتورك، جاءت وفقا لمعايير أوروبية، إلا أن الغرب لا يريد أن ينسى تركيا قاطرة الخلافة العثمانية.

_________________________________________________________________________________

 المصادر:

  1. أردوغان: جهاز خطير يقف وراء إرهابي نيوزيلندا
  2. تفاصيل جديدة عن زيارة سفاح نيوزيلندا لتركيا
  3. آيا صوفيا.. جدلية الكنيسة والمسجد والمتحف
  4. المشكلة القبرصية.. تفاعلات الجغرافيا والتاريخ
  5. وثائقي (ربيع تركيا.. نجم الدين أربكان)
  6. NETFLIX: FILM “GALLIPOLI”
  7. أردوغان: لن نتنازل عن استقلالنا كوننا أحفاد أبطال جناق قلعة
  8. جناق قلعة أكثر الانتصارات دموية عبر التاريخ
  9. العبارات على سلاح إرهابي كراست تشيرش
  10. أردوغان: الاتحاد الأوروبي لا يستطيع وقف مساعدته معنا لأنه يحتاجنا

(المصدر: موقع الاستقلال نت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى