
ما حكم إطلاق الرصاص على المتظاهرين السلميين؟
جواب على استفتاء مغربي.
أ.د. فضل بن عبد الله مراد
رئيس منصة الإفتاء اليمنية
أقول وصلني استفتاء من المغرب العربي في هذه النازلة الخطيرة وتفصيل هذه النازلة المعاصرة قد ذكرناه في كتابنا «القواعد الأم للفقه وأثرها في الصناعة الفقهية المتقدمة والمعاصرة» (ص492):
وهذه نازلة مستجدة وأنقل هنا ما قررناه وأفتينا به:
الأوامر في قتل المتظاهرين السلمين وحرمة الطاعة فيها ومن أطاع فهو قاتل عليه الضمان قصاصا أو دية.
وديانة لعنه الله وغضب عليه لارتكابه كبيرة موبقة من أكبر الكبائر
قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} [النساء: 93]
وقد قرنت بالشرك بالله وجعلت في المرتبة التالية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً} [الفرقان: 68-69]
ما حكم إكراه الجنود على قتل المتظاهرين، أو إعدام الأبرياء، لا يبرر بإجماع العلماء؛ لأن الإكراه لا يؤثر في القتل، وقد كتبت فتوى فيه هذا أنقلها لكثير فوائدها. ونصها: يحدث ويتكرر، وخاصة في بعض الدول العربية والإسلامية، أن عناصر من الجيش ومن الأجهزة الأمنية للدولة، تطلق النار على المتظاهرين السلميِّين، فتقتل بعضهم وتصيب بعضهم، وذلك بحجة تنفيذ الأوامر وطاعة أولي الأمر، وحفظ النظام والأمن العام ..
فهل يجوز هذا شرعًا؟
وهل إقدامهم على قتل المتظاهرين، أو إصابتهم بجروح وعاهات، بواسطة السلاح الناري، سواء فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، أو طاعة لرؤسائهم، أو بدعوى حفظ الأمن، أو بدعوى الدفاع عن النفس، هل ذلك يبرئ ذمتهم، ويعفيهم من المسؤوليات المدنية والجنائية، الدنيوية والأخروية؟
ما قولكم رحمكم الله ونفع بكم؟
قال أبو زكريا فضل بن عبد الله مراد
نقول مستعينين بالله:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فالجواب على ما تفضلتم به، هو:
أن أي اعتداء بقتل، أو جرح على المتظاهرين السلميِّين أمر محرم؛ لأن حفظ النفس من القواطع التي جاء بها التشريع الكريم، نصوصًا ومقاصدًا.
1 – {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
العلة المعلق بها الحكم في هذه الآية هي العمدية، وتحقق العمدية بآلة قاتلة على مسالم، والمتظاهر مسالم، وقاتله بآلة القتل متحقق فيه العمدية الواضحة، فشمله هذا الوعيد.
2 – {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178].
وهذه فريضة مكتوبة واجبة التنفيذ، كما يفيده لفظ (كتب) وعامة في كل القتلى، كما يفيده عموم (ال) ..
ولم يخص الشرع منه إلا قتل الخطأ، فلا قصاص فيه، وخص منه قتال الباغي من الفئتين بعد الصلح ..
فمن تعمد قتل متظاهر سلمي فمتحقق فيه فرض هذه الآية، وهو القصاص ومن تعلق بما ينقض هذا الأصل من التوهمات فقد ارتكب جرمًا عظيمًا إلى جريمة القتل، وهو تحريف معاني النصوص وتخصيصها وتأويلها بطوارف الأهواء.
فعموم قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93].
يشمل قتل المتظاهرين السلميِّين بلا شك.
ويجري فيه القصاص المفروض بقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وفي قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
وفي قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) صحيح البخاري (1/ 24)..
والنصوص في الباب كثيرة بالغة حد القطع.
ولم يأت نص باستثناء صورة في العمد، ولا تخصيصها إلا في حالة دفع الصائل عن نفس، أو عرض.
ومعلوم أن الصائل هو المعتدي القاصد العدوان على النفس، أو المال، أو العرض.
وهذا المناط ليس في المتظاهرين، ولا في أهدافهم، ولا مطالبهم
سواء في البلدان التي تقنن حق التظاهر السلمي، أو التي تمنعه؛ لعموم عصمة النفس وحرمة الدماء.
وقد أصبح التظاهر عرفًا عالميًا، بل وتشريعًا دستوريًا وقانونيًا.
فالحاكم حين يتولى إنما يتولى بعقد فيه اشتراطات معلومة، منها حقوق الشعب في التعبير عن الرأي، والتظاهر السلمي.
فإن اعتدى على المتظاهرين، فقد أخل بالعقد، وأهدر النفس المعصومة فارتكب جنايتين.
جناية متعلقة بالعقد الدستوري، وجريمة جسيمة متعلقة بهدر الدماء، وعصمة الأنفس، والأموال، والأعراض.
3 – من أُمِرَ من الشرطة والجنود بقتل المتظاهرين، أو العدوان عليهم، فلا يجوز له أن يطيع في ذلك ..
وذلك لأن طاعة الدولة إنما هي طاعة تبعية مشروطة، وطاعة ولي الأمر طاعة تبعية مشروطة، وطاعة الله ورسوله هي الأصل، وهي طاعة مطلقة، فلا تعارض أصلًا بين طاعة الله ورسوله، مع طاعة الولاة.
لأن التابع لا يعارض الأصل، بل يسقط مباشرة عند التعارض، فطاعة الحكام تسقط عند تعارضها من نصوص الشرع وقواطعه.
ولهذا قعد الفقهاء قواعد شرعية للطاعةن فمما لا خلاف فيه:
«أن طاعة الإمام لا تجب على الخلق إلا إذا دعاهم إلى موافقة الشرع» فضائح الباطنية للغزالي (1/ 206)..
دل على هذا نصوص كثيرة منها: ما في صحيح مسلم (3/ 1469): عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع، ولا طاعة».
وأخرج مسلم عن أم الحصين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: “إن أمر عليكم عبد مجدع – حسبتها قالت: أسود – يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا “. مسلم (3/ 1468)
فشرط الطاعة هو أن يقود الناس بكتاب الله، فما خالف كتاب الله من التشريعات، أو الأوامر، فهي باطلة لا طاعة لأحد فيها.
فعقد الولاية شرطه الأمر وفق أمر الشرع والوقوف حيث وقف الشرع فمن نقض ذلك، فلا طاعة له؛ لأنه نقض الشرط الموجب لها.
وهذا ما يقوم عليه العقد السياسي في الإسلام وما إليه ذهب كافة العلماء ف “إنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوزون طاعته في معصية الله، وإن كان إمامًا عادلًا”. منهاج السنة النبوية: ج 3/ 387، لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ولهذا نص ابن عبد السلام أنه لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء، حتى يعلم أنه موافق للشرع، وذلك؛ لأن هؤلاء تختلط أوامرهم، وأقوالهم بالحق، والباطل، وقد جاء في الحديث: «اتخذ الناس رؤساءً جهالًا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
فطاعة هؤلاء الجهلة على إطلاقها ضلال، بل لابد من معرفة موافقتها للشريعة، حتى إذا علم موافقتها للشريعة أطيع، وإلا فلا.
قال العز: «لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون في الشرع» قواعد الأحكام (2/ 134).»
بل شدد فقهاء المذاهب الأربعة، حتى في المسائل التي فيها خلاف سائغ، لكن المأمور يرى الحرمة، فقالوا: لا يجوز له الإقدام عليه، ولو أمره السلطان، وإلا فإنه يتحمل المسؤلية والتبعة.
قال فقهاء الشافعية:أن من استدعاه السلطان الحنفي أن يشهد أن فلانًا المسلم قتل فلانًا الذمي أنه: «ليس له أن يشهد عند حنفي على مسلم بقتل كافر؛ لأنه يقتل به».الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 310).
وكذلك لو أمر القاضي الحنفي الجلاد أن يقتل ذلك المسلم لأجل قتله الكافر والجلاد شافعيٌ، فلا تجوز له طاعته «وحرم عليه، وقُتِل به وضمنه».
وكذلك لو أمره السلطان بقتل رجل يرى السلطان استحقاقه للقتل، والمأمور لا يرى ذلك.
فقتله استحق القصاص فيقتل المأمور قصاصًا؛ لأنه غير معذور. الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 310).
وفي الفقه الحنبلي: «لو أمر السلطان أحدًا أن يقتل مسلمًا قَتَلَ ذميًّا، أو حرًا قتل عبدًا والسلطان يراه في مذهبه، والمأمور يرى عدم حله فليس عليه طاعة، ولو أطاعه، فهو آثم ضامن، وإن كان العكس ضمن السلطان». انظر: المغني لابن قدامة (7/ 757)وانظر: كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي (5/ 519)، والمغني لابن قدامة: (9/ 480).
وفي المذهب المالكي: «إن دعاك جائر إلى قطع يد رجل في سرقة، وأنت لا تعلم صحة ذلك إلا بقوله، فلا تجب إلا أن تعلم عدالة البينة فعليك طاعته لئلا تضيع الحدود».التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق (8/ 91).
وفي المذهب الحنفي: في الفتاوى الهندية: «وإذا ادعت المرأة على زوجها أنه أبانها بثلاث، أو بواحدة فجحد الزوج فحلفه القاضي، فإن علمت أن الأمر، كما قالت لا تسعها الإقامة معه، ولا أن يأخذ ميراثها». الفتاوى الهندية: (3/ 352)، طبعة دار الفكر.
فهذه النقول في المسائل السائغ فيها الخلاف، فكيف بما لا يسوغ فيها خلاف كقتل مسلم مسالم خرج متظاهر لا معتديًا، ولا خارجًا بقتال، ولا مخالف لدستور، ولا لقانون، فهذا لا تأويل لأحد في قتله، أو جرحه.
4 – لا عذر لأحد بالإكراه في الدماء.
وقد يقول قائل إن الجندي مكره في القتل فالجواب لا إكراه في القتل بإجماع العلماء، حتى لو كان الإكراه ملجئًا وهدد الجندي في نفسه، أو في عرضه، أو بحبسه، أو فصله، فلا يجوز له الاقدام على القتل.
قلت هذا إن قلنا إن المسألة فيها إكراه ملجيء، وإلا فالحق أن الجندي لا يكره إكراهًا ملجئًا، فغاية ما يصنع بمن خالف الأوامر أن يفصل، أو يعاقب بالسجن، ثم يخلى سبيله.
ولا يعتبر هذا من الإكراه الملجئ.
ولو فرضنا أنه أكره إكراها ملجئًا، فلا عذر له بإجماع.
قال ابن العربي: لا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره على القتل، أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره، ويلزمه الصبر على البلاء الذي نزل به، اه أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي (3/ 160).
ومن قواعد الشريعة العظيمة: (لا يزال الضرر بالضرر).
ومن فعل ذلك فعليه القصاص، وقد ارتكب موبقة جسيمة من كبائر الذنوب.
قال الإمام الشافعي في الأم:ولو أن المأمور بالقتل كان يعلم أنه أمره بقتله ظلمًا كان عليه وعلى الإمام القود، وكانا كقاتلين معًا، انتهى. الأم للشافعي (6/ 44).
وفي حالة الإكراه الملجئ لو أقدم الجندي على قتل المتظاهر فقد أفتى مالك بالقصاص عليه وعلى من أكرهه، وهذا مذهب الحنابلة وقال به الشافعي على تفصيل وقال أبو حنيفة يقتل من أكرهه انظر ابن قدامة في المغني (8/ 266 – 267).
.
فإن كان هذا التشديد في حالة الإكراه الحقيقي الملجيء ففي الحالات الأخرى القصاص بلا خلاف.
والحقيقة أن واقع تصرفات الشرطة والجهات الأمنية والجيشفي قمع المتظاهرين لا يدخل تحت الإكراه الملجئ، بل هو من البغي والعدوان الموجب للتجريم والتأثيم والقصاص.
ولا ينفع هنا جهل، فتحريم قتل النفس المعصومة والعدوان عليها معلوم من الدين بالضرورة، فلا يعذر أحد بجهله.
والحاصل أن العدوان على المتظاهرين بقتل، أو جرح تحت أي ذريعة محرم شرعًا يلزم منه الضمانلعموم الأدلة القاضية بذلك ولم يأت في الشرع ما يدل على استثناء شيء من ذلك، ولا على الترخيص في طاعة الأوامر الصادرة من الجهات الأمنية بقتل متظاهر فمن أقدم على ذلك فقد ارتكب جريمة جسيمة وحمل في عنقه دم مسلم ولزم فيه القصاص.
وبالله التوفيق.
قاله بفمه وخطه بقلمه:
أ.د. فضل بن عبد الله مراد
رئيس منصة الإفتاء اليمنية.